هذا ما كنا نخشاه، وهذا ما نبهنا إليه وحذرنا منه ودعونا إلى تجنب مخاطر تحويل العراق أو جعله ساحة مباشرة للصراع الأمريكي – الإيراني وموقعاً أمامياً للمواجهة وتصفية الحسابات بينهما على حساب الشعب العراقي وقضاياه العادلة، وتجاوزاً فظاً من جانب الطرفين على استقلال العراق وسيادته وحرمة أراضيه وحياة سكانه. لم يكن في أجندة البلدين الطامعين بالعراق احترام إرادة الشعب ومصالحه وتطوره واستقلال قراراته، بل كان وما يزال وسيبقى همهما الأول والأخير مصالح بلديهما وسبل الهيمنة على العراق ومنطقة الخليج وعموم الشرق الأوسط.
منذ سنوات والشعب العراقي يدين سياسة البلدين ونهجهما الحامل للمخاطر الكبيرة والجدية على حياة ومصالح الشعب ويحتج عليهما ويتظاهر وينتفض ويطالب الدولتين بإيقاف نهجيهما العدوانيين وتصفية حساباتهما على الأرض العراقية، وهو ما كان ولا يزال يفعله بقوة وإصرار صادقين. ولم تكن هناك أذن صاغية. فالشعب المنتفض لا يمكنه أن يوقف تحويل بلاده إلى ساحة صراع أو إيقاف التدخل في شؤونه الداخلية والعدوان عليه، إذ إنها من المهمات الأساسية والمركزية للحكومة العراقية ومجلس النواب ورئاسة الدولة المركزية ومسؤولياتها المباشرة. ومن يتابع مجرى الانتفاضة الشعبية منذ ثلاثة شهور يدرك الضغط الكبير الذي يمارسه المنتفضون والمنتفضات على السلطات الثلاث لتغيير هذا الواقع المزري ويطالب بالتغيير الكامل لنهج الدولة والحكم ومجمل العملية السياسية الفاسدة والمشوهة. ولكن الحكومات العراقية المتعاقبة المصابة بالاغتراب الشديد عن إرادة الشعب ومصالحه ومستقبل أجياله لا تريد أن تصغي لصوت الشعب ولطخت أيديها بدماء الشبيبة العراقية المقدامة. وهذا النهج التدميري الإجرامي للطغمة العراقية الحاكمة قد أدى إلى ما نحن عليه اليوم حيث تفاقم الصراع والنزاع الأمريكي – الإيراني على الساحة العراقية.
فالحكومة العراقية، التي يقودها المستبد بأمر إيران، لم توقف اعتداءات الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران على المواقع العسكرية العراقية التي فيها جنود أو خبراء أمريكيون رغم التحذيرات الكثيرة التي قُدمت للعراق ومطالبة الحكومة باتخاذ ما يلزم لوقف هذه الاعتداءات. وآخر اعتداء وقع في معسكر “كي وان” وقاد إلى قتل ثلاثة أشخاص (أمريكي وعراقيين)، مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانتقام وتوجيه ضربة موجعة ضد لوائي 45 و46 على الحدود العراقية السورية وقتل وجرح ما يقرب من 100 شخص من ميليشا حزب الله التابع لإيران والذي يشكل جزءاً أساسياً من الحشد الشعبي. وإذا كان الفعل الإيراني الأول عبر الميليشيات الطائفية المسلحة وحشدها الشعبي تدخلاً فظاً في الشأن العراقي الداخلي وخوض الصراع ضد الولايات المتحدة في البلاد، فأن القصف الأمريكي لميليشيا حزب الله يعتبر هو الآخر تدخلاً فظاً وتجاوزاً على سيادة العراق الفاقد عملياً للسيادة منذ فرض الاحتلال الأمريكي، ثم هيمنة إيران الكاملة منذ العام 2010 على الدولة العراقية. إن قصف ميليشا حزب الله وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى دفع بالحشد الشعبي وميليشياته إلى تنظيم تظاهرة حشدية ضد السفارة الأمريكية وبموافقة الحكومة العراقية التي لم تمنع أجهزتها الأمنية من دخول المحتجين المتظاهرين إلى المنطقة الخضراء ثم الاعتداء على السفارة ومكاتب الاستعلامات وتدمير ما فيها وحرقها. وأظهرت مظاهرة الحشد مضمون هتافات المشاركين فيها والشعارات التي كتبت على جدران السفارة بأن هذا الجزء المشارك في المظاهرات ليس عراقياً بل تابع لإيران وأنه يقاد من الجنرال الإيراني قاسم سليماني، إذ كانت الشعارات “امريكا برة برة، إيران تبقى حرة، قائدنه سليماني“، كما كُتب على الجدران “سليماني قائدي“. ويبدو إن الرسالة الاستفزازية وصلت إلى الإدارة الأمريكية، فقرر ترامپ، على طريقته الخاصة والتيي تغيب عنها أية إستراتيجية سياسية عقلانية، الانتقام من الاعتداء على السفارة الأمريكية وممن اعتبر قائداً للحشد الشعبي العراقي وقائداً لفيلق القدس، فكانت الضربة الصاروخية المميتة التي وجهت لعربتين تحملان الجنرال قاسم سليماني وبعض الضباط الإيرانيين الآخرين وبعض قادة الحشد الشيعي، ومنهم أبو مهدي المهندس ومحمد رضا الجابري…، بعد خروجهم من مطار بغداد، فاحترقتا بمن فيهما. وتشير المعلومات التي تناقلتها الصحف العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي إلى وصول معلومات إلى الرئيس الأمريكي من وكالة المخابرات المركزية بوجود حالة استنفار في الحشد الشعبي يقودها قاسم سليماني تتجه صوب القصر الجمهوري لفرض رئيس وزراء تريده الطغمة الفاسدة، أو قتل رئيس الجمهورية وإعلان تشكيل حكومة جديدة بقيادة أسعد العيداني، والذي يعد انقلاباً عسكرياً حشدياً (إيرانياً) ومن ثم تقوم الحكومة الانقلابية بقمع الانتفاضة الشعبية بكل قسوة وتطرف. وتشير المعلومات بأن الفرق بين الضربة الأمريكية لموكب قاسم سليماني وساعة الصفر كان ساعة واحدة لا غير. نحن أمام اعتداء إيراني في الداخل العراقي وعلى أيدي عراقية على السفارة الأمريكية، وهو تدخل فظ بالشأن العراقي وضد سفارة أجنبية في المنطقة الخضراء المحمية من الحشد الشعبي الذي يقوده الجنرال قاسم سليماني من جهة، ورد فعل شديد القسوة والحساسية لإيران ضد أقوى ثاني رجل في الدولة الفارسية على الأرض العراقية، وهو تدخل فظ أيضاً. وبالتالي، تحول العراق بفعل نهج وسياسات ومواقف الدولة العراقية الهشة بسلطاتها الثلاث، إلى ساحة للصراع الإقليمي الدولي الأمريكي–الإيراني. والذي ستكون له تداعيات على العراق ذاته وقبل غيره.
ليس فينا من لا يعرف من هو قاسم سليماني، قائد فيلق القدس المسؤول عن عمليات التدخل السياسي والعسكري في دول منطقة الشرق الأوسط، والدور الذي لعبه منذ أعوام في السياسات الداخلية والخارجية للدولة العراقية في فترات حكم الجعفري، والمالكي، لاسيما في عام 2011 وضد الهبة الشعبية ضد حكومة المستبد في العراق بأمر إيران، وثم العبادي، وأخيراً في حكومة المنتفگي وفي قيادة الميليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي والمسؤول عن قيادة الدولة العميقة والإشراف عليها في العراق، وتسبب، ومن معه من قيادات عسكرية رسمية وغير رسمية، بسقوط ما يزيد عن 500 شهيد، حسب الإحصاء الرسمي، وأكثر من 1000 شهيد حسب واقع الحال، وأكثر من 30000 جريح ومعاق خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عمر الانتفاضة الشعبية الباسلة ضد الطغمة الحاكمة، رغم سلمية المنتفضين والمنتفضات ورفضهم الرد بالمثل على قوى الأمن الداخلي أو على القتلة من أفراد الميليشيات الطائفية المسلحة وقوى معينة في الحشد الشعبي.
إن ما يجري في العراق يجسد في واقع الحال ما يلي:
-
تبرهن الطغمة الحاكمة إنها مسيرة وتابعة وغير قادرة على حماية الشعب العراقي وسيادة العراق من التدخلات الخارجية، وأنها طغمة حاكمة فاسدة ومفسدة وخاضع لقرارات خارجية لا بد من الخلاص منها ومن مجمل العملية السياسية المشوهة.
-
وأن نهج الدولة العراقية وسياسة الحكم هما من سمحا مع سبق إصرار على جعل العراق ساحة للصراع الإقليمي والدولي والمواجهة بين الولايات المتحدة والدولة الإيرانية وعلى حساب مصالح الشعب العراقي.
-
وأن الدولة الإيرانية تهيمن حالياً على العراق كما أنه شبه مستعمرة لها بسبب الجيش الموازي للجيش العراقي، أي بسبب وجود الدولة العميقة المتمثلة بالميليشيات الطائفية المسلحة وقيادة الحشد الشعبي ذات الولاء المطلق لولي الفقيه علي خامنئي في إيران.
-
وأن الدولتين الإيرانية والعراقية لا يعيران لإرادة ومصالح الشعب العراقي ولا يحترمان استقلاله وسيادته الوطنية، بل يتنافسان ويتصارعان وهمهما يتلخص بالسيطرة الكاملة على العراق وموارده الأولية والمالية وإخضاع سياساته لمصالحهما في المنطقة.
-
إن ما حصل في العراق خلال الفترة الأخيرة يؤكد من جديد بأن الدولتين تخوضان صراعاً يستهدف تصفية حسابات بينهما على الأرض العراقية وعلى حساب الشعب العراقي، ولن يخوضا في الغالب الأعم حرباً مدمرة بينهما، بل سيسعيان إلى إيجاد لغة مشتركة ومساومة لاحقة بينهما على حساب العراق ومصالحه الأساسية أيضاً، كما أنه سيكون على حساب شعوب المنطقة، ومنها الشعب الإيراني ذاته.
-
إن المهمة المباشرة أمام الشعب العراقي هي مواصلة انتفاضته الباسلة للخلاص من الطغمة الطائفية الفاسدة المهيمنة على الدولة العراقية والمسيرة خارجياً والتي تتلاطمها أمواج الصراع الإقليمي والدولي وضحيتها هو الشعب في وادي الرافدين. وأن المهمات التي رفعها المنتفضون والمنتفضات ما تزال تحتفظ بحيويتها وأكثر من أي وقت مضى، وأن على من يريد إقامة دولة ديمقراطية مستقلة ومجتمع مدني ديمقراطي الدعوة للخلاص من كل أشكال الوجود والتأثير الخارجي لصالح الإرادة الوطنية والسيادة العراقية.
-
كما إن من واجب كل القوى الوطنية والديمقراطية العراقية الدعوة إلى تقوية الجيش العراقي وتطهيره من القوى الطائفية التي تصدت للانتفاضة الشعبية بأمر من قوى غير عراقية والدعوة إلى حل جميع الميليشيات الطائفية المسلحة وكذلك الحشد الشعبي وإنهاء دوره العسكري، لأنه ملغم بقيادات الميليشيات المسلحة ذات الولاء التام لإيران.
-
إن من واجب المجتمع الدولي، لاسيما مجلس الأمن الدولي والهيئة العامة للأمم المتحدة والجامعة العربية، والرأي العام العربي والعالمي العمل على تهدئة الأوضاع بين الدولتين المتصارعين وإبعاد صراعهما الراهن عن الأرض العراقية، بهدف حماية السلام في منطقة مشتعلة أصلاً. فالمنطقة
برميل مثقل بكمية هائلة من البارود القابل للاشتعال ولا يحتاج إلا إلى ديناميت يرمى عليه، من أحدى الدولتين في لحظة يغيب عنهما الوعي الإنساني وتسيطر لغة القوة والحرب بدلاً من الحوار والدبلوماسية!