حقق مقتل قاسم سليماني التوقعات التي كانت تتحدث عن الذهاب باتجاه تحول العراق إلى ساحة صراع بين الولايات المتحدة وإيران، وكان نتاجاً لتهديدات وضربات متبادلة لمواقع عسكرية في داخل العراق وسوريا.
مقتل سليماني برفقة أبرز الزعامات المليشياوية في العراق؛ أبو مهدي المهندس، وعدد من رفاقهما كان أثره مدوياً؛ فالأول يعتبر من أهم وأبرز الشخصيات الإيرانية، ومقرب من المرشد الإيراني علي خامنئي، وهو العقل المدبر لسياسات إيران العسكرية في الخارج.
دور سليماني كان يعبر عن الدور الإيراني المؤثر بشكل كبير في العراق، لا سيما ما كشفت عنه وكالة “رويترز”، مطلع نوفمبر الماضي، بأن إيران تدخلت لمنع الإطاحة برئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، وسط المظاهرات التي تفجرت منذ أسابيع احتجاجاً على أداء الحكومة.
وذكرت أنه في اجتماع سري عُقد ببغداد، يوم الأربعاء 29 أكتوبر الماضي، تدخَّل قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، وطلب من العامري وقيادات الحشد الشعبي الاستمرار في دعم عبد المهدي، حسبما ذكرت خمسة مصادر على دراية بما دار في الاجتماع.
وأكد مسؤول أمني إيراني أن سليماني كان حاضراً في هذا الاجتماع، وقال إنه كان موجوداً “لإسداء النصح”.
وقال المسؤول الإيراني الذي طلب عدم الإفصاح عن هويته، إن الأمن العراقي “مهمٌّ بالنسبة لنا، وقد ساعدناه من قبل. قائد فيلق القدس يسافر إلى العراق ودول أخرى بالمنطقة من آنٍ إلى آخر، خاصة عندما يطلب منا حلفاؤنا العون”.
في هذا الخصوص أيضاً كشفت وكالة “أسوشييتد برس” الأمريكية عن حضور قاسم سليماني اجتماعاً أمنياً عراقياً بدلاً من رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي، وهو ما شكَّل مفاجأة للمسؤولين الحاضرين، وتعهد سليماني، بحسب الوكالة، بقمع التظاهرات.
تلك الصورة لسليماني تؤكد خطورته وأهميته، وهي لم تكن غريبة عن العراقيين الذين يعلمون قوته وتأثيره في بلادهم، وهو ما عبروا عنه في مظاهراتهم من خلال حرق صوره وإهانتها بضربها بالأحذية.
ولا يخفى أن لسليماني علاقات متينة مع قيادات سياسية في السلطة، ومليشيات لها سطوة كبيرة في البلاد يعتبر قاداتها مقربين منه، ومنهم أبو مهدي المهندس الذي قتل معه، وهادي العامري، وقيس الخزعلي، وأبو ولاء الولائي، وحامد الجزائري، وآخرون.
حكومة العراق.. ردود فعل باهتة
ومع اشتعال فتيل الأزمة وتحول العراق إلى ساحة للصراع عقب مقتل سليماني، جاءت تصريحات الرئاسات في العراق باردة، وذهبت إلى التحذير من العواقب، والمطالبة بضبط النفس والتهدئة، خلاف المليشيات التي هددت برد قوي على الأمريكيين.
إذ دعا الرئيس العراقي برهم صالح جميع الأطراف، في بيان، “إلى ضبط النفس وتغليب صوت العقل والحكمة وتقديم المصلحة الوطنية العليا”.
في حين دعا عادل عبد المهدي، رئيس حكومة تصريف الأعمال، في بيان، مجلس النواب إلى عقد جلسة استثنائية لتنظيم الموقف الرسمي العراقي، واتخاذ القرارات التشريعية والإجراءات المناسبة بما يحفظ كرامة العراق وأمنه وسيادته، حسب قوله.
أما رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، فوصف الحادث بأنه يعد “خرقاً سافراً للسيادة”، داعياً الحكومة العراقية إلى “اتخاذ الإجراءات والتدابير السياسية والقانونية والأمنية اللازمة لإيقاف مثل هذه الاعتداءات”.
في حين دعا قيس الخزعلي، قائد مليشيا عصائب أهل الحق العراقية المدعومة من إيران، مقاتليه للتأهب، قائلاً: “مقابل دماء الشهيد القائد أبو مهدي المهندس زوال كل الوجود العسكري الأمريكي في العراق. ومقابل دماء الشهيد القائد قاسم السليماني زوال كل إسرائيل من الوجود”.
العراق ساحة صراع أمريكا وإيران
مختصون بالشأن العراقي يرون أن العراق تحول إلى ساحة صراع بين إيران والولايات المتحدة، ويتفقون على أن الجهات الحكومية التي تدير البلاد ضعيفة أمام سطوة طهران التي لها قدرة على التأثير في القرار السيادي.
ويؤكد المحلل السياسي العراقي إياد الدليمي أن العراق سيكون “الأكثر تأثراً”، مشيراً إلى أن من أهم الأسباب التي تجعل بلده تحت تأثير الأحداث أن “العملية السياسية تعيش حالة انسداد غير مسبوقة”.
وأضاف في حديثه لـ”الخليجي أونلاين”: إن “تأثيرات مقتل سليماني وأي تصعيد محتمل بين إيران وأمريكا قد تؤدي إلى حالة فوضى في المشهد العراقي، وربما تكون فاتحة عهد لتدشين مرحلة سياسية جديدة مختلفة”.
واستطرد الدليمي يقول: “العراق ومنذ انسحاب القوات الأمريكية منه (في 2011) كان بالفعل ساحة لأي تصعيد أمريكي إيراني، ومكاناً لصراع النفوذ والأجندات”.
وبين أن “اختيار العراق ليكون مكاناً لتصفية سليماني بالتأكيد كان لإيصال رسالة واضحة لطهران بأن العراق لا يمكن أن يبقى خالص النفوذ لإيران”.
ويرى الدليمي أن من الممكن أن تلجأ إيران للرد بعيداً عن الساحة العراقية، مستدركاً: “ولكن أقوى أذرع إيران الخارجية موجودة بالعراق، ومن ثم سيكون هو المكان الأنسب للرد الإيراني، على الأقل في المدى المنظور، دون أن ننسى طبعاً أن لدى إيران القدرة على الرد في أماكن أخرى”.
ويجد الدليمي أن “العراق السياسي يمر بأسوأ مراحله”، واصفاً الموقف الرسمي بأنه “مهزوز وضعيف يعكس حالة الضعف التي تمر بها العملية السياسية”.
وقال: “دون أن ننسى تصريح وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، بأن حديث المسؤولين العراقيين في السر غير حديثهم في العلن؛ بمعنى أنه قد تكون هناك رغبة رسمية عراقية بتصفية سليماني والمهندس، خاصة بعدما تردد من تدخلهم السافر في عملية اختيار رئيس وزراء خلفاً لعبد المهدي”.
العراق أكثر الميادين دموية
ولا يختلف رأي المحلل السياسي العراقي جاسم الشمري عن مواطنه الدليمي حول التهديدات التي يواجهها العراق.
وقال لـ”الخليج أونلاين”: إن “العراق ساحة للصراع المقبلة والسابقة أيضاً بين أمريكا وإيران”، مشدداً القول بأنه في حال وقعت بعض المواجهات بينهما فإن “الميدان العراقي سيكون أكثر الميادين دموية أو دراماتيكية بين الفريقين”.
وأضاف: “أرى أن الخاصرة العراقية هي الأكثر ضعفاً التي يمكن اختراقها من قبل الإيرانيين، على خلاف بقية المناطق، وهو ما يدعو إيران لاختيار العراق للرد على الضربات العسكرية المتوالية”.
واستشهد الشمري بتقرير نشر في آخر عدد لصحيفة فايننشال تايمز، رجحت فيه أن تلجأ إيران لاستهداف مصالح أمريكية تنفّذها كيانات موالية، أو عبر تنفيذ هجمات إلكترونية، وهذه قد لا تكون في القريب العاجل، والعراق سيكون مسرحاً للمواجهات، ما يجلب الخراب والدمار للبلاد، بحسب قوله.
ويصف الشمري القيادة العراقية بأنها “مغلوب على أمرها من أكثر من جانب”، مبيناً أنه داخلياً هناك “سطوة المليشيات الحاكمة بالعراق”.
فضلاً عن هذا فإن الحكومة العراقية -بحسب الشمري- لا تملك القدرة على اتخاذ أي قرار؛ بصفتها حكومة تصريف أعمال، ولا على مستوى البرلمان؛ على اعتبار أن رئيس البرلمان هو الأضعف لعدم امتلاكه كتلة نيابية كبيرة.
وأضاف: “وعليه فإن الكتل الكبيرة هي التي تتحكم بالبرلمان العراقي، ولهذا يتوقع أن تكون ردود الأفعال ضعيفة وهشة، وهذا طبيعي جداً بسبب وجود اللادولة في العراق”.
وتابع: “أما خارجياً فمعلومة سطوة الطرف الثالث على القرار العراقي، وهم يحاولون دغدغة الطرف الثالث من أجل عمل موازنة، ربما هم ينظرون إلى أنها صحيحة بين واشنطن وطهران”.
ووفق قوله فإن “القيادة الناجحة هي التي تمتلك إرادة وطنية تفرض على الأجانب أن يسعوا من أجل تطوير العلاقات معها”.
في حين أن العراق، بحسب المحلل السياسي العراقي، “يفتقر إلى قيادة وطنية تمتلك الجرأة على أن يكون لها موقف واضح وقدرة على اتخاذ قرارات”.
وأعرب الشمري عن أمله بأن توجد “مظاهرات تشرين” التي تعيشها البلاد، منذ أكتوبر الماضي، “قيادة عراقية بعيدة عن القتلة والمجرمين، يمكن أن توصل العراق لمصاف الدول التي لها وجود على مستوى المنطقة، خلاف الوضع الحالي الذي أصفه دائماً بأنه حالة غيبوبة”.