ما أن سُرقت ثورة الشعب الإيراني وكادحيه ومنتجي خيراته وقواه السياسية الديمقراطية من قبل روح الله مصطفى الموسوي الخميني (1902-1989م) وبقية فئة شيوخ الدين الإيرانية وقوى الإسلام السياسي المتطرفة في عام 1979 حتى برزت على سطح الأحداث وجهة ومضمون السياسة الإيرانية الجديدة في الشرق الأوسط والعالم بوضوح وتبلورت في نزعتين ذات مضامين فكرية وسياسية خطرة لا تخطئها العين: أولاً، الرغبة الجامحة في التوسع الإيراني صوب منطقة الخليج والشرق الأوسط بأمل إعادة بناء الإمبراطورية الفارسية ودورها في المنطقة وعلى الصعيد الدولي؛ وثانياً، الجموح المخل والخطر في تصدير “الثورة الإيرانية، أي تصدير المذهب الشيعي الصفوي في الإسلام إلى دول العالم الإسلامي وحيثما وجد مسلمون في العالم وبكل السبل والأدوات المتوفرة. وكان وراء هاتين النزعتين التوسعيتين هدف أساسي ومركزي هو فرض الهيمنة الإيرانية المباشرة على سياسات ودول المنطقة واستعادة ما تدعي أنه كان جزءاً من الإمبراطورية الفارسية القديمة، وتأمين “المصالح الاقتصادية والنفوذ السياسي والعسكري والأمني الحيوي” للبرجوازية الكبيرة الإيرانية في المنطقة، تلك المصالح التي تشابكت بسرعة بمصالح الشريحة العليا من فئة شيوخ الدين، هذه الفئة الاجتماعية الطفيلية الواسعة التي تعيش على حساب مصالح الفئات الاجتماعية الأخرى والاقتصاد الوطني. ولم تكن رغبة التوسع والهيمنة جديدة لدى حكام إيران، بل كانت منذ فترة حكم شاه إيران محمد رضا بهلوي، وبسببها حصل الاجتياح الإيراني لجزر “أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى” واحتلالها حتى الآن. وهيأ هذا الاتجاه الأرضية للمنافسة شديدة بين دول المنطقة، لاسيما تركيا والسعودية ومصر والتي جرت فيما بعد دولاً أخرى ارتبطت بتحالفات مؤقتة ومتغيرة وموجهة عموماً ضد شعوب ومصالح دول المنطقة.
لم يكن روح الله الخميني قد ثبَّتَ أقدام الدولة “الإسلامية!” على الأرض الإيرانية حتى بدأ مباشرة بدعم قوى الإسلام السياسية في العراق وتأهيل عناصرها للقيام بعمليات إرهابية ضد نظام البعث الدكتاتوري، ومنها التفجير الذي حصل قرب الجامعة المستنصرية في شهر نيسان عام 1980 حين وجود طارق عزيز فيها ولم ينجحوا في ذلك، والتي استخدم الدكتاتور صدام حسين هذا الحادث بعد عدة شهور لإعلان الحرب على إيران. (راجع: د. عبد الجبار منديل، تفجيرات الجامعة المستنصرية ومحاولة اغتيال طارق عزيز – ذكريات شخصية، الحوار المتمدن، 13/5/2008). وكانت عواقب التدخل في الشؤون الداخلية العراقية ورغبة إيران في وصول قوى الإسلام السياسي المتعاونة مع إيران إلى السلطة نشوب حرب دموية مدمرة دامت ثماني سنوات عجاف أدت إلى خسائر هائلة بالأرواح والممتلكات والأموال وتدمير للمواقع الثقافية والحضارية في البلدين. وفي العام ذاته، وبسبب عدم تحمل الخميني عواقب الحرب وعجز قواته عن تحقيق النصر النهائي في تلك الحرب قال في حينها، بعد أن أُجبر على إيقاف الحرب، “لقد تجرعت كل السم”، ثم توفى حسرة على عدم وصول أتباعه الإسلاميين إلى حكم العراق حينذاك! وبدلاً من أن تستفيد الطغمة الحاكمة الطائفية الفاسدة في إيران من عواقب ودروس تلك الحرب المديدة والتخلي عن تصدير الثورة إلى البلدان الأخرى، بادرت إلى تشكيل فيلق القدس “سپاه قدس” العسكري من صفوف قوى الحرس الثوري الإيراني، باعتباره الفيلق الذي من شأنه المشاركة في تصدير الثورة الإسلامية الشيعية الصفوية الإيرانية إلى دول الخليج وعموم الدول ذات الأكثرية المسلمة. جاء تشكيل فيلق القدس في أعقاب الحرب العراقية-الإيرانية أي بحدود عام 1990/1991 ووضع له المشرعون مهمات مباشرة يمكن تلخيصها بما يلي:
المساعدة في دعم السياسة الخارجية الإيرانية الأمنية والعسكرية الهادفة إلى تصدير الثورة الإسلامية الصفوية إلى البلدان الأخرى.
تم تشكيل فيلق القدس بحجة تحرير مدينة القدس من احتلال إسرائيل لها.
أما الهدف الحقيقي فكان العمل على تشكيل ميليشيات مسلحة شبه عسكرية في الدول الأخرى وتدريبها لتمارس المهمات التي توكل إليها من قبل المرشد الإيراني الأعلى عبر فيلق القدس.
تأمين الموارد المالية والعسكرية لها وللميلشيات المسلحة في الدول الأخرى، وعلى غرار ميليشيا حزب الله في لبنان.
أن يكون المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران هو القائد والمسؤول عن فيلق القدس واختيار قائد عقائدي متطرف لها هو اللواء أحمد وحيدي (الملقب أحمد شريفي) (1958).
ولا بد من الإشارة إلى أن الحرس اثوري، وقبل تأسيس فيلق القدس بسنوات، قام على وفق تعليمات مباشرة من الخميني، في عام 1982 بتأسيس حزب الله وجناحه العسكري الذي ولد في إيران وأصبح لبناني الصورة إيراني الهوية والمصالح والأهداف.
ومنذ تأسيس فيلق القدس بشكل خاص بدأت عمليات تدريب عناصر من قوى الإسلام السياسي الشيعية على السلاح والدعوة الإسلامية و”الجهاد” من أجل الوصول إلى السلطة ونشر المذهب الشيعي الصفوي وعبر التعاون مع قوى الإسلام السياسي في دول الخليج والشرق الأوسط وبقية دول جنوب غرب آسيا، إضافة إلى الفلبين وحيثما وجد مسلمون شيعة. تولى اللواء أحمد وحيدي (الملق بأحمد شريفي) (1958) قيادة فيلق القدس منذ تشكيله حتى عام 1997 والذي عرف بتشدده العقائدي الصفوي وتطرفه العسكري والعمليات النوعية الإرهابية التي نفذها اتباعه والميليشيات التي شكلها أو دعمها. بعدها تسلم اللواء قاسم سليماني قيادة الفيلق ومارس عمله حتى قتله عبر صاروخ أمريكي في مطار بغداد مع مجموعة من العسكريين الإيرانيين والميليشياويين العراقيين في 02/01/2020. وإذا كانت فترة القائد الأول لهذه التشكيلة الإرهابية قد شهدت الكثير من العمليات الإرهابية والاغتيالات وإشاعة المشكلات بين الكثير من أتباع المذهبين الشيعي والسني في مناطق كثيرة من الدول ذات الأكثرية المسلمة وعمليات إرهابية كثيفة في الفلبين، فأن فترة القائد الثاني سليماني قد عمد إلى توسيع قاعدة الميليشيات المسلحة في المزيد من البلدان، لاسيما في لبنان وأفغانستان وسوريا والعراق واليمن والسعودية والبحرين. وهذه الميليشيات المسلحة بقيادة فيلق القدس تتحمل مسؤولية كبيرة جداً لما جرى ويجري في كل من سوريا والعراق ولبنان والبحرين وأفغانستان واليمن والسعودية والفلبين وباكستان وغزة، مع واقع وجود عوامل مساعدة لتلك العمليات بسبب السياسات غير الديمقراطية والاستبدادية لتلك الدول.
إن الضربة التي وجهت لإيران في قتل الجنرال قاسم سليماني، وهو الرجل الثاني فعلياً في إيران بعد خامنئي، والمستشار السياسي والعسكري والأمني المباشر لخامنئي على الصعيدين الداخلي والخارجي، كانت مباشرة وموجعة جداً تجاوزت فيها الولايات المتحدة الخطوط الحمر في العلاقات الدبلوماسية، باعتباره دبلوماسياً إيرانياً وجنرالاً عسكرياً. وكما هو معروف كان اسم سليماني على لائحة المتهمين المطلوبين في القائمة السوداء للولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر المسؤول الأول عن الضربات التي وجهت للأمريكيين في العراق وفي مناطق أخرى من العالم، إضافة إلى ضرب معسكر “كي وان” والهجوم على السفارة الأمريكية في العراق. والسؤال الذي يدور في بالي وبال الكثير من الناس هو، لماذا تم قتل هذا الرجل على الأرض العراقية، وكانت أمام ترامب فرصاً كثيرة لقتله في أماكن أخرى من العالم، سواء أكان في لبنان أم في سوريا مثلاً؟ في الإجابة عن السؤال تبرز الكثير من الاحتمالات والأهداف على وفق ما ورد على لسان الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين على الصعيد العالمي. في التحري عن الإجابة يقف الباحث أمام مسائل عقدية منها: الإحساس بحالة رثاء على شعبنا العراقي الذي يواجه إصراراً عجيباً من جانب الدولتين بجعل العراق ساحة مواجهة مباشرة بينهما على حساب إرادة ومصالح الشعب العراقي أولاً، كما من المخزي والمحزن أن نجد في العراق قوى إسلامية سياسية حاكمة ومتطرفة تريد أن يكون العراق طرفاً في هذا الصراع وساحة مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة ثانياً، من أجل إبعاد أو إنقاذ إيران من عواقب الصراع والنزاع المباشرين المحتملين على أرض إيران ذاتها. أي أنها مستعدة للتضحية بالعراق وشعبه لصالح إيران وشعبها، وهي في ذلك تمارس خيانة فعلية للشعب والوطن، أدركت ذلك أم لم تدركه!!!
إن قتل الولايات المتحدة للجنرال سليماني خارج أطر القانون الدولي وعلى أرض عراقية قاد عملياً إلى خلط كبير للكثير من الأوراق في العراق وشوش مباشرة وبقوة على انتفاضة الشعب الباسلة، وقدم هذا الفعل، شاء ترامب أم لا، في المحصلة النهائية خدمة كبيرة لقادة إيران الذين يحاولون الاستفادة من غضب الشارع العراقي، بسبب استخدام أمريكا للأرض العراقية في قتل سليماني وجعل الوطن المستباح أرضاً للمواجهة بين الدولتين، لصالحهم وضد الولايات المتحدة وضد المنتفضين!!!
إن عدالة وشرعية الانتفاضة ستتجاوز هذه المحنة والأزمة الجديدة لأن من يسمح بهذه المواجهة بين الدولتين على الأرض العراقية هي ذات الطغمة الطائفية المحاصصية الفاسدة التي تحكم العراق منذ العام 2003/2004 حتى الآن، وهي التي وفرت الغطاء الكامل لنشاط وفعاليات قاسم سليماني في العراق وفي قيادة الدولة العميقة بكل أجهزتها ومؤسساتها وقياداتها وأعوانها، إضافة إلى دوره في رسم سياسات ومواقف الدولة الرسمية وسلطاتها الثلاث أيضاً. وبالتالي فان هذه الأزمة المتفاقمة لن تحول دون تصاعد غضب الشارع العراقي وسلمية الانتفاضة ومواصلة النضال للتخلص من الطغمة الحاكمة ومن العملية السياسية الفاسدة والمشوهة، ومن النفوذ الإيراني والأمريكي والأجنبي عموما، وسوف لن يُكتب النصر للسفاح العراقي الخبيث رئيس وزراء تصريف الأعمال، عدل عبد المهدي.
لست ممن يفرح بقتل إنسان حتى لو كان عدوي المباشر وقاتل بعض أفراد عائلتي والكثير من أبناء شعبي، لأن القضاء هو المسؤول عن تحقيق العدالة، كما أرفض حكم الإعدام بكل أشكاله أساساً. ولهذا لم افرح بموت وبطريقة قتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وغيرهما، لاسيما وآن القتل حصل على أرض عراقية وتجاوز على سيادة البلاد المستباحة منذ سنوات كثيرة. ولكنني أشعر بالخزي لهؤلاء الحكام العراقيين الأوباش الذين لم تُسكب لهم دمعة واحدة على استشهاد ما يقرب من 1000 عراقي وعراقية وجرح ما يقرب من 30000 عراقي وعراقية على أيدي الميليشيات الطائفية المسلحة وبعض أجهزة الأمن العراقية العقائدية والمرتشية المؤيدة لقرارات صادرة عن فيلق القدس وقائده الجنرال قاسم سليماني، ولكنهم ذرفوا الدموع واللطم على الصدور على قتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، إنها المفارقة الصارخة التي تعبر عن طبيعة وهوية وولاء هؤلاء الحكام الأوباش الذين يحكمون العراق بالحديد والنار والخبث اللعين.
إن أوضاع منطقة الشرق الأوسط لن تهدأ ما لم تكف إيران عن تصدير ثورتها الإسلامية الشيعية الصفوية المتطرفة التي تثير في الطرف المقابل القوى السنية الوهابية المتطرفة وتُشعل المواجهات في الدول العربية وذات الأكثرية المسلمة في محاولة للهيمنة على قرارات هذه الدول وتحقيق مصالحها الاقتصادية أولاً، وما لم تتوقف محاولات الولايات المتحدة الأمريكية فرض هيمنتها على الشرق الأوسط وسياساتها الاستعمارية وعقوباتها التي تنطلق من ذهنية ليبرالية جديدة متطرفة جداً وتحت قيادة رجل تاجر رخيص لا يعرف من السياسة غير عهر المال والتهديد والكذب والاحتيال، ويصارع الدولة الإيرانية المتطرفة على الأرض العراقية ثانياً. إن حرية الإنسان في بلدان الشرق الأوسط وحياة شعوبها في أجواء الديمقراطية وتمتع دولها بالسيادة الوطنية هي المفقودة حالياً بسبب سياسات هاتين الدولتين اساساً ووجود أذرع قذرة لهما ممتدة داخل دول المنطقة وهي المتسلطة على رقاب شعوبها وتسمح لهما وللدولة التركية والسعودية وغيرهما أيضاً بالتدخل الفظ في الشأن العراقي واستباحة حقوقه وسيادته.