عندما يتعلّق الأمر بالوطن ومستقبل شعبنا علينا جميعا أن نتحلّى بالمسؤولية الكاملة تجاه أية مخاطر تواجههما ، وذلك من خلال تحلّينا بالجرأة بلا حدود وتجاوز كل ما يمكن تسميته بالخطوط الحمراء، أو تلك التي يسبغ عليها البعض صفة القداسة لمنحها صوت عال في إدارة شؤون البلد وحق النقض “الفيتو” تجاه ما تراه غير مناسبا مع سياستها المعلنة والخفيّة. علينا جميعا وبروح وطنيّة وحرص على شعبنا ومستقبله، أن نقف أمام مسؤولياتنا والوطن يخرج من محنة ليدخل أخرى أشّد من سابقتها.
قبل الخوض في عنوان المقال الذي يرتبط به مستقبل بلدنا وشعبنا وتقدمهما، علينا طرح سؤال غاية بالأهمّية، كون الإجابة عليه كفيلة بتجاوز الكثير من الأزمات السياسية وغيرها من تلك التي تُستنسخ بإستمرار وهو: هل السيستاني ومن وراءه المؤسسة الدينية الشيعية ولا نقول الأحزاب الشيعية، يؤمن بدولة علمانيّة ديموقراطيّة تعددية بعيدة في تعاملها مع شعبها عن الهويّات الفرعية، ولكي نكون دقيقين أكثر فأننا نعني بالهويّات الفرعية هما “الشيعة والسنّة” بشكل رئيس دون إهمال الأديان والقوميّات في بلدنا؟ أم أنّ الهدف النهائي للسيستاني والمؤسسة الدينية الشيعية ومن أمامهما الأحزاب والميليشيات الشيعية، هو بناء نظام إسلامي على غرار النظام الإسلامي في إيران، أو قريب منه جدا في أسوأ الأحوال؟
يُشاع أو بالأحرى يُشيع أنصار السيستاني وسط العديد من المنابر الحزبية والجماهيرية والدينية بل وحتّى على المستوى الإقليمي والدولي من أنّه يرفض ولاية الفقيه، وأنّ لا طموحات سياسيّة عنده!! الا إننا لو عدنا الى اليوم الأوّل للإحتلال سنرى أنّه وبهدوء وعن طريق الأحزاب والشخصّيات الشيعية جسّد مبدأ لا يُمكن تجاوزه في الشأن السياسي العراقي، وهو العودة الى ما يقوله “السيستاني” في كل شاردة وواردة رغم إبتعاده عن الأضواء والإكتفاء بممارسة نشاطه السياسي من خلف الكواليس.
بداية تشكيل مجلس الحكم صرّح عضو فيه كان قد ألتقاه وقتها قائلا أنّه ” توّاق جدا للتعبير عن آرائه “، كما صرّح العديد من رجالات الأحزاب الشيعية الموالين له من أنّه “لن يعبر الخط الفاصل بين التأثير على السياسة والمشاركة فيها”!! ولكي يمّهد الساسة الشيعة له الطريق واسعا للتدخل بالشأن السياسي لصالح نهج محاصصة طائفية للحكم بالبلد، وليدخله هو بخطى ثابتة ووفق برنامج دقيق هدفه هيمنة الإسلام الشيعي الذي أثبت فشله “كما الإسلام السنّي” اليوم أكثر من أي وقت مضى على مقاليد الحكم بالبلد، قال البعض ممن تولوا المسؤولية في مجلس الحكم وقتها أنّ “السيستاني متحسس بشكل كبير للرأي العام وما يقوله الناس حوله. فهو رفض القبول بأي سلطة سياسية لكن عليه، مع ذلك، أن يستجيب لحقيقة أن الشعب في أمس الحاجة لزعيم”. فمن هو هذا الزعيم، هل هو السيستاني نفسه أم شخصيّة يباركها بنفسه لتولي الزعامة؟
أنّ فكرة إيجاد ولي فقيه عراقي كانت ولا تزال حلما عند الساسة الشيعة ونسبة لا بأس بها من فقهاء الحوزة الدينية بالنجف الأشرف، فتعاظم دور السيستاني في الحياة السياسية والعامة، وتذكر الشيعة لمظلومياتهم في العهود المختلفة للدولة العراقية، هي التي تدفعهم كي يكون هناك ” ولي فقيه ” بالعراق وعلى غرار ولي الفقيه في إيران، على الرغم من عدم جواز وجود وليين للفقيه في زمن واحد وهذا ما سنتناوله بعد قليل، أو منحه دورا سياسيا بارزا بعد تعاظم دوره على المستوى الشعبي.
في سؤالين مهمّين للسيستاني من أحد أتباعه، أجاب على أحدهما وهو ” هل يجوز تشريع القوانين أستناداً الى المصلحة؟ قائلا “: يجوز ذلك لمن له الولاية شرعاً ضمن شروط خاصة”. وفي إجابته على السؤال الثاني وهو “ما هو تعريفكم لولاية الفقيه؟ أجاب “الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء (رض) بالامور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد ، واما الولاية فيما هو اوسع منها من الامور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الاسلامي فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط اضافية ومنها ان يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين”. لو جمعنا الإجابتين لتعريف ولاية الفقيه وفق أجوبته، لرأيناه اليوم ولي للفقيه وإن إمتنع وأتباعه وجمهوره عن التصريح بذلك علنا.
هل يجوز أن يكون هناك أكثر من ولّي فقيه في مقطع زماني واحد؟ الإجابة على هذا السؤال ستدلنّا على السبب الذي يدعو السيستاني للنأي بنفسه عن ولاية الفقيه. ففي وحدة ولاية الفقيه وتعددها وفق المذهب الجعفري هناك مقامان للولاية، هما الولاية الإصطفائية، “وهي تتعدد بتعدد من تلبس بالخلافة التشريعية، سواء كانوا أنبياء، أم أئمة، أم فقهاء”، أما الثانية فهي الولاية التنفيذية وهذه لا تتعدد وفق فقهاء الشيعة وقد ذكروا أدلّة على ذلك منها “الروايات الشريفة و فلسفة الغيبة الصغرى”، ومنها والتي تهمنّا هنا هي (أدلة عدم جواز مُزاحمة فقيه لآخر)، والتي تؤكد على فتوى فقهاء الشيعة ” بعدم جواز مزاحمة الفقيه لفقيه آخر فيما تصدى له مثل نصب الفقيه متوليا للوقف او قيّما للصغار؛ وذلك للأدلة الناهية والمانعة لمثل هذه المزاحمة، فان كانت مثل هذه المزاحمة غير جائزة فكيف بمزاحمة فقيه لآخر نهض لقيادة الأمة وبُسطت يداه لتكوين حكومة إسلامية، فأدلة عدم جواز المزاحمة ثابتة في هذا المورد بالأولوية” (*)
هذا يعني أن ليس من حقّ فقيه شيعي مزاحمة فقيه آخر أو منافسته بأمور صغيرة، فكيف بالأمور الكبرى كقيادة أمّة؟ من خلال النص أعلاه نستطيع أن نتعرف على سبب عدم طرح السيستاني نفسه كولي فقيه، فالسيستاني كان يعيش تحت ظل نظام البعث الدموي في الوقت الذي كان الخميني وبعده الخامنائي طرحا نفسيهما كوليين للفقيه وقادا دولة إسلامية شيعية المذهب. وهذا يعني أن الظروف التي تحققت للخميني والخامنائي من بعده لو كانت قد توفرت للسيستاني لكان قد أعلن نفسه وليا للفقيه أما من قبل الحوزة الدينية بالنجف الأشرف، أو تحت ضغط ساسة أسلاميين من أجل تشكيل حكومة إسلاميّة بالعراق على الرغم من الفارق بين شعبي العراق وإيران من ناحية الثقل الشيعي فيهما.
لقد بدأ السيستاني منذ اليوم الأول لإحتلال العراق بالتدخل في الشأن السياسي، فمطالبته بإجراء أوّل إنتخابات تشريعية دون وجود إحصاء عام للسكان ولا ظروف صحيّة لإجرائها، ومبايعته وقتها للتحالف الشيعي كان تدخلا بالشأن السياسي. وإستمر تدخله بالشأن السياسي نتيجة فتح أبوابه أمام الساسة من مختلف الإتجاهات وأهمّهم الساسة الشيعة للإستئناس برأيه. ولم “ينأى” السيستاني بنفسه عن السياسة الا بعد شعوره بتذمر الشارع من فشل الحكومات الشيعية التي تعاقبت على السلطة، ولكي يبعد نفسه عن الإنتقادات التي بدأت الجماهير توجهها للمؤسستين الشعيتين السياسية والدينية، خرج وكيله “أحمد الصافي” في شباط 2016 ليقول أنّ “المرجعية دأبت على قراءة نص مكتوب يمثل رؤيتها في الشأن العراقي، ولكن تقرر أن لا يكون ذلك أسبوعياً في الوقت الحاضر”، مضيفا أن “آراء المرجعية ستُطرح بحسب ما يستجد من الأمور وتقتضي المناسبات”. الا أن خطب الجمعة لم تنقطع يوما منذ ذلك التأريخ، وبقي السيستاني يتدخل بالشؤون السياسية بشكل مستمر ولليوم، كما أنّه ولدرء خطر داعش السنّية، أصدر فتوى الجهاد الكفائي الذي أنهى خطرها ، ولتتشكل من خلال إنظمام الميليشيات الشيعية للحشد الشعبي داعش الشيعية ، وابسط دليل على ذلك هو دعوة الحشد الشعبي اليوم بالبصرة ، الشباب البصري لتشكيل “حشد المتطوعين” لملاحقة المتظاهرين فيها .
أنّ تدخل السيستاني بالشؤون السياسية للبلد في ظل إنتعاش المد الديني ليس بالأمر الغريب، وقبول القوى الدينية لهذا التدخل أمر ليس بالغريب أيضا. فهو ” السيستاني ” بالنهاية طوق نجاة لهم فيما إذا تحركت الجماهير ضدهم. لكن الأمر الغريب هو قبول قوى قومية ووطنية فيما يطرحه السيستاني من أفكار وآراء ووصايا، وعكسها في بياناتهم وصحفهم، وإعتمادها كجزء من سياساتهم. فاليوم ونحن على أعتاب تشكيل الحكومة، فأن الرأي النهائي لتسمية رئيس الوزراء هو من صلاحيات السيستاني وليس حزب أو كتلة أو تيار ما. والأحزاب ومنها غير الشيعية تنتظر القائمة النهائية للأشخاص الذين سترضى عنهم المرجعية لتبوأ منصب رئاسة الوزراء على أساس المحاصصة لنظل في نفس المربع الذي لم نغادره ولن نغادره في ظل هكذا قيادات سياسية ودينية.
قد لا يكون السيستاني ولي للفقيه اليوم، لكنه بالتأكيد ومن خلال ما نعيشه من أحداث فأنّه عرّاب نظام المحاصصة الطائفية القومية البغيض، والملاذ الآمن للإسلاميين الفاسدين. وإن كان يراد لمقولة “المجرب لا يجرب” التي قالها أن تكون في خدمة شعبنا ووطننا، فعليه أن لا يحصرها بأفراد، بل في أن يعمّمها على أحزاب وتيارات سياسية كاملة. فالمالكي والعبادي على سبيل المثال فاسدين، ولكنهما عضوان في حزب الدعوة، لذا على السيستاني أن يكون أكثر وضوحا ويقول “الحزب المجرّب لا يجرّب”، حينها يكون تدخله بالشأن السياسي في خدمة شعبنا ووطننا، والا فأن تدخله ستكون أمامه عشرات الأسئلة.
يقال أنّ هناك حديثا عن النبي محمّد يقول ” لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله”. ووالله فأن تدخلكم بالشأن السياسي قد نال من إحترام الناس للدين ومن هيبة المؤسسة الدينية وسينال منها أكثر كلمّا زاد الإسلاميون فسادهم وجرائمهم، وكلمّا جلس معمّم على منبر ليأتي بترّهات ما أنزل الله بها من سلطان. فمن أجل البقاء على الدين ورجاله بعيداعن ألسن الناس ولكي لا يأتي اليوم الذي يقول فيه الحجر والشجر” يا عراقيّ، هذا خلفي إسلامي ومعه معمّم فتعال إقتلهما”، على المؤسسة الدينية الأبتعاد عن السياسة ورجالها، وعليها إستخدام المنبر لفضحهم وتثوير الناس ضدّهم، وليكن شعار المؤسسة الدينية “الدين لله والعراق للجميع”.
(*) حاتم، نوري، نظرية ولاية الفقيه، من مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام.، العدد 25، السنة السابعة، ط 3، 14237 هـ – 2002 م.
زكي رضا
الدنمارك
15/9/2018