تجولنا في كل أنحاء مسجد قبة الصخرة، وكانت مشاعر الخشوع والإيمان تغمرني بقوة، فصليت أكثر من مرة لله تعالى في أنحاء المسجد، وبعدها نزلنا إلى المغارة الواقعة تحت الصخرة المشرفة، وعند بوابتها الصغيرة يوجد قبة صغيرة بنيت في الفترة العثمانية وبداخلها نافذة بها شعرتين من شعر الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، وسميت حجرة شعرات النبي، ويتم النـزول للمغارة بعدة درجات ضيقة، حيث نجد محرابين صغيرين بداخلها، وقد صليت ركعتين هناك أيضاً. قبل أن أخرج وأجول مرة أخرى في رحاب قبة الصخرة، حيث كنت مبهوراً بجمالية الهندسة والزخرفة وعبق التاريخ حيث أن قبة الصخرة مزينة بستة ملايين قطعة ذهبية تشكل فسيفساء الزخرفة، بينما القبة من الخارج مطلية بالذهب وبين القبة الداخلية والذهبية مسافة 170سم ليتم المرور من خلالها في أعمال الصيانة، وللبناء الهندسي إبداع له حسابات رياضية فالبناء الثماني الشكل مستمد من الآية القرآنية في قوله تعالى:” ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية” كما أن 12 عامود تحمل القبة ترمز لعدد شهور السنة، وأبواب الصخرة أربعة بعدد فصول العام ويوجد لها 52 نافذة بعدد أسابيع العام، وفيها 24 قوسا بعدد ساعات اليوم، وفي أعلى قبة الصخرة منقوش آية الكرسي وفي محيطها 3 آيات يرد فيها أسماء الرسل عليهم السلام حملة الرسالات السماوية سيدنا محمد وسيدنا عيس وسيدنا موسى عليهم أطيب الصلاة والسلام، وبجوار كل باب عامودين يقابلهما 3 أعمدة من التي رفعت عليها قبة الصخرة المشرفة ترمز بعددها 5 أعمدة للصلوات الخمس المفروضة، وارتفاع قبة الصخرة 36,5م برمزية عدد أيام السنة، وطوال تجوالي لم تتوقف عدستي عن التقاط الصور لتوثيق الزيارة والمكان قبل أن نخرج لساحة قبة الصخرة الخارجية، من باب منقوش أعلاه: “صخرة بيت المقدس من الجنة”، فالساحة الخارجية محاطة بالأعمدة المقنطرة بالأقواس البوائك (جمع بائكة) وعددها ثمانية أيضا وهذه البوائك تزيد من جمالية المكان مقابل الواجهات الثمانية للأقصى والتي يبلغ طول كل واجهة منها 12.5م ولعل البائكة المتميزة بينها المطلة على المسجد الأقصى “القبلي” لوجود ساعة شمسية عليها، وفي بعض جوانب ساحة قبة الصخرة بعض القباب من مراحل البناء المختلفة والصيانة عبر العصور إضافة إلى صف من الغرف الصغيرة “الخلوات” وقد بنيت في العهد العثماني، ومن يتأمل جدران مسجد الصخرة من الخارج يجد آيات من جمال النقوش والهندسة، فمن الرخام الأبيض الذي يغطي القسم السفلي إلى بلاط السراميك الذي يغطي القسم الأعلى، وصولاً إلى السقف الذي صمم على الطراز الجمالوني، حتى القبة الذهبية بجمالها وسحرها، والآيات القرآنية المنقوشة على رقبة القبة بجمالية الخط العربي الكوفي البسيط، وتزيد قدسية الأقصى بكل أرجاءه على روح الزائر جمالاً آخر من الخشوع والرجاء وفي فترة الاحتلال الصليبي جرى تحويل مسجد قبة الصخرة إلى كنيسة أسموها قدس الأقداس، وقد سرق القساوسة قطع من حجارة الصخرة المشرفة وباعوها في أوروبا بوزنها ذهبا.
ومن الدرج المواجه للأقصى نزلنا باتجاهه بخشوع ورهبة، فهذه هي المرة الثانية التي سأدخل فيها رحاب الأقصى بفارق 42 عاماً بين الزيارتين، ومن الضروري الإشارة إلى أن المسجد الأقصى يعني كل المساحة داخل الأسوار والأسوار المحيطة به وجدرانها الداخلية والخارجية، وليس فقط البناء المعروف بالمسجد الأقصى، فأي انتهاك لأي جزء من هذه المساحة هو انتهاك لقدسية الأقصى، وما أن دخلت من البوابة الرئيسة حتى شعرت برهبة مضاعفة، فهنا سجد ملكي صادق اليبوسي لله سبحانه وتعالى، وهنا كان ثاني بيت بني لعبادة الله الواحد الأحد بعد الكعبة في مكة، وإلى هنا أسري بالرسول -عليه الصلاة والسلام- وهنا أم بالأنبياء ومن هنا عُرج به للسماء، وفي القص الديني ينسب بناء الحرمين الشريفين الكعبة والأقصى لسيد البشرية آدم “عليه السلام”، وتجديد البيت العتيق لسيدنا إبراهيم “عليه السلام”، وهنا في القدس تبدأ حكاية كنعان ويبوس وتراث حملناه منذ حط في هذه الديار الفلسطينية أحفاد كنعان الأول منذ عشرة آلاف وخمسمائة عام في أريحا مدينة القمر وانتشروا في كافة أنحاء فلسطين، وجاء بني يبوس الكنعانيين وعمروا القدس؛ مدينة السلام وزهرة المدائن، فتذكرت كيف أذهلني المسجد حين رأيته طفلاً، فبدأت أتراكض فيه أنا وشقيقي محمد “جهاد” الذي يصغرني بفرح طفولي غامر، والمسجد الحالي بناه الأمويون في عهد الوليد بن عبد الملك مكان المسجد البسيط الذي أمر ببنائه عمر بن الخطاب، فالمسجد الذي بناه عمر كان من البساطة حتى أنه لم يصمد كثيراً، والذي بناه سيدنا عمر فوق الأقصى التاريخي حيث لم تكن إلا آثار أبنية قديمة جداً تحولت لمكبّ للنفايات، فأزالها الفاروق عمر وأعاد بناء الأقصى.
عبر القرون التي مضت، ومنذ بناء الأقصى يتم الاهتمام به وتجديده، فالأقصى تعرض لزلازل طبيعية عنيفة أكثر من مرة، وفي كل مرة كان الحكام يسارعون لإعادة بناءه وترميمه مما أدى إلى تغيرات كبيرة على شكل وبناء الأقصى، ولعل زلزال الاحتلال الصليبي كان هو الأقسى عبر التاريخ الماضي، والآن يتعرض الأقصى لاقتحامات المستعمرين الجدد والاحتلال بشكل شبه يومي، في ظل صمت عربي وإسلامي مريب. والأقصى له أربعة مآذن على أربعة أبواب هي مآذن بوابات الأسباط، والمغاربة، والغوانمة، والسلسلة وسيكون لكل مأذنة حديث لاحق وتفصيلي.
دخلنا من البوابة الرئيس والتي هي بوابة المسجد القبلي، وهو المسجد الأقدم والمسمى الجامع القبلي لأنه يقع جنوبي مساحة الأقصى باتجاه القبلة، وهو المسجد الرئيس وفيه المحراب والمنبر، وفيه يقف الإمام لخطبة الجمعة وهو أقدم المساجد في الأقصى، فهو الذي بُني في العهد الأموي وتعلوه قبة الأقصى الضخمة والرصاصية المعدن فوق سقف جملوني الطراز، وفي القديم كان الأقصى من 15 رواقاً، ولكنه اختصر مع التغييرات إلى سبعة وهي الموجودة الآن، حيث يحيط المسجد القبلي 3 أروقة من كل جانب، فتجولت بعد الصلاة في كل أنحاء المسجد وزواياه وصليت به أكثر من مرة، وتأملت المنبر الذي جرى حرقه على يد المتطرفين اليهود وتحديدا على يد مايكل روهن الأسترالي في 21/8/1969، وهو المنبر المنسوب للفاتح صلاح الدين الأيوبي علما أن من أمر باعداده هو نور الدين زنكي عام 563 ه قبل تحرير الأقصى بعشرين عاما وهو يعد لتحرير القدس، ليتم وضعه في الأقصى بعد تحريره من يد الصليبيين، وقام بصنعه كبار الحرفيين والصناع في دمشق وحلب من الخشب المطعم بالعاج والأبنوس والمعشق من 12 الف قطعة خشبية متداخلة بشكل فني وماهر مع بعضها بدون أية مسامير أو غراء لاصق، مع نقوش وآيات قرآنية وكتابات تاريخية، حيث نقشت الآيات وهي 90-93 من سورة النحل على شكل متوازي أضلاع، على مستوى جلوس الخطيب على المنبر، وفي إطار مربع الشكل تتوسطه كلمة الله نجد أنه قد تم نقش الآية 18 من سورة التوبة.
وعلى الجانب الأيسر نقش على شكل متوازي أضلاع: “بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمله العبد الفقير إلى رحمته، الشاكر لنعمته، المجاهد في سبيله المرابط لأعداء دينه، الملك العادل نور الدين، ركن الإسلام والمسلمين، منصف المظلومين من الظالمين، أبو القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر، ناصر أمير المؤمنين، أعز الله أنصاره، وأدام اقتداره وأعلى مناره، ونشر في الخافقين ألويته وأعلامه وأعز أولياء دولته وأذل كفار نعمته، وفتح له وعلى يديه، وأقر بالنصر والزلفى عينيه برحمتك يا رب العالمين، وذلك في شهور سنة أربع وستين وخمس مئة”، وله في مقدمة الدرج بوابة يعلوها تاج ثم درج يعلوه قوس يصل لمنبر الخطيب، وبقي المنبر ينتظر حتى تم تحرير القدس على يد الفاتح صلاح الدين فأمر بنقله إلى القدس ووضعه في الأقصى حسب وصية نور الدين زنكي، وخطب من عليه قاضي دمشق محي الدين زنكي خطبة الجمعة بعد أن توقفت 90 عاما بسبب الاحتلال الصليبي، والمنبر نقل للأردن بعد عملية الاحراق للترميم بقرار من الملك حسين ملك الأردن، واستمرت عمليات الترميم خمسة سنوات كاملة على يد خبراء بالترميم في جامعة البلقاء في الأردن، وكلفت العملية ملايين الدولارات قبل أن ينقل مجددا ويعاد للأقصى، فجلست للراحة وقراءة القرآن مستنداً إلى عمود حجري ضخم من أعمدة المسجد التاريخية قبل أن أكمل جولتي في رحاب الأقصى وساحاته، حالماً بيوم حرية وتحرر للأقصى والقدس وفلسطين وعيناي ترنو إلى باب المغاربة حيث جنود الإحتلال مدججين بالسلاح.
صباح عمَّاني يسوده الدفء النسبي في ظل أربعينية الشتاء القاسية والتي وصلتها لأيام قليلة، أجلس في مكتبي في شرفتي العمَّانية مستعيدا ذكرى زيارتي الأولى للقدس وزياراتي الأخرى لها، أحتسي قهوتي مع شدو فيروز: “عيوننا إليك ترحل كل يوم تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد، يا ليلة الإسراء يا درب من مرّوا إلى السماء، عيوننا إليك ترحل كلّ يوم وإنّني أصلّي”. فأهمس: صباحكم أجمل ولا بد أن تشرق الشمس.
“عمان 19/1/2020”
https://www.facebook.com/
https://www.facebook.com/