العرب/بغداد – تراهن إيران عبر دفع وكلائها في العراق للتصعيد مع واشنطن والمطالبة بإخراج القوات الأميركية لتظهر للعالم أن ذلك يدخل في خانة ردودها على مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في شهر يناير الجاري.
وتحاول طهران أن تظهر عبر فتح قنوات دبلوماسية مع واشنطن بأنها ليست صاحبة القرار، معتمدة خطابا مخادعا يشي بأن الطلب عراقي صرف وذلك رغم أن جميع المعطيات الجيوسياسية تؤكد حاجة العراق الملحة إلى تواصل بقاء القوات الأميركية في البلد خاصة في المرحلة الراهنة.
ويشير تمسك الأحزاب والميليشيات المرتهنة للقرار الإيراني بإخراج القوات الأميركية إلى أنها لا تضع ضمن حساباتها اعتبارات للأمن القومي العراقي بقدر ما تبحث عن حماية للمصالح الإيرانية.
تاريخيا وقبيل عام 2003 كانت هناك صفقة للاحتلال الأميركي للعراق منحت السياسيين الشيعة حكم العراق، وكشف جزءا من تفاصيلها السفيرُ الأميركي الأسبق في العراق زلماي خليل زادة.
بعد هذه الصفقة، تعايشت القوتان السياسيتان والعسكريتان والاستخباريتان الأميركية والإيرانية وتعاونتا على تنفيذ برنامج واحد هدفه قمع المقاومة الشعبية العراقية المسلحة ضد الاحتلال الأميركي. وظلت هواجس المصالح والنفوذ هي المحرك الرئيسي للانسجام أو الاختلاف بين الطرفين.
وتوجد أمثلة على هذا التعايش يمكن تلخصيها في ما كان يحصل من صفقات تعيين رؤساء الوزراء العراقيين، حيث كانت طهران ممتنة لتعيين رئيس وزراء العراق نوري المالكي من قبل الأميركان عام 2006.
كان النظام الإيراني منشغلا طيلة تلك السنوات بتثبيت دعائم الأحزاب الشيعية الموالية له والمنفذة لبرنامجه التوسعي ووضع الترتيبات اللوجستية العسكرية لتحكم فصائل من الخط الثاني الشارع العراقي.
وإلى جانب ذلك تم كسب الولاءات السياسية لبعض الزعامات السنية والكردية العراقية، لكن هاجس الوجود العسكري الأميركي ظل مؤرقا لطهران لاحتمالات التضييق على مشروعها الشامل في العراق.
وكان القضاء على “داعش” فرصة لطهران لفك العلاقة المؤقتة مع واشنطن رغم ما قدمته الأخيرة ضمن التحالف الدولي من خدمات لصالح العراقيين في هزيمة التنظيم المتطرف، لكن وسائل إعلام طهران روجت لرجلها في العراق، سليماني، بأنه هو من حرر العراق.
من جهة الولايات المتحدة، لم يحظ قرار الرئيس السابق باراك أوباما سحب القوات الأميركية من العراق عام 2011 برضا القيادات الاستراتيجية في البنتاغون ليس لاعتبارات المصالح العراقية وإنما لرؤية الحافظ على سياسة واشنطن الخارجية التي كانت مهتمة بضرورة البقاء في العراق الذي صنعت عهده السياسي عام 2003 وأنفقت مليارات الدولارات على مجالات أمنية وعسكرية منها تدريب القوات العراقية وتشكيل أجهزة النخبة من بينها.
وكانت الهواجس العسكرية الأميركية تستقرئ احتمالات تصاعد خطر التنظيمات المتطرفة، وهذا ما حصل عام 2014 عبر داعش حيث تساءل الكثير عن دور نوري المالكي في تسهيله رغم أنه طلب في العام نفسه استدعاء القوات الأميركية لترعى تحالفا دوليا واسعا لمساعدة العراق.
مع وصول دونالد ترامب للحكم عام 2017 الذي غيّر بعض قواعد اللعبة مع طهران ما جعل من العراق ساحة صراع عبرت عنها الحوادث الأخيرة.
وتشكل قصة طرد القوات الأميركية من العراق على رأس أولويات إيران مما يعرض الوضع العراقي الهش سياسيا وأمنيا لمخاطر جدّية في مقدمتها انفراد طهران بالهيمنة الشاملة على البلد، بعد إخلائه سياسيا وعسكريا من أي قوى مناهضة لهذا النفوذ.
وتعمل الأحزاب الموالية لطهران وميليشياتها على قمع وإنهاء انتفاضة الشباب التي أعلنت رفضها للوجودين الأميركي والإيراني على حد السواء، حيث تمكنت قوى موالية لإيران داخل البرلمان من تمرير قرار إنهاء الوجود العسكري الأميركي رغم امتناع الأكراد والسنة عن المشاركة في هذا القرار الانفعالي على مقتل فاسم سليماني.
ويرجح أن تنطلق القوى الشيعية بعد هذا القرار في تعزيز قرارها بتمرير الشخصية التي ترغب في تمكينها من رئاسة الوزراء دون الحاجة إلى الكتلتين الكردية والسنية وهذا ما عبر عنه أحد البرلمانيين الموالين لإيران.
وأثارت هذه الخطوة، امتعاض الأكراد وفق ما عبر عنه رئيس إقليم كردستان نيجرفان البارزاني الذي أشار إلى “أهمية وجود القوات الأميركية وقوات التحالف لكل العراق”.
وتتماهى تصورات البارزاني مع تحذيرات الجنرال الأميركي أليكسوس غرينكويتش الذي أكد أنه ما زال من الممكن أن يعود تنظيم الدولة الإسلامية إلى الصعود رغم إضعافه في حال انسحاب القوات الأميركية من العراق.
وعزز الرئيس العراقي برهم صالح الانطباع العراقي المدافع عن أهمية تواجد القوات الأميركية وفق تفاهمات رسمية تحقق المصالح المشتركة بين البلدين، لكن توجد تخوفات من أن ينصاع إلى القرار الحكومي والبرلماني المتمسك بإخراج القوات الأميركية.
ومن المعلوم أن حكومة كردستان وقعت اتفاقية عسكرية ثنائية مع الولايات المتحدة تستخدم القوات الأميركية من خلالها قواعد منتشرة في الإقليم وهي حريصة على بقائها.
أما جمهور السنة فيعتقد أن بقاء القوات الأميركية في العراق هو “أهون الشرين” وفق استقصاءات صحافية أجنبية جرت في الأيام الأخيرة ببعض مناطق بغداد.
ويعتقد هؤلاء بأن الهدف الأول من تواجد القواعد الأميركية في المحافظات السنية هو الاستعداد لإعادة تشكيل البنية الأمنية والسياسية لهذه المناطق التي تحتاج قبل كل شيء إلى مواجهة النفوذ الإيراني المتمثل بالميليشيات.
وكان ردّ فعل الرئيس الأميركي على قرار البرلمان بكلمات بسيطة “على العراقيين أن يدفعوا تكاليف القواعد العسكرية التي بنيناها وكلفة الحرب”.
وأشار إلى أن في قبضته 35 مليار دولار من المال العراقي، فيما بدأت الأجهزة المالية الأميركية بترويج قرارات لقطع مساعدات عسكرية عن العراق بمقدار 250 مليون دولار، وأن الإدارة الأميركية ستعيد النظر في نطاق واسع من المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأخرى للعراق.
هل سيؤدي التعاطي الانفعالي للفصائل الموالية لطهران -التي يتزعمها اليوم مقتدى الصدر- إلى اتخاذ القرارات العملية لإخراج القوات الأميركية، وإن تحقق ذلك وسط المخاوف من احتمال عودة نشاطات داعش، فهل ستتمكن تلك الميليشيات لوحدها من المجابهة العسكرية لهذا الخطر من دون التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة؟ سؤال على جميع السياسيين العراقيين الإجابة عنه لتجنب ترك إيران تقرر مصير العراق المقبل الذي يبدو مظلما.