أثار قصف تركيّ لسنجار غضب الأقليّة الإيزيديّة، بعد أن أسفر عن عدد من الضحايا في صفوفها، وطالبت الحكومة العراقيّة بإدانة القصف على نحو مماثل لإدانتها القصف الإيرانيّ – الأميركيّ المتبادل على الأراضي العراقيّة.
تعرّضت قوّات حماية سنجار the Sinjar Protection Units غرب محافظة نينوى إلى قصف تركيّ، الأربعاء الماضي في 15 كانون الثاني/يناير، نجم عنه وقوع ضحايا قدّرتهم وكالة محليّة بـ14 قتيلاً وجريحاً، تمّ استهدافهم من جرّاء قصف للطيران التركيّ.
وكشف مصدر أمنيّ في عمليّات نينوى عن أنّ القصف أسفر عن مقتل قائد قوّات وحدات حماية سنجار زردشت شنكالي. ويذكر أنّ القصف جاء بعد أيّام من زيارة وزير الخارجيّة التركيّ مولود تشاووش أوغلو لبغداد واجتماعه بكبار المسؤولين العراقيّين بـ9 كانون الثاني/يناير من عام 2020 على نحو قد يوحي بوجود تنسيق عراقيّ – تركيّ في هذا الصدد.
وجاء ردّ الفعل الأوّل من قبل ممثّل كوتا الإيزيديّين في مجلس النوّاب صائب خدر، الذي أشار إلى أنّ هذه ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها استهداف سنجار من قبل طائرات يتمّ وصفها دوماً بـ”مجهولة”، في حين يعلم الجميع أنّها طائرات تركيّة، مستنكراً عدم مواجهة السلطات لجمهورها بالحقائق بشكل واضح ورسميّ.
ولفت صائب خدر خلال حديث لـ”المونيتور” إلى أنّ فكرة السيادة لا تتجزّأ، فسنجار أرض عراقيّة، وخرق سيادتها يماثل عمليّات استهداف السيادة في مناطق عراقيّة أخرى، وفي ذلك إشارة الى القصف الأميركيّ والإيرانيّ المتبادل على الأراضي العراقيّة، مشيراً إلى أنّ الضحايا عراقيّون، ولا يمكن التمييز بين شهداء الوطن أو أراضيه بناء على أيّ اعتبار، واصفاً القصف بقتل عمديّ لمواطنين عراقيّين من قبل قوّة أجنبيّة، فضلاً عن تسبّبه بالهلع والخوف للمدنيّين الذين عادوا إلى مناطقهم بعد تحريرها من “داعش”.
يمكن تفهّم الاعتراض الإيزيديّ في كون القصف قد أثار حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في منطقة تعدّ معقل الأقليّة الإيزيديّة وساحة تمركزها الديموغرافيّ الأكبر، لا سيّما أنّ المؤسّسات الحكوميّة تدعو دائماً، وفي أكثر من مناسبة، إلى إعادة النازحين إليها من محافظة دهوك في إقليم كردستان، وإنّ عدم وضع حدّ لهذه الانتهاكات يعيق، من وجهة نظر الإيزيديّين، عمليّاً، هذا الهدف.
ويجد الغضب الإيزيديّ تفسيره أيضاً، في أنّها ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها استهداف الإيزيديّين في قصف تركيّ على سنجار، وهو أمر محيّر بالنّسبة إليهم، إذ يفترض بهذا الهجوم أن يدان رسميّاً بوصف الضحايا عراقيّين ينتمون إلى تشكيل إيزيديّ مسلّح ضمن قوّات الحشد الشعبيّ. ولذا، فإنّ صمت الحكومة قد يفسّر بكونه رضى ضمنيّاً لحكومة بغداد، وقد ينطوي على فرضيّة اتفاق عراقيّ – تركيّ على حساب الإيزيديّين.
وفي هذا السياق، شرح رئيس وكالة “إيزيدي 24” أحمد شنكالي الاستراتيجيّة التركيّة بقوله: إنّ تركيا تحاول استغلال الثغرات التي خلّفها الصراع الأميركيّ – الإيرانيّ من جهة، وصراع الحكومتين المركزيّة وحكومة إقليم كردستان من جهة ثانية، في سبيل احتواء حزب العمّال الكردستانيّPKK وتحقيق موطىء قدم في الأراضي العراقيّة. وتؤيّد وجهة النظر هذه، كون سنجار محاذية جغرافيّاً للحدود مع الشمال السوريّ أو ما تسمّى بغربيّ كردستان “روج آفا”، والتي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكرديّة. كما تعدّ من الناحية الجيوسياسيّة الداخليّة البوّابة الوحيدة للوصول إلى قضاء تلعفر المجاور، ذات الأغلبيّة التركمانيّة.
وأقرّ أحمد شنكالي بتحليل يشاركه فيه قطاع واسع من العراقيّين، وهو أنّ لتركيا طموحاً توسعيّاً لضمّ الموصل، وهو حلم قديم يعاد بعثه راهناً في ظلّ الفوضى الراهنة. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من القضاء على أيّ قوّة سياسيّة أو عسكريّة قريبة من فكر PKK وإيديولوجيّته. ولذا، تعارض تركيا وجود PKK في سنجار، وتعدّه تهديداً لأمنها القوميّ، وتخشى من تشكيل مسار يصل “جبال قنديل” الحصن الرئيسيّ للحزب بـ”جبل سنجار” من جهة أخرى وربطهما بـ”قوّات سوريا الديمقراطيّة” على الضفّة الثانية من الحدود السوريّة، وهو ما يشكّل حزاماً رابطاً يسند بعضه بعضاً ويخلق ممرّاً لنقل المقاتلين والسلاح والدعم اللوجستيّ ضدّ مصالح تركيا.
وشارك مسؤول العلاقات في الإدارة الذاتيّة بسنجار فارس حربو، شنكالي في تحليلاته، إذ قال: إنّ مشروع إحياء الإمبراطوريّة العثمانيّة حقيقيّ وملموس، ويستهدف كركوك والموصل، لكن في البداية ستكون سنجار مفتاح السيطرة على مثلّث الحدود السوريّة – العراقيّة – التركيّة.
وأشار فارس حربو إلى أنّ القصف يمثّل حرباً نفسيّة لكسر إرادة الإيزيديّين من خلال إبطال وحدات مقاومة سنجار عن طريق اغتيال قادتها، وهي وحدات قاومت تنظيماً إرهابيّاً وحشيّاً وانتصرت عليه، ملمّحاً إلى دعم حكومة “أردوغان” لداعش، وقال: كأنّ “هذا القصف هو انتقام لجنود الخلافة، الذين قضينا عليهم في سنجار”.
ولفت إلى أنّ وقف التدخّل التركيّ واجب أخلاقيّ وإنسانيّ على المجتمع الدوليّ لوقف أحلام التوسّع الأردوغانيّة.
تبدو وحدات مقاومة سنجار مثل شوكة في الخاصرة بالنّسبة إلى تركيا، فهي قوّة غير راضخة للضغوط، وخطرة بسبب قربها وتعاطفها مع إيديولوجيّة PKK، الذي تصنّفه تركيا كحركة إرهابيّة، وهي مسجّلة في وزارة الدفاع العراقيّة ضمن هيئة الحشد الشعبيّ، الأمر الذي جعلها قوّة معترفاً بها رسميّاً، فضلاً عن أنّها عمليّاً تسيطر على أراضي سنجار بمعظمها، وتتميّز عن المؤسّسات الأمنيّة والجيش وفصائل الحشد الشعبيّ في سنجار بضمّها مقاتلين متمرّسين في حرب العصابات، يتحرّكون بمهارة وخفّة بين جبال قنديل وجبل سنجار، مزوّدين بمعرفة وثيقة بالطبيعة الطوبوغرافيّة لأراضي سنجار أكثر من أيّ قوّة عسكريّة أخرى تمسك الأرض.
في النهاية، يبقى القصف علامة أخرى على القوّة الثالثة التي تمارس نفوذاً داخل العراق، فضلاً عن إيران والولايات المتّحدة الأميركيّة، وهي في تنافس لتحقيق توازن قوى يضعف الأكراد من جهة ويزعزع الوجود الشيعيّ في المنطقة عموماً. ولذا، يندرج القصف ضمن مخطّطات تركيا لاحتواء قوّة قريبة من إيديولوجيّة حزب كرديّ معارض لها، وبهدف خنق هذا الوجود المعارض في كلّ من سوريا والعراق، وتحديد النفوذ الشيعيّ في المنطقة برمّتها، في لعبة التنافس على النفوذ في الشرق الأوسط.