“البوح الثاني عشر”
ما أن غادرنا قصر النمر وأنهينا جولتنا في الحبلة حتى كنا نتجه لبيت المسنين بناءً على اقتراح من د. لينا الشخشير، منسقة برنامج في جولات نابلس حين قالت: للمسنين وكبار العمر علينا حق؛ وبرفقة صديقي سامح سمحة الذي حضر معي من جيوس بسيارته الخاصة وصلنا المركز وعبر الحديقة الجميلة كنا نتجه للإدارة حيث التقينا كل من المشرفات سوزان مرعي مديرة الدار وميرفت القطب مشرفة الدار، ومع فنجان القهوة تحدثت لنا المديرة عن الدار وقالت أنها أنشئت عام 1952م من خلال د. أحمد سرور الذي شاهد مسنين في الشارع بدون أي اهتمام أو رعاية لهم، فأدخلهم البيت وبدأت الفكرة بالتطور حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، وبيت المسنين تابع لجمعية الهلال الأحمر وفيه قرابة 20 من المسنين الذين جارت عليهم الظروف وعقهم الأبناء، ولحسن حظنا أنه كان لديهم نشاط في الدار للترفيه عن المسنين فكانت فرصة أن نشاركهم الفرح، حيث تهتم الإدارة ببرامج الترفيه وجولات ترفيهية أيضا، ولكن الدار تعاني من محاولات إخلائها لأن ورثة المبنى يريدون تحويله إلى مركز تجاري، مضافا لذلك أن حجم التبرعات والمعونات التي كانت تصلهم أصبحت قليلة جدا بينما تكاليف العناية بالمسنين ترتفع كثيرا عاما إثر عام، ومن شروط نزلاء الدار أن يكون المسن يستطيع القيام بحاجاته الخاصة وهذا أثار في ذهني السؤال أين يذهب من يكون مريضا ولا يستطيع الإيفاء بهذا الشرط؟
من دار المسنين كنا نتجه لجولة في منطقة راس العين والتي تحمل الاسم نسبة لعين الماء في المنطقة حيث المسرح الروماني أو ما تبقى منه، حيث توقفنا في المنطقة العليا من الشارع وأول ما لفت نظري ووثقته بالصور أن اليافطة الإرشادية التي تعطي الإشارة لموقع المسرح ولجامع عجعج يوجد تحتها مباشرة كمية من القمامة، وحين نظرت من خلال الشبك المعدني ذهلت من حجم الإهمال للموقع، فلا ترميم للموقع أبدا والبيوت على الشارع استولت على مساحة من مقدمته فاختفى عن الشارع، حيث هناك بيوت تراثية وتحتها جدار استنادي إسمنتي يكمل تشويه المسرح الأثري، والحجارة متناثرة في المكان بدون أي محاولة لترميم ما تبقى إضافة لانتشار الأوساخ، ولم يتبقى إلا ثلاثة مدرجات من المدرج أو لنقل ما تبقى منها، هذا المسرح الذي كان له دوره في فترة الدولة الرومانية ويعتبر من أهم آثار نيوبليس القديمة التي أنشأها الرومان في عهد الامبراطور سبسيان في عام 73 م بعد تدمير شكيم الكنعانية، والمدرج كانت ساحته الدائرية بقطر 110م ويتسع حسب المصادر الأثرية إلى عشرة آلاف مشاهد، والدخول إلى المسرح المهمل الذي اكتشف عام 1979م يتم بزقاق ضيق من بين البيوت والمحلات حيث عبرنا إلى المسرح المدمر والمهمل ووثقت عدستي كل الزوايا والجدران المحيطة به والشارع أمامه، وأعتقد أن توجه صائب للترميم يمكن أن يرمم مساحة منه وإن لم يكن إمكانية لتملك البيوت التي تحجبه عن الشارع، يمكن تحويل الجدار الاستنادي الأمامي إلى واجهة حجرية تكون واجهة للمدرج وترميم المكان بقدر توفر الحجارة وتحويله إلى مركز للعرض والفنون والمسرح وكذلك الجدران الاستنادية الجانبية، فيكفي هذا الأثر المهم ما تعرض له من تخريب وإهمال عبر العصور وما تعرض له من الاحتلال الصهيوني وما تعرض له من لصوص الآثار والباحثين عن أوهام الذهب، وهذا الموقع قبل اكتشافه كانت ملكية الأرض لأحد العائلات المتمكنة في نابلس، وقد منعت الجهات المسؤولة عن الآثار استخدام هذه الأرض لأنها بآثارها تصبح ملكا للدولة، ولا أعرف إن كان الإجراء القانوني بالتملك قد تم أم لا.
من راس العين وبعد مغادرتنا المدرج الروماتي والألم يسودني على هذا الإهمال الذي رأيته كنا نتجه لحارة القريون لجولة سريعة، وهذه الحارة أخذت اسمها من نبع مياه قوي ومتجدد يستمد مياهه المتدفقة من جبل جرزيم، والنبع استمد اسمه من كلمة “كرايون” وتعني الأنابيب حيث أن الرومان بنوا على هذا النبع “نمفيوم” وتعني معبد لاله الماء فقد كانوا وثنيين، ومددوا أنابيب المياه الفخارية للبيوت والأمكنة في الموقع فحملت الاسم من كلمة الأنابيب بينما في اللغة السريانية تعني النبع المتدفق، وقد تجولنا بسرعة في الحارة متجهين لمبنى يعود إلى 500عام من العهد العثماني من أملاك جدود آل الشخشير وكان يستخدم ديوانا للعائلة كما عادات بلادنا حيث يندر أن نجد عائلة بدون ديوان أو مغتربين بدون ديوان أو جمعية لأهل البلدة أو للعشيرة، وقد استمر هذا المبنى ديوانا لعائلة الشخشير ما يزيد عن ربع قرن قبل نقله لموقع آخر، والمنطقة مبنية فوق الآثار الرومانية “نيوبوليس” التي دفنت تحت نابلس عبر العصور وبسبب الزلازل التي ضربت نابلس عدة مرات وآخرها زلزال عام 1927م، والطابق الأول تحول إلى مصنع حلويات الشرق للسكاكر وفي الطابق العلوي يسكنه السيد مروان الشخشير مع والدته ولا يقبل أن يسكن المبنى أحد آخر، وقد استقبلنا بحفاوة في مكتبه بالمصنع وأعطاني الكثير من المعلومات عن الحارة وعن معلمها وعن مسجد التينة والذي وجدناه مغلقا فأجلت زيارته لجولة أخرى رتبتها بالتنسيق مع د.لينا الشخشير الصديقة القديمة من نابلس الأستاذة جهاد قمحية، وجولة أخرى مع الشابة هديل عواد وبترتيب وتنسيق د. لينا التي كانت منشغلة بفترتها ببرامج لجمعية المنار التي تترأسها، ثم وقفنا أمام البيت الذي ولدت فيه وعاشت مرحلة من عمرها فيه مرافقتنا ومنسقة برنامجي في جولات نابلس د. لينا الشخشير.
بعدها اتجهنا لجولة سريعة في حارة القريون لنكسب ما يمكننا من الوقت قبل أن نغادر نابلس قبل حلول المساء برفقة صديقي الأستاذ سامح السمحة عائدين لجيوس بلدتنا الجميلة الخضراء، فتجولنا من أعلى الحارة حيث مبنى نبع القريون والذي لم نتمكن من دخوله لأن بوابته مغلقة للحفاظ عليه وعلى نظافة نبع الماء، والدخول إليه يحتاج لتصريح من البلدية حيث قام الموظف المشرف على مضخة الماء مشكورا بالاتصال بالبلدية بأحد الموظفين الذي أصر أن نحضر بيوم آخر، ونقدم طلبا معللا للزيارة من البلدية والتي لا يداوم موظفيها إلا صباحا مما حرمنا من دخول المبنى الأثري وتوثيقه من الداخل كمعبد روماني والدخول بالممر الضيق للوصول إلى النبع المتدفق، اكتفيت مؤقتا بتصوير المبنى من الخارج والذي جرى ترميمه عام 2010م كما تم ترميم المبنى المجاور له والمبني جزء منه فوق مبنى نبع القريون وهو قصر آل هاشم، فتجولنا في الحارة وأزقتها وساحتها الواسعة، فحارة القريون تتميز أنها في وسط حارات المدينة وتقع شرق حارة الياسمينة وتتميز بمبانيها وأقواسها التي تعود إلى العهد العثماني، وقد تعرضت للقصف الجوي وبالدبابات أثناء اجتياح 2002 م واستشهدت عائلة الشعبي في الحارة وهي من 8 أفراد ومنهم امرأة حامل استشهدت وجنينها وقد تم تخليدهم بلوحة رخامية تحمل أسمائهم مررت من جوارها وصورتها وقرأت الفاتحة على أرواحهم وأرواح كل الشهداء.
في قلب الحارة تجولنا في ساحة التوتة والتي استمدت اسمها من شجرة توت ضخمة تم قطعها، وهذه الساحة مقتصرة على بعض المحلات التجارية التي تخدم سكان الحي وتحيطها المباني التراثية ذات الملامح العثمانية، وفيها العديد من اللوحات الرخامية لتخليد أسماء الشهداء من أبناء الحارة، وفيها مجموعة من الأماكن المهمة التي توثق تاريخ نابلس والحارة مثل قصر محمود عبد الهادي والذي سيكون عنه حديث خاص في الحلقات القادمة، ومن مكان إلى مكان ومن حارة إلى حارة كنا نواصل المسير فشاهدنا الحمام الدمشقي وهو من أحدث الحمامات في نابلس وتم إنشاؤه في أحد المباني التراثية، ثم اتجهنا لمصبنة كنعان والتي تم ترميمها وتحويلها إلى جمعية المركز الاجتماعي الخيرية ولم تكن قد افتتحت بعد مما لم يتيح لنا التجوال في داخل المبنى التراثي، كما شاهدنا ديوان آل الخماش وهو مبنى تراثي يعود لفترة طويلة من العهد العثماني وقد تأسس عام 1848م، وآل الخماش من العائلات العريقة التي سكنت نابلس وقد عرفوا بالاهتمام بالعلم وعدد كبير منهم درسوا في الأزهر الشريف وتبوئوا مناصب مهمة، والديوان التراثي من مباني حارة الياسمينة ويتم الصعود إليه بواسطة درج حجري وعبر قوس حجري يشكل البوابة يتم الدخول للمبنى الذي بني كما غالبية مباني نابلس التراثية على نظام العقود المتصالبة، ومررنا من أمام دار النابلسي التي زرتها لاحقا مع الأستاذة جهاد قمحية والأستاذة سندس الحشاش خلال عملية الترميم،كنا نجول الدروب والأزقة وعيناي ترقبان كل صغيرة وكبيرة والنقوش على الجدران وفوق البوابات والأقواس والقناطر، ولا أتوقف عن التقاط الجماليات الباهرة ونحن نتجه لخارج الحارة حيث تركنا السيارة مودعين مضيفتنا د. لينا الشخشير وعائدين لبلدتنا قرب المساء بعد أن حددت موعد للجولة القادمة في آثار “شكيم” الكنعانية وهي نابلس التاريخية التي هدمها الرومان وبنوا بدلا منها “نيوبوليس”، وهي التي ستكون مجال الحلقة القادمة.
جو بارد شبه قطبي يجتاح عمَّان التي ازورها زيارة سريعة لظرف عائلي، أجلس إلى مكتبي الدافئ في شرفتي العمانية مع فنجان القهوة مستذكرا كل جولاتي التي لم أكتب عنها بعد في نابلس وبلدات ودول أخرى، استمع لشدو فيروز وهي تشدو: “يا حبيبي هرب الليل بنا ومشيناها دروبَ الحُلُمِ، فَلَهَوْنا عند واحات الهنا وجلسنا في ظلال النَغَمِ، يا صفا دنيا من الورد لنا وعشيّاتٍ خِفافِ النَسَمِ، نتهادى نتهادى والغنى طائرٌ في كلّ روضٍ يرتمي”.. فأهمس: صباحكم أجمل.. صباحكِ أجمل يا نابلس.. صباحكَ أجمل يا وطننا..
“عمَّان 23/1/2020”
https://www.facebook.com/
https://www.facebook.com/