لأول مرة في تاريخ خطب رؤساء أمريكا السنوية، يخرق الرئيس دونالد ترمب، دبلوماسية التعامل مع الحضور والحزب المعارض، فلم يعير أي انتباه إلى الديمقراطيين في قاعة الكونغرس، كما وأن الديمقراطيين كانوا على نفس المسافة من العداوة، فلم يمد يده لنائبه؛ كرئيس لمجلس الشيوخ (مايك بينس) لئلا يصافح رئيسة مجلس النواب (نانسي بيلوسي) علما أنها مدت له يدها، والأغلبية يؤكدون أنه رآها لكنه تغاضاها، وهذه تعتبر خرقا للدبلوماسية الرئاسية. فعلها ترمب لأنها وبحسب موقعها هي التي رفعت عليه الدعوة، لعزله. ففي العادة هي أو من في مكانها تفتتح الجلسة، وكرد على تصرفه، لم تقدمه بالإتكيت المعروف عند تقديم الرؤساء، قبل بدء الكلمة، ذكرت أسمه دون أية كلمة تقديرية مسبقة، والذي زاد من الشرخ، عندما مزقت في نهاية الكلمة، خطابه المسلم إليها قبل التحدث، ورمتها على الطاولة، كرد على أسلوبه، ولتبيان موقفها من القضايا التي طرحها، وجميعها كانت محل استنكار الديمقراطيين بقدر ما كان مدعوما من الجمهوريين.
ولأول مرة شعرت، كمستمع ومراقب لمجريات الأحداث، ما بين الحزبين، كأنني أستمع وأنظر إلى الخلافات الحزبية في شرقنا الأوسط، وبعد بحث في صفحة العلاقات بين الأحزاب الأمريكية، استخلصت إلى نتيجة، أنه لم يحدث مثل هذا الشرخ بين الطرفين أو بين أحزاب سابقة حتى قبل أن يظهر الديمقراطي على الساحة كمنافس للجمهوريين، منذ رئاسة (إبراهام لينكولن 1809-1865) أي من الحرب الأهلية التي دامت أربع سنوات، وانتهت في عام 1865م بين الولايات الشمالية والجنوبية.
يلام هنا الرئيس دونالد ترمب لأسلوبه في التعامل مع خصومه المفتقرة إلى أدنى درجات اللباقة والدبلوماسية، والملاحظ أنها تنم عن عنجهية رجل ذو خلفية ثقافية هشة، تراكمت من خلال عمله في شركاته، أكثر من أن تكون مبنية على الاطلاع والقراءة، إلى جانب أنه كان معظم حياته يتعامل مع شريحة تبحث عن الشهرة الذاتية بأدنى المستويات، أستخدم فيها ثروته، فكما نعلم كان يترأس إدارة ملكة جمال الكون، وكان له برنامج تلفزيوني بعنوان (أنت مطرود) كما وهو الذي أستلم من والده ثروة ضخمه، فمنذ الولادة لا يعلم ماذا يعني الاحتياج، عاش طوال حياته في عالم التجارة والتنافس وإلغاء الأخر، وأصبحت من أولويات النجاح لديه، هذه الخلفية تعكس طريقة تعامله اليومي بكل وضوح، وكثيرا ما يخلق المشكلة من العدم لتتحدث عنه الإعلام، فلم يكن يهمه إن كان سلبا أم إيجابا، إلا في الفترة الأخيرة عندما أصبح مصيره على المحك كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، علما أن مركزه وربما قادمه للدورة الثانية لن تتأثر، لكنها طعنت في عنجهيته.
فعلى هذه السوية النفسية العدائية صوغ صيغة خطابه السنوي، لتتضمن العديد من المسائل التي لم يحصل سابقا في تاريخ خطب الرؤساء السابقين، كتكريمه لأشهر مذيع من الحزب الجمهوري المحافظ (رش لمبو) المصاب بالسرطان قبل شهور، بالميدالية الأولى في أمريكا، والذي يعد من ألد أعداء الرؤساء الديمقراطيين، كلينتون وأوباما، وهيلري كلينتون في الانتخابات الماضية، وهو من أكثر المدافعين عن ترمب منذ حملته الانتخابية، وقد لعب دور كبيرا في جلب الأصوات. كما وفاجئ ترمب زوجة وطفلي رقيب أمريكي من الجيش المتواجد في أفغانستان، كانوا جالسين بجانب السيدة الأولى (ملانيا) زوجته، بإحضاره إلى القاعة دون أن تعلم زوجته بها مسبقا. وفي السياسية الخارجية أحضر رئيس المعارضة الفنزويلية، وشدد على أن نهاية الرئيس الحالي حتمية وأن الديمقراطية ستنجح وسيكون خوان كويدوا الرئيس القادم.
الحدث الوحيد الذي جمع ما بين الحزبين هو تقديمه وتكريمه لمحارب قديم شارك في حروب فيتنام وكوريا وغيرها كان على أبواب المئة سنة من العمر، ومن العرق الإفريقي الأمريكي. أما غيرها من التكريمات فكانت من ضمن الروتين الدارج في مناسبة الخطابات السنوية.
ولكن القضايا الأكثر خلافا بينهم، والواردة ضمن الخطاب، والتي أستخدمها للتغطية على مسيرة المحكمة الدائرة حتى يوم غد 6/2/2020م، تضخيمه للتطور الاقتصادي في البلد، وفي الواقع وباستثناء تدني نسبة البطالة إلى أدنى مستوياتها ومنذ ما يقارب نصف قرن وأكثر، لا نرى، اقتصاديا، أي وتيرة متنامية تتجاوز الماضي، في حال تمت المقارنة مع حالة التضخم المرافق للتطور، والذي لم يتجاوز حتى اليوم 2.5 % في الوقت الذي بلغت في عهد جورج بوش الأب، 3.6 % أما ما تبجح به، فهي في تفاصيل المعادلات الاقتصادية أدنى مما بلغته الاقتصاد الأمريكي في زمن الرئيس كلينتون، والنسبة العامة لم تتجاوز حتى الآن وتيرة زيادة الإنتاج في عام 1999م والتي كانت بحدود 2.6% لكن الفرق أن كلينتون تمكن من تصفية جميع الديون الأمريكية، وفي السنة الأخيرة من حكمه كان هناك زيادة في الدخل الوطني على الإنفاق، وقيل أنها وللمرة الأولى تحدث في تاريخ أمريكا، أم اليوم فإن الديون الأمريكية تقترب من نسبة الدخل الوطني، أي قرابة 20 تريليون دولار، والتناقص بسيط.
وعادة في الاقتصاد، عندما يحاول المحلل التحايل على الإشكاليات، يقدمون الأرقام الإجمالية في الإنتاج أو الدخل الوطني، أو الارتفاع في أرقام البورصة، ومعظم الأرقام العامة خدع للمواطن العادي، فالوضع الحقيقي للاقتصاد تأتي من مدى تزايد أو تراجع رفاهية العائلة أو زيادة الراتب مقارنة بالتضخم، وترمب أستخدم الأبعاد الإجمالية، وليثبت مصداقيته، تحدث عن مؤشر سوق نيويورك، علما أن المراقبين الاقتصاديين يدركون أن التصاعد عادي يتماشى والتضخم في مؤشرات السوق الداخلية والشركات الرأسمالية الكبرى، وسعر المواد الاستهلاكية، فعلى سبيل المثال، عندما كان مؤشر (داو جونز، وهو مؤشر لتداول أسعار أسهم ثلاثين شركة صناعية في أمريكا تبلغ قيمتهم الورقية قرابة 7 ترليون دولار) بورصة نيويورك في نهاية عهد كلينتون متجاوزا 16 ألفا، كان سعر السيارة الأمريكية العادية لا يتجاوز الـ 15 ألاف دولار، وسعر كالون من البنزين العادي كان بحدود 80 سنت، أما اليوم فالمؤشر بلغ قرابة 29 ألف، أي الضعف، فسعر السيارة تجاوزت 30 ألف دولار، والبنزين تصل 3 دولارات، أي عمليا الأسعار والتضخم، وراتب المواطن الأمريكي لا تزال هي ذاتها، ولم يحصل أي تحسن في معيشته وفي راتبه، وهناك مؤشرات أخرى أدق، تبين أن إدارة دونالد ترمب رغم ما يتحدث فيه عن تحسين الاقتصاد في الواقع يخالف الواقع، باستثناء نسبة البطالة والتي بلغت أدنى مستوياتها، على مستوى أمريكا تراجعت إلى قرابة 3.5 % وفي بعض الولايات إلى 3%، ولذلك ركز على هذه النسبة في عدة محاور، بين الشباب السود، والتي تعد أدنى مستوى في تاريخ أمريكا، وبين الشباب من نسبة عمرية معينة.
جميع هذه الخدع والتضخيم عن الاقتصاد، يتلاعب بها، وهو خبير بهذه القضية، فيسخرها بشكل ذكي خاصة بين الشريحة العادية من المجتمع الأمريكي، من أجل حملته الانتخابية القادمة. مثلما سخر قضية صفقة القرن لكسب أصوات اللوبيين اليهودي والمسيحيين الإنجيليكان. كما وركز على قضايا خلافية أعمق من الاقتصاد بينهم، كالتأمين الصحي الذي مرره سابقا أوباما، ومسألة التضييق على المساعدات الاجتماعية التي يحصل عليها نسبة من الناس ذوي الدخل المحدود، بينهم حملة الكرت الأخضر. وركز على الهجرة المعاكسة للشركات الأمريكية التي نقلت في عهد أوباما إلى الخارج، وكذلك على إعادة تعديل بعض الصفقات التجارية التي عقدتها سلفه، كصفقة (نافتا) بين كندا وأمريكا والمكسيك، والاتفاقية مع الصين، وتطرق إلى زيادة الإنفاق على الناتو بعد إجبار بعض الدول الأوربية على دفع حصصها المتفقة عليها، وبها بلغت ميزانية المنظمة العسكرية قرابة 400 مليار دولار، وكما نعلم أن ميزانية وزارة الدفاع الروسية لا تتجاوز 80 مليار دولار، والأمريكية بلغت قرابة 800 مليار في عهده، وهنا علينا ألا ننسى فرق العملة وأسعار الشركات التي تصنع السلاح الأمريكي، مقارنة بالروسي والتي هي من صناعة الدولة ذاتها، إلى جانب مقارنة التضخم في الدولتين، مع ذلك فالمعادلة كبيرة، وهي تتماشى والدخل الوطني بينهما، ما بين 20 تريليون إلى 2 تريليون دولار.
ولكسب رأي المنظمات التي لها ثقل على السياسية الأمريكية، يملكون لوبيا في مجلسي الشيوخ والنواب، ركز على القضايا التي تهمهم، وهي من صلب إستراتيجية المحافظين في الحزب الجمهوري، وهو من أحد أقطابهم، كدعمه لشركات السلاح ومنظمتها المعروفة باسم (NRA) الإتحاد القومي الأمريكي للأسلحة، وذلك إلى جانب عملية التلاعب بالضرائب على الشركات الكبرى، مع تغطية على أنه رفع من سقف تعويض الأطفال، كتلاعب بمفاهيم الشارع الأمريكي، فقضية الضرائب كانت ولا تزال محل خلافات واسعة بين الجمهوريين والديمقراطيين. لكن الرئيس ترمب لا يرضى بالخلافات العادية، بل يوسع الشرخ قدر ما يستطيع، فعرض قضية المدارس العامة والمنح الدراسية، ومحاولة السماح بالدعاء الديني المحظور سابقا في المدارس، والأكثر خلافا هي قضية حمل السلاح، الواردة في الدستور الأمريكي، منذ نشوئه، وشدد على دعمه لشركات السلاح وعلى حرية حملها من قبل المواطنين، ويكاد أن ينجح فيها، فقد تمكن من جذب جميع أقطاب حزبه إلى جانبه، في قضية عزله، في الكونغرس، وفي مسألة دعوة الشهود في مجلس الشيوخ، وعلى الأغلب غدا سيكون جميعهم إلى جانبه، وسيتم رفض الدعوتين ضده، أما ما تم في مجلس النواب، في قضية نقل عزله إلى مجلس الشيوخ، وسحب القوة منه في مسألة الحرب بشكل عام والحرب على إيران، جاءت ليس لأن الكونغرس ضده، بل لأن الأغلبية في مجلس النواب من الحزب الديمقراطي، وفي هذا المجلس يحتاج أي قرار إلى الأغلبية البسيطة لتمريرها، فعدد مجلس النواب 435 نائبا منهم 232 ديمقراطي، و197 جمهوري، واحد مستقل، وخمس مقاعد شاغرة، لهذا مر قرار العزل، وأرسلت الدعوة إلى مجلس الشيوخ. وفي قرار الحرب بشكل عام، كانت الأصوات 227 مقابل175، وعن الحرب على إيران 230 مقابل 166، أي عمليا ظلت الأقلية الجمهورية مناوئة للأغلبية، أي في الواقع جميع الجمهوريين يساندون ترمب، بغض النظر على الخلافات العديدة بينه وبين أقطابه على قضايا عديدة.
فمحاكمته إلى جانب بروز بصمتها على نبرة الخطاب، أدت إلى وضوح الشرخ في الشارع الأمريكي، ففي السابق وفي المراحل الأولى من الانتخابات، كان الطرفين يعتمدون كثيرا على جذب المستقلين إلى جانبهم، لكننا نلاحظ أن أغلبية هؤلاء توضحت مواقفهم الآن، أما مع ترمب أو ضده، ولا يهم من سيكون مرشح الديمقراطيين. باستثناء حالات في ولايات شمالية كولاية أوهايو التي نادرا ما يتوقع المراقبون توجههم قبل الانتخابات.
وتبقى السياسية الخارجية هي الأهم بالنسبة للشعوب التي تتعامل مع أمريكا، ونحن الكرد من ضمنهم، والتي لم تأخذ حيزا كبيرا من خطابه (علما أنها عادة مركز اهتمام معظم الرؤساء الأمريكيين، كأكبر إمبراطورية اليوم في العالم) باستثناء ما حصل على خلفيتها تأييد الشارع، كتصفيته للبغدادي، والقضاء على دولة الخلافة الإسلامية 100% حسب قوله، ومن ثم تصفية الإرهابي العالمي، الجزار كما وصفه (قاسم سليماني) وهنا ليسخر هذه المسألة لحملته الانتخابية، كان قد أحضر أبنة أحد الذين تم قتلهم بيد الإرهابيين في العراق قائلا أن قاسم سليماني كان وراء قتله وقتل العديد من الجنود الأمريكيين، ومعها هدد إيران، مع الإبقاء على كوة دبلوماسية للحوار في حال أرادت إيران الخلاص من الحصار الاقتصادي المميت حسب وصفه.
كما وعاد إلى قضية إعادة الجنود الأمريكيين إلى دارهم، معيدا إستراتيجيته، محاولا التأكيد على أنها الأفضل للشعب الأمريكي، مدعيا أنه ليس فقط حسن معيشة المواطن، بل يحميهم من الإرهاب الخارجي، وفي الواقع هذه لن تمر حتى على الجمهوريين الذين تعتمد إستراتيجيتهم على الخلافات السياسية الخارجية، ويقال أحيانا على صراعات السلطات والأنظمة، والمشاكل الاقتصادية أو العسكرية، ولهذا فلا يتوقع أن يتمكن من تطبيق ما ذكره، ونعلم كيف فشل سابقا في هذه المسألة عدة مرات، وخير مثال عملية سحب جنوده من شرق الفرات، المنطقة الكردية، وتراكم الانتقادات عليه من عدة جهات بينها البنتاغون، وأقطاب من الجمهوريين. وليعطي أهمية لقضية دعمه للجيش والقوة العسكرية الأمريكية، تباهى بأنه خلق ولأول مرة في التاريخ (الجيش الأمريكي الفضائي).
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نرجح أن القوات الأمريكية لن تغادر شرق الفرات، وعلى الأغلب ستكون أكثر حزما من السابق في حال أعادت تركيا محولتها مهاجمة مناطق أخرى من شرق الفرات، علما أن تركيا صعدت في الإيام الأخيرة وعلى خلفية إخفاقاته المتتالية في منطقة إدلب، والتي قد تؤدي إلى حدوث خلاف بينها وبين روسيا، ولا نستبعد أن التصريح الأخير حول عدم التعامل مع تركيا على سوية المعلومات المتداولة عن طريق الطائرات بدون طيار، كانت رسالة لتركيا بألا تعيد تجربة دخولها ما بين سري كانيه وكري سبي.
وفي النهاية لا يستبعد أن ينجح ترمب في الدورة الثانية، إلا إذا صعد أحد الشباب من الحزب الديمقراطي كمنافس له بدل الثلاث المخضرمين والذين تتجاوز أعمارهم الـ 75 سنة (دونالد ترمب 73 من مواليد 1946)، وقد تبين وجود مثل هذه الاحتمالية بعد نجاح (بيت بوتيكيك 38 سنة من مواليد1982 خريج جامعتي هارفارد وأكسفورد، له كتاب منشور) في ولاية أيوا، وهو من الجيل الشاب ومتكلم، لكنه لا يزال مغمورا مقارنة بالكبار ضمن الحملة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
5/2/2020م