كم من الشرفاء ممن لا تربطنا بهم إلا رابطة الإنسانية أو المواطنة قد وضعوا رقابهم تحت المقصلة وأمام الجلاد ثم قالو هذا أنا وهذا أنت فإفعل ما تؤمر به وقد فعلت أنا ما أُمرت به من قبل شعبي .
كم من القادة الأفذاذ في العالم ممن أعطو ولم ينتظروا كلمة شكر واحدة ، كانو يحملون في هوياتهم إسم مواطنون شرفاء فقط ، ربما كانو فقراء أو أغنياء ، بسطاء أو علماء ، ومن كافة القوميات والأديان والمذاهب ، لكن كلمة واحدة كانت تجمعهم ألا وهي الوطن وبقيت أسماؤهم تُردد عبر التاريخ وفي كل ثورة وفي كل محفل وتُؤلف عنهم الكتب والمراجع ، قد تكون حياتهم قصيرة لكنها زاخرة وشاسعة ومشعة كأشعة الشمس تحترق لكي تمنح الدفء لمن حولها . مرت علينا أسماؤهم مثل غاندي ، عمر المختار ، مارتن لوثر كنك ، جيفارا ، جميلة بوحيرد ، حسين مروة ، سلام عادل . وكل شعب في هذا الكوكب قادر على إنجاب المزيد منهم .
لقد أنجب العراق المئات من الشهداء كل منهم إسطورة بذاتها وعلى مدى التاريخ السياسي العراقي . لقد تمخضت ثورة تشرين عن العشرات من الأساطير البطولية الإستثنائية لمختلف الفئات والأعمار لكن هناك دائماً أضواء ساطعة لكل الشعوب تنبثق من بين عامة الناس لا تطلب منصباً أو قيادة أو حسابات مصرفية بل تضع الجسد والروح تحت تصرف الشعب ، فلا يملك الشعب إلا أن يتبعه ويتبع عشقه للوطن وإيمانه بأحقيته في الحياة ، لكن الحياة هنا لا تمر أسفاً إلا على جسور الموت ، فنجد أيدي القتلى تتشابك ما بين الضفة اليمنى واليسرى لنهر دجلة حتى يعبر رفاقهم بسلام ، هؤلاء هم من صدقوا بأن المستقبل لهم وإن لم يكن لهم فهو لأبنائهم ، كان منهم الصحفي والطالب والأستاذ والطبيب والصيدلي والعامل والفلاح وأُجراء الأسواق والورش ، وكان منهم أيضاً الأديب والعالم ، ومنهم من سقط في أول الركب وهو الروائي علاء المشذوب ، ثم سقط صفاء السراي ثم سقط بعدهم العشرات والمئات ، ثم ظهر على الدرب مشعل آخر من مشاعل الثوار مشو وإلتفو حوله وكان هو الدكتور علاء الركابي ، وكان صدقاً نبيلاً في قيادته وخوفه على الشباب الفتي المتظاهر فإستخدم مهنته لمساعدة الشباب النازف . لم تلوث الولاءات والإنتماءات هذا المواطن فبادله الشعب محبة بمحبة ، فالشعب العراقي ذكي وأبي بالفطرة يعلم جيداً من يقوده إلى الهاوية ومن يقوده إلى الإثنتين أما النصر أو الشهادة .
كل القيادات قابلة للشراء والمساومة إلا من ترك بيته الدافيء ومصدر رزقه جاعلاً من نفسه ضماده لجراح الشعب ، أمثال هؤلاء لا يُباعون ولا يُشترون بل جعلهم الشعب مالاً وقفاً له ويبقى بهم الإحساس بالنقاء الأقصى ويبقى ذكرهم عطراً يفوح بالأجواء مع كل ذكر لهم .
وستبقى أمهات العراق منجبة لمزيد من الرموز يتبادلون المواقع ويُسلم أحدهم الراية للآخر ، لكن الوطن يبقى واحداً لا يحتمل التقسيم أو المساومة وهو غير قابل أيضاً للإستنساخ أو التقليد المشوه ، فهو التراب الأصيل الذي ينبع من أعماق الأرض وفيه رائحة النخيل ولم تلوثه بعد الأقدام الوسخة .