يقول مثلٌ عربي “السفينة تغرق إن كثرَ ربابنتها”. هذا ينطبق على العراق، فهو اليوم مثل سفينة تائهة بين أمواج العاصفة، وكلّ ربّان يأتي ليقودها يكون ضعيفاً وهزيلاً وغير حاسم. والسفينة تترّنح، والفوضى تعمّ أرجاءها بين ربابنتها . كلّف محمد توفيق علاوي بمنصب رئيس وزراء للعراق في ظلّ مظاهرات مناهضة للحكومة والنظام السياسي برمّته، وكانت محتدمة منذ أكثر من أربعة أشهر، وهي تطالب بوضع حدّ قاطعٍ للفساد السياسي. وقدّم المتظاهرون شروطهم لاختيار رئيس وزراء جديد، ويدرك كلّ العراقيين أن الرجلَ الجديد لا يمكن أن يوافق عليهِ الأحرار من الثائرين المنتفضين، كون شروطهم لا تنطبق عليه أبداً، ولكن رئيس الجمهورية قامَ بتكليف هذا ( القبطان ) الجديد، إثر فشل البرلمان في القيام بذلك أكثر من شهرين، تاركًا البلاد والعباد بلا رحمةِ، ولا تقديم أي حلّ ناضج، وفي وقتٍ تزدحم فيه الأزمات السياسية المتعدّدة.
رئيس الوزراء العراقي المكلف (أو الجديد؟) عضو سابق في البرلمان، ووزير سابق للاتصالات. اتّهمه رئيسه نوري المالكي سابقاً عدّة اتهامات إثر خلاف معه، ولكن العراقيين باتوا يدركون أن مزاعم الفساد تطارد أغلب الشخصيّات السياسيّة العراقية. وعلى الرغم من إشادة محمد توفيق علاوي، بعد قبوله التكليف، بالمتظاهرين المناهضين للحكم والنظام منذ أربعة أشهر، فقد وعدَ بإبقاء مطالبهم في المقدّمة، وفي مركزه وعلى رأس برنامجه السياسي. وقال في شريط فيديو “أريد التحدّث إلى الشعب العراقي مباشرة”. “لقد قرّرت التحدّث معك قبل التحدث مع أي شخص آخر، لأن قوتي تأتي منك وبدون تضحياتك وشجاعتك، لن يكون هناك أيّ تغيير في البلد”. وهذا كلامٌ كبير، لكنه غير نافع، إذ لم يعد الكلام المعسول ينفع من دون اتخاذ أيّ فعل على الأرض، وإجراءات تخطف الأبصار، خصوصاً وقد بات التعامل مع جيل جديد أذكى بكثير مما نتصوّر.
ليس في استطاعة توفيق علاوي الإيفاء بتعهّداته، فاذا كانت له قوته وجرأته، فمن الطبيعي أن ينزل إلى ساحة التحرير، ومنها يصدر قراراته الثورية، ويشكل وزارته في منأى عن أيّ طرف، ويقوم بتجميد حركة الفرقاء من الأحزاب والقوى السياسيّة المهيمنة على النظام. مجرّد إطلاق الكلام المعسول على عواهنه لا يجدي. وبقدر ما أطلق الوعود لم يُسكت الاحتجاجات التي انقلبت ضدّه الآن كونه غير مطلوب، بل وقد غدا المسؤول عن أرواح العراقيين ودمائهم التي لم تزل تهرق منذ تكليفه برئاسة الحكومة، ومن قبله قتل مئات وجرح آلاف.
غرق العراق في مشكلات وتعقيدات، منذ بدأت الاحتجاجات التي تحدّت النظام السياسي، ثم أصبحت عنيفة بشكلٍ متزايد بعد استخدام السلاح والنار ضدّ المتظاهرين السلميين. وقد وصلت هذه التوترات إلى ذروتها مع مصرع كلّ من الجنرال قاسم سليماني ووكيل قائد الحشد الشعبي وفصائل عدة موالية لإيران في العراق. ومن غير الواضح ما إذا كان تعيين رئيس وزراء جديد مثل هذه الشخصية سيؤدي إلى تهدئة البلاد، ويسكت مطالب العباد، أو ما إذا كانت الأحزاب السياسية والجماعات والفصائل المسلحة، ولعديد منها صلات عضوية بإيران، ستستمر في السيطرة على المشهد السياسي.
لم تأت الاحتجاجات التي تطالب بوضع حدّ للفساد والتدّخلات الإيرانية بإعادة وطن من فراغ. ويؤكد استمرارها مصداقيتها وقوتها في آن، على الرغم من القمع العنيف الذي تلقاه المحتجون والمنتفضون من قوات الأمن العراقية، والطرف الثالث الذي عُرف أنه فصائل مسلّحة مرتبطة بإيران. مجرّد الاستجابة لإرادة العراقيين المنتفضين تعني على الأرجح أنّ الطبقة السياسية الراسخة ستفقد السلطة، شاءت أم أبت. وبقيت سلطة “المرجعية الشيعية” غير قادرة على أن تأخذ أيّ موقف حاسم ضّد قتل الشباب المطالبين بالتغيير، والذين دفعت ضغوطهم رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي، إلى الاستقالة في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. منذ ذلك الحين، لم يستطع البرلمان، ولا رئيس الدولة، العثور على مرّشح قوي لرئاسة الوزراء، يمكن أن يوافق عليه كلّ من البرلمان والمتظاهرين.
يعدّ اختيار محمد توفيق علاوي محاولة لاختيار شخصٍ عمل مع مجموعة واسعة من الأحزاب السياسية، وهو مهندس وخلفيته دينية. ويقول من يعرفه إنه عاش حياته منغلقاً على نفسه، ولا يمتلك مؤهلات رجل دولة، وليست له قدرة على الحسم وإدارة الأزمات، وليس له تاريخ سياسي وإعلامي قوي، باستثناء نشاطه في المعارضة ضد صدام حسين سابقا، وانجذابه إلى حزب الدعوة وعدم انسجامه مع الآخرين، كما أن علاقته ليست قويّة بقريبه إياد علاوي الذي يختلف عنه جملة وتفصيلاً، شخصياً وسياسياً واجتماعياً ونضالياً . وقد أشيع أنّ الشعب اختاره، فلم يأت مرشّحاً من كتل سياسيّة، ولكن يبدو أنه وصل إلى السلطة إثر طبخةٍ دبّرت بين قُم وبيروت، من خلال مقتدى الصدر الذي بارك تكليفه مباشرة، كون الاثنين يرتبطان بقرابة ومصاهرة. وعليه، لم يصل محمد توفيق علاوي إلى السلطة إلّا بموافقة إيرانية كالعادة. المهم أن سياسته ستتّضح للجمهور العام من خلال برنامجه وفريقه الوزاري وقراراته، وتعجيله بإجراء انتخابات مبكرة، والسعي إلى الحفاظ على سيادة البلاد، وموقفه من الكتل والأحزاب والقوى المشيطنة والعميلة والشريرة .
إذا استطاع محمد توفيق علاوي أن ينجح، على الرغم من افتقاره إلى قاعدة سياسية، وعلى الرغم من صعوبة تحمّل ضغوط الفصائل المسلحة الموّجهة من إيران، فكيف سيوفّق في مهمّته، إن كان ضعيفاً، ولم يمتلك كاريزما أو سجايا زعيم قوي، فكيف باستطاعته أن يمتلك المقدرة على التغيير الجذري؟؟ علما أنه غدا مباشرةً في مرمى المحتجيّن والرافضين الذين لم تخدعهم تعابيره عن تعاطفه معهم. لقد شكّكوا في مصداقيته منذ تكليفه، وانتقدوا رئيس الدولة على ذلك.
علينا أن نسأل الرئيس المكلّف محمد توفيق علاوي: هل في مقدورك أن توّحد كلمة العراقيين من خلال برنامج وطني ؟ وهل في استطاعتك أن تقود ثورة التغيير ضدّ الطبقة الحاكمة، إذا اعتبرت نفسك لست جزءاً منها؟ وهل لك الاستقلالية الكاملة في تأليف وزارةٍ بعيدة عن المحاصصة ، ولا علاقة لوزرائها بهذه الطبقة الحاكمة، وهي قادرة على تأدية مهامها على أحسن وجه؟ هل في استطاعة وزارتك أن تحافظ على المال العام، وتطهّر العراق من الفاسدين، ومحاكمة كلّ المجرمين والقتلة وجاهياً وعلنياً؟ هل باستطاعتك وانت المهذّب ان تقضي على قراصنةٍ من الأشرار المتوّحشين ؟ الأهم والأخطر، هل لك الشجاعة الكافية تحديد علاقات العراق مع إيران، والغاء كلّ عملائها في العراق؟ إذا نجحت في ترجمة إجاباتك عن هذه الأسئلة عمليّاً على الأرض، فسيصفّق لك كلّ العراقيين، وإلّا سيكون الثمن غالياً.
نشرت في العربي الجديد / لندن يوم الخميس 6 شباط / فبراير 2020 ، ويعاد نشرها على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل