منذ قرابة اربعة اشهر ومحافظات الوسط والجنوب تشهد حراكا دمويا راح ضحيته المئات من المواطنين والقوات الأمنية.
بالرغم من الطابع المطلبي لهذا الحراك، والذي حصل على تعاطف منقطع النظير من قبل المرجعية المباركة والوسط الجماهيري، إلا أنه أخفى بين ثناياه ملامح لصراع كبير بين القوى المتنافسة على المشهد السياسي، سواء كانت داخلية ام خارجية.
ان ما يصيب المراقب بالحيرة في تقييم الوضع الحالي، هو إن وقود هذا الصراع هم ابناء الطبقة المسحوقة التي عانت ما عانت من سياسات الانظمة السابقة من حيث الإقصاءوالتهميش والمطاردة والاستهداف تحت عناوين طائفية ومناطقية، يضاف إلى ذلك انها دفعت ثمن الخلافات السياسية للطبقة الحاكمة بعد سقوط النظام، وما رافق ذلك من عمليات إرهابية منظمة قامت بها عصابات القاعدة وميليشيات القتل الممنهج على مدى السنوات الماضية.
المؤلم في هذا المشهد إن تلك المناطق تعتبر صمام أمان للشعب العراقي لتقارب نسيجها الإجتماعي وبعدها العشائري، كما أنها تعد الخزين الإستراتيجي للمرجعية الدينية كونها تعبر عن عمق الأصالة للمجتمع العراقي.
هل من المعقول أن يتحول خلاف سياسي بين ارادات متقاطعة الى صراع دموي يذهب ضحيته الأبرياء والمغرر بهم؟
أيعقل أن يتحول ابناء الوسط والجنوب الذين قاتلوا الإرهاب سوية إلى اعداء يوجه احدهم سلاحه صوب الآخر بعد أن امتزجت دمائهم على سواتر الشرف والإباء؟
هل من الاخلاق والعقيدة والوطنية إلا يؤخذ بكلام المرجعية بما تمثله من ثقل في العالم الإسلامي فضلا عن الواقع العراقي حين تدعو الى توحيد الصف ومنهجة المطالب ونظم الأمر وافراز المندس واحترام الذوق العام والمحافظة على الممتلكات العامة والخاصة؟
أيعقل أن يتم تجاهل الدولة وإسقاط هيبتها بالتعدي على المؤسسات والتجاوز على القانون من قبل من يدعي انه خرج لاستعادة الوطن المسلوب والحفاظ على خيراته المنهوبة؟!
أمن الاخلاق والمروءة ان يهان الشهداء، ويتم التعدي على رمزيتهم والكل يدرك أن تضحياتهم سببا للعيش فى كرامة، وبفضلهم خرج اليوم من اراد التعبير عن رأيه، حتى اولئك الذين تجرأوا على طمس معالم الشهادة في بلادها!
يبدو ان الأمر تعدى مرحلة المطالبة بالحقوق، بعد أن اسقطت كل رمزية في نظر “الثائرين”، وهو ما يجعل المراقب يتأمل المشهد بإرتياب شديد، ففي الوقت الذي يقاتل فيه ابناء الحشد الشعبي والقوات الامنية عصابات داعش وخلاياه النائمة مستفيدة من هذا الوضع، يوجه ابناء المحافظة ذات المكون الواحد أسلحتهم الى صدور بعضهم البعض، ولا يعلم انه بهذا السلوك يدعم ويساند الإرهاب من حيث لا يعلم، ومن يجر حزبه وكيانه السياسي او الجهة التي ينتمي إليها الى نزاع مسلح يضر بسمعة انتماءه ويقوض الدولة وينخرها من الداخل.
لا يمكن الحكم بعفوية ما يحدث، فالأمر لم يعد نزاعا حدث بالصدفة، إنما هو مشروع منظم يراد به حرق الجنوب وقتل ابناءه في حين أن بقية مناطق البلاد تشهد استقرارا مجتمعيا وسياسيا بالرغم من حجم المعاناة التي يعيشها ابناء تلك المناطق من ناحية المحرومية ونقص الخدمات وانعدام مقومات الحياة الكريمة.
لقد قطعت الأجندات السياسية أشواطا ومديات طويلة تعبر عن خبث النوايا تجاه هذا البلد بعد فشل مشروع داعش الظلامي، لكن بأسلوب جديد يعتمد طريقة “من لحمك اطعمك”، وعليه لابد من الإنصات لصوت العقل الصادر عن مرجعية النجف الاشرف والتي تؤكد في خطاباتها المتكررة على ضرورة تشكيل الحكومة باسرع وقت لتمهد إلى إجراء انتخابات نزيهة بقانون يحفظ حق الناخب شريطة المشاركة الواسعة من قبل الجماهير، كي يكون البرلمان القادم على قدر المسؤولية خصوصا في ما يخص القرارات المصيرية ذات العلاقة بالشأن السيادي للبلد وابعاده عن محاور الصراع والاخذ بنظر الاعتبار كل السلبيات التي رافقت التجارب السابقة خصوصا الراهنة منها كي يستعيد العراق جزءا من عافيته التي ساهمت شريحة واسعة من أبناءه في حدوث هذه الانتكاسة.