ولدتُ في بيئة “شفهية”…كل شيء فيها شفهي…الوعود والكلام والنصوص التي تقيكَ النار ،والتعاليم التي ترشدك لفحوى الحياة…كل شيء شفهي قابلاً للنسيان والاهمال والتحريف، فـترى ذاكرة ابناء جيلي والاجيال التي سبقتني كذاكرة الموانىء التي تستقبل في اليوم مئات السفن والآف الاشخاص…ذاكرة مائية لاتهتم بالتفاصيل الصغيرة ومناديل الوداع المبللة ولحظات الوداع الاخيرة وقصص الحب والحرب العابرة وشحنات المواد الضائعة وحقائب الحزن التي ليس لها صاحب. ذاكرة هذه الملة تحتفظ فقط بأرقام
” الفرمانات”والمناسبات المهمة التي واكبت تلك المآسي بأيام او اشهر لا اكثر، لذا دشنَ صديقي (مراد سليمان علو) ورشة عمله في النحت على تلك الذاكرة الميتة وتلك الزوايا المظلمة والرفوف المنسية في حياة هذه البقعة الغنية بالاحداث ( سنجار) او كما يقولها الاهالي ” شنكال”.يبدأ منذ فجر التاريح المكتشف فيها …الرومانيين…الساسانيين…الايوبيين..انتهاءا بمرور جحافل الدولة الاسلامية في العراق والشام” داعش”.
يخبرنا مراد بمرارة على لسان بطله(حسن) كيف انه قضى سنين عمره القلقة كلها بلعبة العسكر والحرامية، وكيف ان الغُزاة دوماً كان العسكر وهو واهله المساكين عبارة عن شرذمة من الحرامية…” لعبنا معاً لقرون لعبتهم المفضلة،(عسكر وحرامية)ودائما كانوا هم العسكر. يقتلونا؛ لأنهم العسكر. يأسرونا، فما نحن الا حرامية. يغتصبونا؛ لأننا وافقنا ان نقوم بدور الحرامية، ووافقنا ان يقوموا هم بدور العسكر. طوال قرون لم يملوا من دور العسكر، ولم نتعب نحن من دور الحرامية”…
ما ان تقرا الرواية حتى تجد نفسك جزءاً من الحكاية ،فالمؤلف اخذ اعترافك بسلاسة ودونَ سيرتك الذاتية المنسية في ذاكرتك المتعبة، سيأخذك الشك ان ما ورد على لسان الابطال هم عائلتك، اوجيرانك او معارفك. حسن بطل الرواية يغادر سكينية القرية بعد قرار الحكومة هدم القرى القديمة القريبة من جبل سنجار وبناء” المجمعات القسرية” في سهول سنجار وليسكن مجمع سيبايه ” مجمع الجزيرة” الذي ينقصه كل شي …وبحاجة لكل شيء..” الرمل هنا يدخل في كل فراغ، وفي كل مكان،وتصبح الحياة كأنها مزحة ثقيلة من السماء”…
بعد انتقال حسن الى سنجار البلدة المتجانسة الاعراق والمذاهب والاديان تصقل شخصيته وتكبر افاق تفكيره لحين الدخول الى الجامعة في مدينة الموصل التي تبهره ليحوله لشاعر رقيق كثير الاحلام..” لابد ان كل ثور مجنح هو جني حقيقي كان يحرس نينوى ولابد انه كان شجاعا وقويا وحكيما”…
” نيسان هنا تعلن اسرارها للسماء من قلب نينوى، والاشجار تبدو وكأنها فتيات بملابس ملونة وكقصائد لشاعر اثملته قصة حب لا يصل الى نهايتها ابدا”.
الاصدقاء الذين يستشهدون في حرب ايران والكويت او على ” سواتر” سيبايه القريبة هم نفسهم آبائنا واخواننا وجيراننا الذين فقدناهم في هذه الحروب العبثية التي ليس لنا فيها ناقة او جمل.وجع الامهات والارامل وقصصهن وعذاباتهن المستمر تتمثل بشخصية الحبيبة ليلى الصبورة والحكيمة
“لاشيء مثل الحكايات تلتهم الوحدة، ولاشيء مثل القصص تقضي على الجزع، ولا شيء مثل الحكم تملأ فراغ الروح، ولن يكون هناك في الدنيا مثلي من سيقدم البسمة لهؤلاء الايتام. امتلك حقولا من الفكاهة والطرائف والنكات وسأحصد المرح مع ابنائي من حقولي التي امتلكها والتي هي لنا.”
يجعل الكاتب من الحكيم سينو محوراً لمعظم الحكم والمواعظ والتنبؤات الواردة في الكتاب دلالة على الذات الايزيدية المتجددة عبر كل زمان ومكان والتي لا تتحطم رغم المصائب والفواجع التي حلت بهم في الفرمانات السابقة…” جد لي يوما من ايام حياتك لا يكون الصبر فيه جميلا ومفيداً”
” من اراد ان يعيش في ربيع دائم عليه بالصدق الكامل”
” تحملهم الريح الى اعالي الجبال؛ ليتعلموا من الصقور مواجهة الاعاصير
يعزلون الناس ليتحدوا مع الرمال ويصادقوا الزوابع
يمشون مع الانهار الراقصة على الحان موسيقاهم
تعلموا من سر اعيادهم اما الارض هي للارواح التي ترافق الطيور في هجرتها الموسمية، وليست للاجساد التي تسكن القبور”.
رواية سينو بأختصار هي صفحة موجزة لـِسفر الايزيدية ومأساتهم للسنين الماضية،ووثيقة مهمة لأحداث متراكمة لتاريخ ” منطقة شنكال “تلك البقعة المنسية من العراق .
صلاح حسن رفو
شكرا لقراءتك الجميلة صديقي الحبيب..