” لن انزع ثوبا أكساني الله” هكذا رد الخليفة ( الراشدي) الثالث على زوجة الرسول عائشة بنت ابي بكر، حين اتهمته بأنه أبلى دين وسنة محمد وحرضت الناس على قتله ( اقتلوا نعثل فقد كفر ).عثمان الذي عزز مواقع الارستقراطية العربية الصاعدة بعد ما يسمى بالفتوحات وواصل السياسة العمرية( نسبة لعمر بن الخطاب) في توزيع العطاء ، إلا انه خص الفرع الاموي بامتيازات خاصة.
قادت هذه السياسة الى دراما قتله ودفنه. عثمان هو أول من طرح هذا الشعار بلباسه الديني وهو انعكاس لنفوذ القوى الصاعدة ، التي انطلق شيطانها نتيجة الثروة غير المعقولة ، المتراكمة ، خلال سنوات قليلة وبدون جهد يذكر. لا يعني هذا الامر، أن الذين قبله لم يجسدوا هذا الشعار وخاصة في سقيفة بني سعد ، حين خاض المهاجرون والانصار الصراع على خلافة نبيهم ، لكن لم تكن محاججتهم بلبوس دينية أو ذات طابع ديني، سواء على مستوى النص أو الممارسة وانما اخذت طابع أخر من المفاضلة والاسبقية والعشيرة وغيرها..
تحول تبرير عثمان هذا الى سلوك ونهج ثابتين في سياسية الامويين ، الذين حولوا الخلافة الى وراثة ومُلكٍ عضوض ولم يتورعوا يوماً عن ذبح من عارضهم او شكّوا في معارضته لاستبدادهم. رغم إن الامويين لم يدمجوا الدين في الدولة على عكس العباسيين ( كانوا فرقة شيعية وبعض الكتاب يعتبرهم فرقة شيعية متطرفة )، الا أن الامويين استخدموا الكتاب والسنة ، بالطريقة التي ارادوها، بدءاً من ( الامامة في قريش ) واستخدام هذا الحديث الموضوع لاحقا لتبرير شعارهم ( ما ننطيها )، الى فكرة أخرى مفادها ( طاعة الله والرسول وولي الامر). ثم اعتبروا خلفاءهم، الذين تحولوا من خلفاء رسول الله الى خلفاء الله في الأرض. هم ولاة الأمر المفروضين الطاعة المطلقة .. كفّروا مَنْ عصاهم أو عارضهم واعتبروهم غير خاضعين للحساب في الآخرة وقد اصطفاهم الله من البشر لهذه المهمة وايدهم بسلطته المطلقة الواجب طاعتها المطلقة ، بما في ذلك (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وحتى معصية الخالق) وكفّروا معارضيهم.
الامويون هم أول من قالوا بـ(العصمة) لخلفائهم في الاسلام . والمفارقة ، هنا، أن اول من أستخدم كلمة ” المعصوم ” هو (الحجاج بن يوسف الثقفي ) في وصف الخليفة الأموي (عبدالملك بن مروان). انظر ( أحمد الكاتب . تـطور الفكر السياسي من الشورى.. الى ولاية الفقيه. ص 40، نقلا عن العقد الفريد ).
تحوّل شعار العصمة والمعصوم عند الامويين ولاحقاً عند العباسيين الى تبرير دينى لشعار ( ما ننطيها ) ليعيثوا في الارض فساداً ولتسيل بحور من دماء معارضيهم، الذين أرادوا العودة بالإسلام الى منابعه الاولى. أن أحد ابرز وجوه شعار ( ما ننطيها ) هو الصراع بين الارستقراطية العربية وسلطتها المطلقة واثرائها غير المشروع و عامة الناس ، الذين كانوا بنتيجة الفوارق الطبقية والاجتماعية والسياسية وغيرها يٌدفعون من هامش الى أخر، ليغرقوا في مستنقعات الفقر والتجهيل. لكن أحدى مفارقات التاريخ الكبرى، ان تأتي قوى المعارضة لهذا الاستبداد لتلتحف بفكرة المعصوم في صراعها ضد الامويين والعباسيين. كان الشيعة وعلى مد التاريخ هم اكبر قوى معارضة في تاريخ الاسلام وهم فرق عديدة ويقدرها الباحثون بالمئات، ولن يبقى منها حالياً إلا فرق محدودة . يشكل الاثنا عشرية الفرقة الاكبر والأوسع، حالياً، بسبب ظروف معينة لا مجال لذكرها الان. هي فرقة ظهرت في القرن الثالث الهجري واستغرق استكمال صياغة فقهها ما بين قرن ونصف الى قرنين..
لم تستطع الفرقة الاثنا عشرية من إقامة نظرية بديلة عن نظرية الامويين في الحكم وانما انشأت عقيدة موازية لها أو بالأحرى على هامشها، واقامت نظريتها في (الإمامة) على أساس (الإمامة الإلهية) لأهل البيت المستندة على ( النص والوصية والعصمة )، رغم أن التاريخ لم يحمل لنا في سلوك أهل البيت والائمة الاثني عشر وكذلك الكثير من المرويات الموثوقة والتي لا تتعارض مع النص القرآني، ما يؤكد ادعاءهم (العصمة) أو ادعاء النص على إمامتهم أو وصية أحدهم للآخر بــ(الإمامة) . بل على عكس ذلك، فهناك العديد من الدلائل وليس المرويات الموضوعة تشير الى انهم لم يدعوا العصمة ولم يدعوا النص على إمامتهم أو مشاركتهم في معارضة الحكم القائم أو دعوا للانتفاض عليه أو أوصى أحدهم لاحد أبنائه أو أورثه الامامة أو الزعامة.
بقى الاثنا عشرية ولأسباب مرتبطة بعقيدة المهدي المنتظر وغيرها بعيدين عن عالم السياسة ونشاطها ، التي تعني بالنتيجة النهائية الوصول الى السلطة. التغير الكبير جاء مع الثورة الايرانية وطرح نظرية الولي الفقيه ، التي تولاها الخميني . لكن هذا الاسلام السياسي الشيعي ، كما اظهرت الاحداث اللاحقة ، لم يختلف في جوهره عن نظيره الاسلام السياسي السني، فهو في النهاية جسّد، من جديد، شعار ( ما ننطيها ) واقام الخميني والاسلام السياسي الشيعي (دولة ديكتاتورية دينية) لم تحترم حقوق الانسان ،سواء المسلم أو غيره، فلم يكن في دستورها تداول للسلطة ولا مؤسسات دستورية، مستقلة . بالنتيجة النهائية خلقت امبراطورية الاغنياء مقابل شعب يكدح ،يومياً، من أجل العيش.
أما تجربة الاسلام السياسي الشيعي في العراق فهي غنية عن التعريف بالرغم من محاولة اضفاء الطابع الديني لممارساتهم وفسادهم واجرامهم بحق العراقيين ولا وطنيتهم فقد تصدر شعار ( ما ننطيها ) الراية الاعلى في كل سلوكهم ، وقد عبر بعض قادتهم و( فلاسفتهم ) عن (الشرعية الدينية) لوصولهم الى دست الحكم والتمسك به. ففي المحصلة الاخيرة اظهرت الاحداث والمواقف ارتباطهم بالولي الفقيه، رغم كل محاولات اللعب على الحبال. الأسوأ من ذلك هو انتقال العدوى واقصد شعار ( ما ننطيها ) الى تيار واسع مثل التيار الصدري ، الذي يختلط فيه الديني والسياسي بشكل عجيب. انه تيار تشكل فئات الكادحين والفئات الوسطية قاعدته الاوسع على عكس قيادته ، التي هي جزء من نظام المحاصصة وذات الثراء الواسع وهي جزء من بنية منظومة الفساد. الصدريون هم الذين كانوا يٌثيرون العديد من الاسئلة المفتوحة، سواء في تحريك قواعدهم وتقبٌل سلوكهم وسياساتهم المتناقضة والمثيرة للأسئلة أو في سلوكهم بهذا القدر من الالتزام الصارم والطاعة العمياء والتشدد في المواقف والسلوك العدواني لهم ولمن يعارضهم والسعي للهيمنة ( ما ننطيها ) سواء أن كانوا في قمة هيكل الدولة أو في أوساط الساحات وبين جماهير المعارضة والمنتفضة رغم أنهم لم يعرفوا اشكال التنظيم الحديث والعمل الحزبي ولانعدام شكله المؤسسي أو الحزبي إلاّ في حدود مليشياتهم المسلحة . الحركة عندهم قائمة على مركز واحد هو (السيد) الذي ينظر اليه باعتباره (المعصوم) وهو بالتالي مطلق الطاعة وتكفير من لا يقول بمعصوميته ( أنظر مقالة أحمد عبدالحسين، فصل جديد من كاتب المحنة. خطاب الى الامة الصدرية).
اخيرا لا يعني إن العلمانيين هم بعيدون عن شعار ( ما ننطيها ) ولم يمارسوه وللتاريخ شواهده العديدة في هذا الامر ولكن في الاغلب لن يكون المنطق الديني هو غطاء لهذا الشعار.