في دعوى مليونية انطلقت يوم الخميس الماضي تظاهرات حاشدة في بغداد ومدن اخرى جنوب العراق دعت أليها ناشطات عراقيات ردا على الهجمات الإعلامية وحملات التشويه والأعتداءات التي طالت النساء المشاركات في الأحتجاجات المناهظة للحكومة. وتزامنت الدعوة للتظاهرة مع سلسلة تغريدات أطلقها رجل الدين مقتدى الصدر ومقربون منه تدعو لمنع الأختلاط بين الجنسين في ساحات التظاهر, وتتهم بعض النساء المتواجدات هناك بأرتكاب أعمال “منحرفة“. كما تزامنت مع سلسلة اعتداءات تعرضت لها فتيات شاركن في الأحتجاجات في الأسبوعيين الماضيين, من بينها حالة طعن بالسكين طالت فتاة كانت تتواجد في احدى الخيام بساحة التحرير.
ويقول بعض الناشطات إن “الهدف الرئيس من هذه التظاهرة هو الرد على الحملات التي تقوم جيوش إلكترونية تابعة لجهات معينة وتعمل على تشويه صورة وسمعة النساء العراقيات المشاركات في الاحتجاجات, وايضا لإدانة الاعتداءات التي تعرضن لها“. واشارت اللجنة المنظمة لأنتفاضة تشرين الى أن ” هذه المسيرة هي وفاء للعراق وللشهداء وفي طليعتهن: سارة طالب, وهدى خضير, وزهراء القره لوسي, وجنان الشحماني, اللواتي اغتالتهن عناصر مسلحة لنشاطهن في تظاهرات الأحتجاج التي يشهدها العراق منذ الأول من تشرين الأول الماضي ضد الطبقة السياسية الحاكمة“.
وبعيدا عن التهم الجزاف التي تستهدف كرامة المرأة العراقية والتي تلجأ أليها قيادات وبعض من قواعد التنظيمات الأسلاموية المتخلفة, والتي ترى في المرأة عورة وناقصة عقل ودين, فأن الهدف الرئيسي لهولاء يكمن في تشويه صورة الأحتجاجات ضد الفساد وحصر ذلك في دائرة الأخلاق الضيقة التي ليست لها صلة بأهداف التظاهرات المشروعة والتي اندلعت على خلفية أزمة الحكم العامة والمستعصية منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن. فالتظاهر والتظاهرات هو حق دستوري يكفله الدستور العراقي, وكذلك هو من حقوق الانسان الرئيسية التي أقرتها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الأنسان ومعترف بها دوليا, أي ان لكل انسان سواء كان ذكرا أم أنثى حق في حرية التعبير والتجمع والذي يتضمن مجموعة من الأساليب السلمية التي اكدت عليها العديد من لوائح حقوق الانسان والدساتير التي تنسب حق التظاهر الى حرية التجمع أو حرية التنظيم وحرية الكلام.
لقد تعرضت الاوضاع الاجتماعية للنساء والفتيات الى انتهاكات خطيرة على مر العقود الاخيرة جراء الحروب العبثية التي اقدم عليها النظام السابق وتركت آثارها في ظواهر عديدة, ابرزها الترمل بفقدان الزوج وتحمل الزوجة اعباء الإعالة وتضيق فرص العيش الكريم في التربية والتنشئة الاجتماعية للفتيات وللأسرة بصورة عامة, وأشد اوضاع المرأة تراجعا ما حصل لها بعد عام 2003 بدءا من الاحتلال ومرورا بصعود التيارات والحركات والاحزاب الدينية والطائفية الى السلطة, وصولا الى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية, وكان للحروب الداخلية وما سببته من تهجير ونزوح وتشتيت للمكونات, وتدهور الحياة الاقتصادية وتدني مستويات العيش وانتشار البطالة على نطاق واسع وفي اوساط النساء المتعلمات وفي المجتمع بصورة عامة, أثره الواضح في تصدع منظومة الاستقرار القيمي وتدهور في المعايير وانحسار لخيارات التكافئ والتكافل الاجتماعي وقد جعلت من الحياة الاجتماعية أكثر قتامة. ويكفي ان نشير هنا الى حجم الكارثة الاجتماعية عندما نتحدث عن نسبة العوانس وقد بلغت اكثر من 80%, كما تجاوز عدد الارامل والمطلقات المليونين أمراة, وبلغ حجم الأيتام والارامل خمس السكان, وتصاعد نسبة السكان دون خط الفقر الى 40%, الى جانب زواج القاصرات دون 18 سنة, وبعضها لا يتجاوز 11, 12 سنة.
أن زخم مشاركة المرأة العراقية في احتجاجات اكتوبر والوقوف الى جانب الرجل وتصديها للكثير من القضايا المصيرية التي يمر بها العراق, واهمها البطالة والفساد وسوء استخدام السلطة وتدهور الخدمات هي نقطة تحول حضارية وانطلاقة مميزة تعيد للمرأة العراقية مكانتها التاريخية وليس غريبا ان تخرج نساء العراق للمطالبة بالأصلاح ومحاربة الفساد ومحاربة سراق المال العام. أن وجود المرأة في التظاهرات هو انعكاس لوعي المرأة المتبلور على خلفية الأزمة العامة في البلاد والتي بدون شك تطال كلا الجنسين. لقد اقتحمت النساء العراقيات ساحات الأحتجاج من شابات وطالبات ومثقفات ومعلمات وفنانات وأديبات واعلاميات وربات بيوت وارامل وحتى النازحات والمهجرات وقد ألتقين جميعا على قضية واحدة هي الأصلاح, وقد وصلت نسبة مساهمة العنصر النسوي بمختلف تنوعاته الى ما يقارب 40% من مجموع المتظاهرين قياسا بنسبة مشاركتها في تظاهرات 2015 والتي بلغت 15%.
تعرضت المرأة في انتفاضة تشرين الى القتل بنيران القوى القمعية, والأصابات بالرصاص والغاز, والأختطاف من قبل مجهولين. كما تنوعت مشاركة النساء في الاحتجاجات بين تنظيم مطالب نسوية, وتبرعات مادية, واسعافات, وحملات تنظيف تطوعية, واعداد الطعام للمعتصمين ونساطات اخرى كثير, وقد برزت المرأة في الأنتفاضة في مواجهة مخاطر القمع السلطوي, وتعرض الكثير منهن للقتل والاختطاف والاصابات, كما برزت في كسر الاعراف التي تحد من مساهمتها المجتمعية, وأجادة انواع الفنون المختلفة من رسومات على الجدران وغيرها, وقد اثبتت الأمهات وجودهن في الصفوف الامامية الى جانب مختلف النساء المرابطات في الاعتصام وكذلك تركت الطالبات بصمتهن الواضحة في الاحتجاجات.
لا يستغرب المتابع اليوم بأستهداف المحتجات بشرفهن والطعن بكرامتهن, فتلك هي ثقافة التطرف الديني السياسي والذي يمتد بجذوره الى العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, حيث الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لإضطهاد الفتاة ثم المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الإستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها ” كإرضاع الكبير ومفاخذته “, وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يختلط الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض, وهذا الموروث يجد فيه الأسلامويين مادة خصبة لقمع النساء وتكفيرهن وشيطتنتهن على طريق تصفيتهن جسديا.
أن عملية المساواة هي أولا وقبل كل شيء عملية ذهنية ـ عقلية/اجتماعية, تنشأ بفعل عملية التنشئة الاجتماعية والتربية المستديمة للفرد اتجاه نفسه واتجاه الجنس الآخر, تلعب الأسرة فيها دورا مهما وعلاقات الوالدين بالطفل ذكرا أم أنثى, ومعاملة الإخوة الذكور للأخوات الإناث, والتربية المدرسية وما تبثه من فلسفة تربوية حيث تعرض الفرد لمختلف وجهات النظر الفكرية والعقلية اتجاه الجنس الآخر, فيتبلور لدى الفرد اتجاها محددا نحو نفسه ونحو الجنس الآخر, وكذلك العادات العامة والتقاليد, ثم المؤسسات الاجتماعية المختلفة الرسمية منها وغير الرسمية, والأحزاب والأيدلوجيات المختلفة ومدى نفوذها في الوسط الاجتماعي .
أن حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين وما يترتب عليه من اقصاء للمرأة هو نزوع ثقافي أولا, يكفي أن نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة, والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الإصلاح والمساواة الاجتماعية, ولاحقا تعزيز التقاليد والاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة, وعدم تجاهل مطالب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية. ولا نقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولا يمكن الطعن فيه,لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها, ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوت المريع.
اليوم قد يكون من السهل على التنظيمات السياسية الدينية المتطرفة في البحث عن مبررات لأقصاء المرأة من ميادين الاحتجاجات في ظل بيئات متخلفة تعيد انتاج عورة المرأة ودونيتها, ولكن في العراق وبعد تجربة اكثر من عقد ونصف من الزمن من تجربة الأسلام السياسي في الحكم ان هناك وعي بديل دخل البيوت العراقية, تتجسد ملامحه في التوق الى المساوة بين الجنسين في مناحي الحياة المختلفة, ويصتدم هذا مع اجندة الأسلام السياسي في اعادة انتاج الثقافة الذكورية لأغراض بقائه.
بالتأكيد ان حقبة ما قبل اكتوبر تختلف عن حقبة ما بعده, والتضحيات لها استحقاقاتها السياسية والاجتماعية, ولكي نحافظ على زخم الاحتجاجات والأنجاز فأن الأحتجاجات من كلا الجنسين مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى لتنظيم الصفوف وفرز قيادات ذات خبره سياسية ومعهود لها بنزاهتها لتشكل طرفا قويا في الحوار مع السلطة التي تجيد فن المراوغة في البقاء, انه عمل شاق بالتأكيد ولكن على المحتجين التنازل عن الرغبات الذاتية والتخلص من العناد المرضي والتسلح بالوعي اللازم الذي يمنح الفرص للأصلاح الجذري في مسارات العملية السياسية المختلفة.