في البدء دعونا نلقي الضوء على مفهوم الأيديولوجيا ومنبتها، لكي يكون لدينا تصور عام ومختصر
عن هذا المفهوم ومدلولاته واستخداماته، قبل الدخل في تفاصيل العلاقة بينه وبين السياسات الكردية. الأيديولوجيا مصطلح حديث النشأة نسبيآ، وأول من جاء على ذكره هو الفيلسوف الفرنسي: “ديستوت دوتراسي” صاحب مؤلف: “حول ملَكة التفكير“. وعاش هذا الفيلسوف بين عامي: /1754– 1836/.
وكلمة أيديولوجيا مؤلفة من كلمتين هما: الأولى “أيديا” وتعني الفكرة، والثانية “لوغوس” وتعني العِلم. والمصطلح يعني: “عِلم دراسة الأفكار“، من حيث صفاتها وقوانينها وعلاقتها بالفئات التي تمثلها.
وبناءً عليه يمكننا القول، بأن الإيديولوجية هي مجموعة من المُعتقدات والأفكار، التي تؤثر على نظرتنا للعالم. وعصبها الرئيسي مجموعة من القيم والمشاعر التي يلتصق بها المرء بشكل كبير، وهي تشبه إلى حد بعيد المنظار، الذي نرى من خلاله كل شئ ونقيمه، وومهمة هذا العلم، تبسيط الخيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات.
وميزة الأيديولوجيا أنها غير ثابتة ثباتًا مطلقآ، وإنما تتمتع بخاصية الدينامية؛ وتشهد عمليات نمو وتحول وربما اختفاء وظهور جديدة. ويحدث ذلك في ظل الأوضاع الاجتماعية والإقتصادية المختلفة والمتغيرة. فكثيرآ ما تتعرض المجتمعات لتطورات داخلية وخارجية، تظهر على شكل انحرافات عن الأيديولوجيا السائدة، وبذلك تحدث تغيرات في البنية الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها، أو في شكل الصراع بين القيم الخاصة والعامة، والآراء والاتجاهات المختلفة ضمن إطار المجتمع.
المعتقدات والأفكار التي يؤمن بها المرء، غالباً ما تكون قريبة جداً له لدرجة أنه يتماه معها ولا يشعر بوجودها وتصبح من شخصيته. ومن هنا ييعتقد أن معتقداته وأفكاره هي الوحيدة الصائبة والحقيقية، حتى لو كانت تلك المعتقدات خاطئة في الواقع. فعندما تؤمن ببعض المعتقدات إيمانآ راسخآ، فعقلك يجعلك تعتقد أن هذه المعتقدات هي الحقيقة المطلقة والوحيدة، ولا وجود لسواها. لأنها قد سيطرة على تفكيرك الشخصي، ولا تستطيع التفكير خارج نطاق هذه المنظومة، وبالتالي تصبح أسيرآ لها. والدين هو أحد أنواع الأيديولوجيات وليس كلها. المُعتقد الديني له تأثير قوي على آراء الناس بشكل واسع وطريقة تفكيرهم. ولا شك أن هناك فوارق كبيرة بين الأيدولوجيات ولكن جميعها تشترك في هدف واحد، ألا وهو التأثير في أكبر مجموعة من البشر بهدف الوصول إلى السلطة وتنفيذ أفكارها والبقاء فيها.
والأيديولوجيات السياسية منذ نشأتها إرتبطت بطبقات اجتماعية معينة، فمثلآ الليبرالية إرتبطت بالطبقة الوسطى، والأيديولوجيا المحافظة إرتبطت بالطبقة الأرستقراطية المالكة للأرض ولاحقآ المالكة لأدوات الإنتاج، والاشتراكية إرتبطت بالطبقة العاملة أو الكادحة. ومن أهم الأيديولوجيات التي عرفتها البشرية لحد الأن هي:
– الأيديولوجيا الليبرالية. – الأيديولوجيا المحافظة. – الأيديولوجيا الدينية. – الأيديولوجيا الإشتراكية.
– الأيديولوجيا القومية. – الأيديولوجيا الفوضوية. – الأيديولوجيا الفاشية. – الأيديولوجيا النسوية.
– الأيديولوجيا الإيكولوجية (البيئية).
لا يمكن عبر مقال محدود الصفحات الحديث عن خاصية كل هذه الأيديولوجيات، حتى ولو بشكل مختصر. لأن كل واحدة منها تحتاج إلى كتب في الحقيقة. لقد مرت الإنسانية بحقب عدديدة ومختلفة، وتدافعت فيها الأفكار وتفاعلت الفلسفة والأديان معها، وخاضت البشرية صراعات مسلحة ودموية، رسمت خرائط البلدان وحدودها، ورسمت مسار الثروات وكانت الآيديولوجيا نتاجاً للحراك البشري الفكري والعلمي.
اليوم تعيش البشرية في عالم تجاوز تقديس الفكر، الميدان الذي يقدم فيه الآيديولوجيا للناس على شكل حقنة مسموة، ولكنها مرفقة بدعاية مليئة بالوعود البراقة والأحلام والآمال، بحل جميع مشاكلهم خلال فترة قصيرة، وبالقضاء على الآخر الذي تسبب بكل تلك المأسي. لكن رغم هذا التطور ما زال هناك البعض يمارس تقديس الفكر والآيديولوجيا، ومن هنا نشاهد أن التطرف الفكري مازال يفعل فعله في شتى البقع، حيث يسطو العنف على بعض العقول ليخدرها ويدفعها لقتل الآخر. الآيديولوجيا تبقى جبلاً من المتفجرات النائمة أو اليقظة قي بعض الرؤوس وإن تراجع دورها التنظيمي السياسي كسلم للسلطة.
هل إنتهت الأيديولوجيا حقآ كما إدعى فوكوياما؟
قبل سنوات خرج المفكر الأمريكي الشهير فرنسيس فوكوياما قائلآ: أن عصر «الأيديولوجيات» إنتهى وألف كتابآ سماه: “نهاية التاريخ”. وذلك عقب إنهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو ومنظومة الدول الإشتراكية. واعتبر فوكوياما أن إنهيار الشيوعية هو دليل على أن النموذج الوحيد الصالح لحكم البشرية هو: «الديمقراطية والليبرالية الإقتصادية».
لقد عبرت عن رأي حينها وقلت: هذا مجرد شطح لا يمت للواقع بشيئ. وهذا الشطح كان نتيجة فورة إنتصار الغرب الليبرالي على الشرق الإشتراكي والغرور الزائد الذي يتحلى صاحب هذا الشطح. علميآ لا يوجد شيئ إسمه نهاية التاريخ وهو مجرد هراء. ونهاية للأيديولوجيات، قد تندثر بعضها مع الوقت، وتولد أخرى غيرها محلها. بعض الأيديولوجيات الشمولية إضمحلت نهائيآ كالفاشية مثلآ، وبعضها الأخر في طريقها إلى الزوال، وفي المقابل ولدت أيديولوجيات جديدة مثل الإيكولوجيا والنسوية.
أما في كردستان، سادت ولفترة طويلة الآيديولوجيا الدينية وبشكل أساسي الآيديولوجيا الإسلامية كون أكثرية الكرد مسلمين. وهي مستمرة إلى الأن وإن بدرجات أقل من السابق. ومع مرور الزمن تطور الوعي بين الكرد، وحل محلها الآيديولوجيا القومية، وهذه مرتبطة إرتباطآ مباشرآ بوضع الشعب الذي يرزح تحت نير الإستعمار منذ مئات بل الاف السنين.
وفي فترة من الفترات ساد الآيديولوجيا اليسارية، وعلى وجه التحديد الآيديولوجيا الماركسية، وقد تلاشت هذه الآيديولوجيا تقريبآ، وتكاد تختفي من الساحة بسبب إنهيار الإتحاد السوفيتي. ولم تتبلور بعد وبشكل واضح وقوي الآيديولوجيا الليبرالية في صفوف المجتمع الكردستاني، نظرآ لتقسيم كردستان، وإختلاف ظروف كل جزء من الأجزاء الأربعة.
في السنوات الأخيرة هناك مسعى من بعض القوى السياسية الكردستانية، بتسويق ثلاثة آيديولوجيات جديدة إلى جانب الآيديولوجيا القومية وهي:
آيديولوجية نهج البرزاني:
منذ سنوات هناك مسعى حثيث، يقوده بعض الأقلام التي تعمل لمصلحة المشيخة البرزانية، وليس مجانآ بالطبع، يروجون لشيئ إسمه: “نهج البرزاني”. وهذا المصطلح لا معنى له ولا طعم ولا مضمون. وهو في الواقع مجرد كلام فارغ، يردده بعض الأبواق الصحفية وأشباه الكتاب، بتوجيه من قيادة المشيخة، بهدف البقاء في مركز القرار والسلطة. ويحاولون تعويم هذا المفهوم من خلال منحه نوع من الهالة وتغليفه بثوب قومي فضفاض. وعندما تسأل هؤلاء الشبه إميين:
ما هو نهج البرزاني في عدة نقاط؟ على الفور يتهربون من الإجابة، ويتحدثون عن مأثر مصطفى البرزاني!! حسب علمي وعلم أبناء الكرد البرزاني الأب، كان رجلآ إميآ، وبصعوبة بالغة كان يكتب إسمه. كل ما كان يتقنه هو، صنع مسكات السجاير من عيدان الشجر ومنحها لزواره كتذكار. ولا شك عندي أن هذه المحاولة فاشلة منذ البدء ولا مستقبل لها. وإن إستمرار العائلة البرزانية في مركز القرار والسلطة، قائم بفعل قوة السلاح، التي يملكونه والتحكم بلقمة عيش الناس لا أكثر.
آيديولوجية الإمة الديمقراطية:
عبدالله اوجلان بعدما أن القي القبض عليه في كينيا قبل 21 عشرين عامآ، وأودع السجن ليقضي عقوبة السجن مدى الحياة، تخلى عن الماركسية كفكر وآيديولوجيا وعن القومية، وإستبدلها بشيئ إسمه: “الإمة الديمقراطية”. ومنذ عدة سنوات يروج أنصاره هذا المفهوم كآيديولوجيا جديدة لحزبهم، ويحاولون إقناع الشعب الكردي بهذا المفهوم الطوباوي، ومعهم جميع شعوب المنطقة، فهل ينجحون في ذلك؟ برأي لا.
في البداية هل يوجد في العلوم السياسية مفهوم إسمه: الإمة الديمقراطية؟
حسب معلوماتي الشخصية لا يوجد شيئ إسمه الإمة الديمقراطية. وبرأي هذا مجرد هراء وكلام سخيف، لا قيمة له علميآ ولا فكريآ، ولا يأخذه أحد على محمل الجد. ولفهم الأمر بشكل أفضل، وتفنيد هذا الكلام الفارغ، علينا أولآ أن نتعرف على مصطلح الإمة.
ماذا يعني مصطلح الإمة؟
الأمة، هي عبارة عن مجموعة من البشر، يرتبطون فيما بينهم بعدة جوامع مشتركة؛ كاللغة، والأصل المشترك، والتاريخ والوطن الواحد. كما ويرتبط هؤلاء الأفراد فيما بينهم بمصالح مشتركة التي تجمع شملهم، ولهم نفس العادات والتقاليد والموروث الشعبي.
تُعتبر الأمة شخصاً معنوياً حراً، وهي بذلك تختلف عن مجموعة المواطنين؛ ذلك أنّ الأمة عابرة للمكان والزمان، حيث تشمل الأموات والأحياء في الآن ذاته، ومن هنا فإن للأمة سمواً مختلف عن التصنيفات الأخرى، كما أن لها قدسيتها في نفوس أبنائها، فهي جامعة غير مفرقة، وهي التي تعطي لأبنائها شعوراً بالفخر بأن لهم ماضياً عريقاً، وظهر قوي يحميهم إذا ما نزلت بهم نوازل الدهر والأيام.
والإمة كما عرفناها فيما سبق، هي من مجموعة من البشر، والبشر فيهم الصالح والطالح، الشريروالخير المتسامح والمستبد، المتطرف والمعتدل، العالم والجاهل، القاتل والمسالم، الفاسد والمستقيم، المتدين والملحد، .. الخ. وهناك من يؤمن بالديمقراطية كنظام حكم، وهناك من يرفض ذلك ويطالب بالدولة الدينية وبتطبيق الشريعة الإسلامية، كما هو الحال في دولنا مثلآ. لذا لا يمكن وصف كل هؤلاء البشر مجتمعين أنهم أناس ديمقراطيين. ومن هنا يتضح أن هذا المصطلح كذبة ولا وجود له على الإطلاق. هناك أنظمة ديمقراطية في العالم وأنظمة إستبدادية وديكتاتورية في المقابل، وهذا أمر مختلف كليآ، لأن ذلك متعلق بالقوانيين والأنظمة والدساتير، لا بطبيعة البشر.
الأيديولوجية النسوية:
حاول عبدالله اوجلان منذ بداية تأسيس حزبه، على جذب العنصر النسائي إلى صفوف تنظيمه الشمولي.
وكتب عن واقع المرأة الكردية ودعى إلى تحريرها من سلطة الأب والزوج والأخ وحتى الأبناء. ومع الوقت تمكن من إحراز تقدم كبير في هذا المجال وإن كان هذا النجاح أفقيآ وليس عاموديآ، أي بمعنى تغير عميق في بنية المجتمع، حيث لا يمكن تحرير المرأة من خلال تسليمها بندقية وإشراكها في العمل العسكري. تحرير الإنسان عمومآ والمرأة خصوصآ، يأتي من خلال التعليم والعمل والمساواة أمام القانون، وحمايتها من سلطة الأب والزوج، وفسح المجال أمامها لتسلم المراكز القيادية في كافة مجالات الحياة. وبالطبع تحقيق كل هذا يحتاج إلى إستقرار الوضع في كردستان والتحرر من نير الإستعمار أولآ. لا شك أن حزب العمال وفرع السوري حققوا خطوات كبيرة على صعيد تحرير المرأة وهذا يحسب لهم، وهو محل إحترام وتقدير من قبل الكثيرين من الكرد.
في ختام مقالتي هذه، أود التأكيد على أن الأيديولجية المناسبة للكرد هي التالية: نحن شعب مختلف ولسنا عربآ ولا تركآ ولا فرسآ، ولنا الحق في تقرير مصيرنا بأنفسنا والعيش في وطننا كردستان، أحرارآ لا عبيدآ عند هذا السياسي الكردي، أو ذاك التنظيم الحزبي أو تلك المشيخة العائلية. وأن يقترن ذلك مع مفهوم الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية واقعآ لا كلامآ.
16 – 02 – 2020