قبل سنوات قليلة كثر اللغط حول النظام السياسي الأفضل لسوريا القادمة، وجددت المحاولات قبل شهرين عند بدأ المسيرة الفاشلة لكتابة الدستور في جنيف، من قبل اللجنة الثلاثية المعدومة النشاط والعمل (لجنة الـ 150 التي تحصل على رواتبها المغرية من دماء الشعب السوري ومعاناة الملايين من المهاجرين والذين تدمرت بيوتهم ويعيشون في العراء، ولو كان لأعضاء هذه اللجان، ومثلهم حثالة الإتلاف والهيئة العليا للمفاوضات والحكومة المؤقتة، وتجار الحروب المشاركين مع هؤلاء، ذرة من الوطنية والإحساس بآلام الشعوب السورية لتبرعوا برواتبهم، لبعض من العائلات المتضررة الذين هم اليوم بلا مأوى يعانون الويلات من إجرام الأسد ونفاق المعارضة وقساوة الطبيعة) ويرفضون النظام اللامركزي الفيدرالي، وفيدرالية المنطقة الكردستانية إلى جانب المناطق السورية الأخرى، دون أن تسبقها أية دراسة، أو يتم النقاش على سلبياته وإيجابياته، ودون أن يؤخذ بعين الاعتبار ما هو الأفضل للمجتمع السوري، بشعوبه وأقلياته وأديانه وطوائفه، وجل الرفض يصدر على خلفية الحضور الكردي، أو لنقل الطموح بديمومة السيادة العربية، علما أن أغلبيتهم في لا شعورهم مقتنعون أنه للكرد الحق في إدارة جغرافيتهم، بنظام فيدرالي، المتبين على أنه أحد أفضل الأنظمة الديمقراطية الحضارية، الذي سيحتضن كل المكونات المتواجدة في المنطقة، المطبق في أغلبية دول العالم، وخاصة المتطورة، وأثبت عمليا نجاحه في الدول المتعددة القوميات والإثنيات على خلاف جميع الأنظمة المركزية.
فرغم معرفة أغلبية المعارضين لفيدرالية سوريا، أن الصور النمطية المترسخة عن الكرد في أذهانهم، مشوهة، وتمت على خلفيات عنصرية ولا بد من إزالتها، إلا أنهم لا يملكون جرأة مواجهة الحقيقة، وبالتالي يفضلون الاستمرار تحت نظام لا مركزي استبدادي كنظام بشار الأسد؛ أو مشابه له؛ ومع الكوارث التي تنتج عنه، على العيش مع الكرد ضمن الوطن المأمول المحتضن للجميع، والمزال فيه منطق السيد والموالي.
ومن الغرابة أن شريحة من السياسيين الكرد بدورهم لا يملكون جرأة عرض هذا الطلب، رغم أنهم يحلمون به، ويدركون أنه أفضل للمكون العربي قبل الكرد، إما لعدم القناعة بالذات، أو على خلفية التحريفات الهائلة للتاريخ الكردي، والذي أدى إلى انعدام الثقة بتاريخهم وبحقهم في السيادة على أرضهم. أو أن جرأة الطلب تكاد تنعدم أمام الشريحة العروبية المعارضة، وهي مشابهة للحالة التي تواجهها الشريحة العربية الوطنية أم العروبية والمستعربة، فيتحججون بعدمية الظروف المؤاتة، أو حتى بطوباوية تطبيق مثل هذا النظام، علما أن مثل هذه الحجج كثيرا ما كان يتردد على مسامعنا قبل تطبيقه في جنوب كردستان.
أصبحت المواد التي ستدرج أو ستمنع كتابتها في دستور سوريا القادمة، مجال خلافات ليست بين المعارضة والسلطة المركزية بقدر ما هو بين الشعب الكردي ولجان الطرفين، وكثيرا ما نسمع أن البعض من أطراف الحراك الكردي المشترك؛ رغم هزال نسبته، لا يتجرؤون على عرض هذا الطلب بصيغته الواضحة، والحجج حاضرة، وغير شفافة للمجتمع الكردي، وفي الواقع لا بد من فتح حوارات واسعة تاريخية وسياسية وعلى أبعاد متنوعة، علا الإخوة في المكون العربي وخاصة الوطنيين منهم الاقتناع وإعادة النظر فيما يرفضونه، ويضعون الأخرين أمام الأمر الواقع، ويطبقون النظام الأمثل لكل المجتمع السوري، لبناء الوطن المأمول، الخالي من السيادة والموالي.
وهنا من المهم إعادة النظر في بعض الصفحات من تاريخ الجزيرة الحديث، لتعديل بعض التحريفات، وتبيان بعض الحقائق الغائبة أو التي يتم تناسيها، لتظهر لهم فضاحة ما يستندون عليه عند كتابة الدستور الحديث لسوريا القادمة، على أمل إقناعهم لتحقيق الأفضل لكل سوريا.
لماذا وكيف ظهر مفهوم حق المواطنة للشعب الكردي في سوريا؟ متى أنتشر، ومن يقف وراءه؟ وهل ديمغرافيتنا في الجزيرة تكونت على خلفية الهجرة من شمال كردستان؟ وهل كانت هناك وجود لتسمية (الجزيرة السورية) قبل بداية القرن الماضي؟ ومتى ظهر المكون العربي في الجزيرة؟ من أين قدموا ومتى دخلوا إلى جغرافية الجزيرة؟ لماذا سخر البعض من الكتاب العرب جل طاقاتهم الفكرية لتحريف تاريخ المنطقة؟ وأين كانت المجالات الجغرافية لهجرات الكرد على مر التاريخ؟
أسئلة لا بد من تصعيدها والبحث فيها، مع كل دراسة حول الديمغرافية الكردية في الجزيرة، فما تم من التحريف لتاريخ المنطقة بشكل عام، وتاريخ الشعب الكردي في جنوب غرب كردستان خاصة، ومثلها لتاريخ القبائل العربية في الجزيرة وعفرين وجرابلس والباب وإعزاز، تعتبر بحوث شبه كارثية. الحفاظ عليها كما هي ستؤدي إلى القضاء على ماض القبائل العربية قبل الكردية، وستزيل آثار ثوراتهم في شمال شبه الجزيرة العربية، وحقوقهم في أراضيهم التاريخية تلك، وستؤدي إلى ديمومة الصراع في المنطقة، وستفاقم من ضحالة معرفة المكون العربي بتاريخه الصحيح، وبالتالي عدمية بناء وطن يحتضن الجميع، وقد يكتب دستور مطعون فيه لا يقل عن الحاضر عنصرية.
تحتاج القضية إلى بذل الكثير من الجهد من قبل الباحثين العرب قبل الكرد، لتصحيح المحرف وإزالة الموبوء، بعدما لوحظ أن أغلبية العروبيين شوهوا ليس فقط تاريخنا بل تاريخ القبائل العربية المهاجرة من شمال شبه الجزيرة العربية قبل قرابة قرن من الزمن، لغايات، جل ما يقال عنها، عنصرية. فمن مصلحة السلطات القائمة عليها، ديمومة الصراع بين الشعبين، في سوريا عامة والجزيرة بشكل خاص، وقد تمت مثل هذه المحاولات سابقاُ، ونحن هنا لا نتحدث عن التفاهات التي يصرح بها البعض من المرتزقة المستعربين والبعثيين المنافقين من سلطة الأسد والمحسوبين على المعارضة السورية، وبعضهم ضموا إلى لجان كتابة الدستور، الذين والكتاب العروبيين قدموا ويقدمون المهاجر العربي على أنه صاحب الأرض، والشعب الكردي ضيف قادم إلى الجزيرة، وسيمنون علينا بحقوق المواطنة، ضمن الدستور القادم لسوريا المتكونة على المصالح الفرنسية.
يقف وراء هذا الوباء الفكري السياسي، سلطات ومنظمات عروبية. ففي العقدين الأخيرين، ساهم المركز العربي للاستراتيجيات ودراسة السياسات – مركزها قطر في نشره، بعدما أخذ المهمة من سلطة بشار الأسد وبدأ بعمليات الطعن في الوجود الكردي في جنوب غرب كردستان عن طريق عقد مؤتمرات خاصة، ونشر دراسات وكتب ومقالات.
وقد تبوأ المركز هذه المهمة بعد الكارثة السورية، علما أن سلطة بشار الأسد والبعث لم تتخل عنها، بل خفت الموجة على خلفية الظروف المحاطة بهم. فقام بتوظيف وتسخير نفس الشخصيات البعثية الأكاديمية بعد هروبهم من سوريا، ومعهم شريحة من أنصاف الكتاب، وكلفوا بأداء المهمات ذاتها، أو أنهم طلبوا من المركز السماح لهم بالاستمرار فيه، فشملت دراساتهم مجالات متعددة، من تحريف للتاريخ إلى تبيان الكرد كمواطنين مهاجرين من شمال كردستان، أو كما يقولون من تركيا، مرحب بهم ضمن سوريا العربية، وقد كانوا يتوقعون أن تسيطر المنظمات العروبية الإسلامية على هذا الوطن الجدلي، وسيخطون الدستور على نهجهم ومفاهيمهم …
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
3/2/2020م