خلال السنوات الأخيرة انكسر جدار الصمت في المنطقة العربية بشكل عام والخليج بشكل خاص، وبدأت أصوات الذين يعتبرون أنفسهم من فئة الملحدين تعلو وتجذب أنظار العالم.
وعلى مستوى الواقع الخليجي لا أحد يستطيع التحدث بأرقام محددة عن أعداد الملحدين، لكنها أصبحت في النهاية أحد الشواغل التي اتجهت إليها أدوات الباحثين؛ في محاولة لفهمها وتحليل تجلياتها على مستويات عديدة، والأسباب التي أسهمت في انتشارها.
ولا يستبعد أن يكون خطاب المؤسسات الدينية خصوصاً في السعودية، أحد أسباب تفشي الإلحاد بشكل أو بآخر، وهو ما تظهره الأرقام التي تزايدت مؤخراً بعدد الملحدين من دول الخليج وفي مقدمتهم السعوديون.
أسباب انتشار الإلحاد بالخليج
على الرغم من أن العديد من الأسباب التي دفعت بعض الخليجيين إلى التخلي عن الدين مماثلة لتلك التي يذكرها الملحدون في أي مكان آخر في العالم، فإن هناك أسباباً أخرى يمكن أن تتسق مع السياق السياسي في العالم العربي، منها أن العنف الذي تمارسه بعض الجماعات الإسلامية المتشددة قد دفع بعض الناس إلى التشكيك في مبادئ الإسلام.
وتعتبر مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك وتويتر ويوتيوب” والمدونات، أكثر وسائل إعلام يستخدمها الملحدون الخليجيون؛ لمساهمتها في إيصال أفكارهم ومعتقداتهم بدون رقابة مجتمعية.
وغالباً ما يتكتم الملحدون الخليجيون على أسمائهم، ويتحدثون بهويات غير حقيقية، باستثناء عدد منهم كالملحد الإماراتي أحمد بن كريشان، أو المدوّن البحريني الشهير محمود اليوسف، وأخيراً السعودية رهف القنون.
والإلحاد بمعناه الواسع يعني عدم الاعتقاد أو الإيمان بوجود إله، وفي المفهوم الضيق فإنه يعتبر على وجه التحديد موقفاً يتلخص بأنه لا توجد آلهة، وهو ما يتناقض مع فكرة الإيمان بالله أو الألوهية.
الاستشاري الإعلامي والباحث في الشؤون الإعلامية والأوروبية، حسام شاكر، يرى أن الإلحاد جديد على المجتمعات العربية، وأن تعبير أفراد أو مجموعات عربية عن آرائها الإلحادية بشكل صريح غير مسبوق في هذه المجتمعات.
واعتبر شاكر، في حديثه لـ”الخليج أونلاين”، أن ما يساعد على ظهور حالة الإلحاد ونشاطها هو المنصات الجماهيرية التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن أنها وجدت اهتماماً إعلامياً خاصاً ساعد على هذا الظهور.
وقال إن بعض المنصات الإعلامية العربية أبرزت هذا الملف، لافتاً الانتباه إلى استغلال السلطات لحالة الإلحاد في بسط قوتها ووجودها، حيث “وجدت فيه بعض الخطابات السياسية مكسباً عملياً”، بحسب رأيه.
وأضاف أن هذا الملف استخدمته أيضاً أطراف شتى، مشيراً إلى أن “الدعايات السلطوية في العالم العربي أبرزت هذه الحالة، واحتجت بها أحياناً في مسعاها للحديث عن ضرورة إيجاد مراجعات دينية إن جاز التعبير، بدعوى أن هناك حالة إلحادية”.
واستشهد شاكر باستغلال هذا الملف من قبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، من خلال ما أطلق عليها “ثورة السيسي الدينية، وهذا كان المقصود منه على ما يبدو الإشارة إلى إخفاق الخطاب الديني والإتيان بخطاب ديني جديد حسبما ترتئيه السلطة هنا وهناك”.
ويرى الباحث الإعلامي أن حالة الإلحاد يمكن فهمها على أنها حالة اعتقادية ذات قدرة على التعبير عن ذاتها بشكل مباشر وجماهيري، فضلاً عن كونها تعبر في الأساس عن حالة من القلق الثقافي والاجتماعي الذي يراود فئات المجتمع.
وأضاف: “لا يعني هذا أن كل الحالات التي تحسب على الحالة الإلحادية هي قلقة، ولكن حالة القلق الشبابي، بما فيها من تطرف وانحطاط وحالات انتحار وإدمان ومشكلات اجتماعية، تأتي الحالة الاعتقادية هذه ضمن هذا الإطار”.
أمثلة من دول الخليج
ومع ارتفاع ملحوظ في أعداد الملحدين السعوديين، كانت الفتاة المراهقة رهف القنون (18 عاماً) مثالاً بعدما هربت من بلادها طلباً للجوء في تايلاند، واستقبلتها كندا، قبل أن تتخلى عن لقب عائلتها، بعد أن تبرأت الأخيرة منها على خلفية فرارها من المملكة واتهام العائلة بإساءة معاملتها، أواخر 2018.
.
وفي مقابلة تلفزيونية بثت على قناة “روتانا خليجية”، في مايو 2019، أثارت مقابلة الكاتب منصور النقيدان جدلاً واسعاً بعد أن تحدث عن الإلحاد والإسلام.
وتحدث النقيدان، وهو سعودي حاصل على الجنسية الإماراتية، خلال اللقاء، عن ظاهرة الإلحاد، قائلاً: إن “الإلحاد عقيدة، وعليك أن تحترم الإلحاد لأنه خيار للإنسان”، مضيفاً: “الإيمان القلبي هو الإيمان الحقيقي، دون النظر إلى القيام بالعبادات كالصلاة”، التي يراها غير ضرورية.
ترويج القنوات الخليجية للإلحاد استمر مؤخراً بشكل كبير، فعلى مدى عامين ماضيين استضافت شركة أبوظبي للإعلام، المملوكة للدولة، ضيوفاً لبرنامج رمضاني عرفوا بآرائهم المتناقضة مع الكتاب والسنة، وأثير الجدل حولهم مرات عديدة.
واتَّهم الداعية الكويتي محمد العوضي شركات الإنتاج الفني والمحطات التلفزيونية والحكومات العربية والخليجية بإغراق السوق الإعلامية خلال السنوات العشر الأخيرة ببرامج ومسلسلات “تطعن وتشكك” بالعقيدة الإسلامية، وتزرع قيماً أخلاقية ودينية “لا تمت لديننا ولا لمجتمعاتنا بصلة”.
وقال العوضي، في مقال نشرته صحيفة “الراي” الكويتية، في يونيو 2019: “لم تكتفِ (البرامج والمسلسلات) بذلك، بل زادت عليها ليكون الطعن في العقيدة والتشكيك بأصول الإسلام ومحاولة طرح الدين بما يتوافق مع ما يريده الغرب، وتحويله من الإسلام الإلهي إلى (الإسلام الأمريكي)، الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً”
محمد العوضي | الحصاد المر! https://t.co/Xq9e1w0RE7@mh_awadi pic.twitter.com/2bViiZl4M0
— سرمد | Sarmad (@Sarmad) June 10, 2019
وفي هذا السياق يرى شاكر، في حديثه لـ “الخليج أونلاين”، أن الإلحاد لم يعد كما كان عليه، مبيناً أن هناك إلحاداً جديداً له طابع تبشيري وإيدلويوجيا تنشط، وأن هذا الإلحاد الجديد يحاول أن يوسع من نفوذه بالاعتماد على وسائل تعبئة غير مسبوقة.
ويرى أن “ثمة منظرين اليوم ودعاة لهذا المنهاج أو هذه الرؤية الإلحادية، ويستخدمون أيضاً مواد تعبئة بشرية الطابع؛ لكسب الجماهير وبطرق علمية أو تتذرع بالعلم لكنها مفتقرة إلى المواصفات العلمية. هذه تنشط ولها تأثير في العالم أجمع، ومن ضمنه العالم العربي”.
وقال شاكر: إن “هذه الحالات تمثل شيئاً من التردد والحيرة بين الشباب العربي، وفي دول الخليج هي كناية عن تحولات ثقافية عميقة لا يمكن عزلها عن تطور ظاهرة العولمة”.
وأشار إلى أن “هذه الأجيال محتكة بقوة بنمط حياة استهلاكي أمريكي الطابع، وهذا النمط ليس مجرد استهلاك مادي ومسلكي فحسب، ولكنه أيضاً يحمل مفاهيم معينة يتأثر بمفاهيم الشاشة والشبكات والثقافة الجماهيرية”.
وأضاف: “لا يمكن أن تنفك قراءتنا لهذا المشهد عن كونها حروب أفكار تعمل في الواقع العربي من خلال منصات ثقافية وإعلامية ومشاهير ومؤثرين، الذين يضرب بعضهم بقوة في الثقافة الدينية السائدة إلى حد كبير، التي تواجه صعوبات حقيقية في هذه المرحلة بطبيعة الحال”.
وعرج الباحث الإعلامي على تعرض مشاهير من “رموز الجيل العربي الجديد” للاعتقال والمحاكمات التي وصفها بأنها “تعسفية”.
وقال: إن “هؤلاء لهم جماهير بالملايين، وعندما يتم تغييبهم يصعد التطرف من جانب وتبقى مساحة خالية إلى حد كبير من هذه الأدوار التي قد تملؤها دعاية من طرف آخر”، مؤكداً أن “ثمة غياباً واضحاً لمنصات مؤثرة في هذا الجانب”.
السعودية في المقدمة
وشيوع الإلحاد في بلاد الربيع العربي قد يكون له مسوّغ، لكن أن تتصدَّر بلاد الحرمين الشريفين قائمة الدول العربية في عدد الملحدين فهو أمر يُثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجّب بين المسلمين خاصة؛ لكون السعودية حاضنة الدين وقِبلة العالم الإسلامي، وفيها حكم مستقرّ، مع وجود الثروة.
وتواصل المملكة مؤخراً عرض مزيد من حلقات مسلسل الانفتاح والتوسع الثقافي الذي شهدته خلال العامين الأخيرين، وذلك بجهود من الهيئة العامة للترفيه التي وُجدت في إطار تحقيق رؤية السعودية 2030.
خيمة التوسع السعودية التي ثبّتتها المملكة بأوتاد الانفتاح، قد تفتح باباً أمام “الملحدين” لممارسة نشاطاتهم بنوع من الحرية، على الرغم من محاربة المملكة لهذه الظاهرة “مجتمعياً وقانونياً”.
معهد “غالوب” الدولي، الذي يتخذ من زوريخ مقراً له، ذكر في دراسة له أعدّها عام 2014، أن نسبة الإلحاد بلغت بين 5 و9% من مجموع عدد السكان في السعودية، وتُعدّ هذه النسبة الكبرى مقارنة بالدول العربية مجتمعةً.
وقد أنشأ مجموعة من الناشطين السعوديين حساباً على “فيسبوك” تحت اسم “جمعية الملحدين السعوديين”، بموازاة ظهور حسابات على “تويتر” تتبنّى علناً الظاهرة في السعودية.
ويتخفى أغلب أصحاب الحسابات الموجودين في السعودية وراء أسماء وهمية خشية الملاحقة القانونية، بعدما أصدرت الرياض قوانين تضع “الدعوة إلى الفكر الإلحادي”، والتشكيك في “ثوابت الدين الإسلامي”، ضمن الأنشطة الإرهابية التي تستوجب العقوبة والردع.
من جانبه يرى حسام شاكر أن الفرد اليوم بات “يميل إلى أن يعيد إنتاج معتقداته بشكل أسرع من أي وقت مضى”، مبيناً أن “هذا منحى عالمي، ولا يمكن القول إن البيئة العربية والخليجية معزولة عنه بشكل ما، ولكن ثمة فرص توجد في الثقافة العربية والإسلامية يمكن أن تتعامل مع هذا الموضوع”.
وأكد وجود “تحديات ضاغطة”، مشيراً إلى وجود إغفال لدور المؤسسة التعليمية والمدارس ومراكز الإرشاد الديني، مبيناً أن هذه الجهات “عندما تتحيد أدوارها في هذه المعادلة أو تؤدي أدواراً مشكوكاً في صلاحيتها فهنا تكون اللعبة صعبة جداً بالنسبة للأجيال الخليجية الصاعدة”.
ولفت النظر إلى أن “من يقول إنه ملحد أو يحاول أن يعبر عن اتجاه ما من الاتجاهات الإلحادية، هذا لا يقضي على أنه يعيش حالة استقرار اعتقادي. ربما في بعض هذه الحالات تعبير عن نزعة مغايرة للمجتمع ومروق من المجتمع وانفلات منه نحو متخيل آخر ثقافي معين”.
ونبه إلى أن “صورة الملحد تقدم في بعض المنابر العربية بهيئة صورة مجيدة في العقل والعلم والبحث عن الحقيقة، في حين تقدم في تلك المنابر صورة ذميمة للمتدينين باعتبارهم شيئاً من التخلف وهذه الصور لها تأثيرها على الأجيال”.