على مدى العصور الماضية كانت العلوم والأديان شبه متقاربة في تطورهما، وأغلب الأسئلة الشكوكية النابعة من المعرفة العلمية كانت تخدم الروحانيات بطريقة أو أخرى، وكانت لها أجوبة تلائم التراكم المعرفي حينه، وكان الحديث أو التأويلات تتحدث عن الذات الإلهية، ودون التوقف على الخلفية اللاهوتية أو الفلسفية لكلمة أو معنى الذات، ومدى تصغير القدرات الإلهية بالكلمة هذه والتي لاتزال دارجة في الأوساط الفقهية الإسلامية بل والأديان الإبراهيمية الأخرى، وتطغى على كتابات معظم اللاهوتيين في العصر الحالي رغم خلفية التطور العلمي المتسارع مقارنة بالروحانيات التي خيمت عليها شبه جمود، والتي ربما لطغيان مفهوم الإيمان بالنقل، حدثت الهوة بينهما، وعلى أثرها ظهرت الخلافات المتنوعة، ولم تعد تقف على الأسئلة الشكوكية المذكورة وغيرها، بل تعدت الحدود التقليدية كما في الماضي، ولم يعد يقف حتى علماء الفكر على التناقض الصارخ بين الذات والإله، وبين الإله والقدسية، والكل يعلم أن القدسية أضفيت على معابد وشخصيات مهمة أو آلهة أرضية منذ بدايات ظهور الروحانيات، فتصاعدت وتشعبت مع تعمق المعارف البشرية، وسحبت على الآلهة السماوية ومنها الإبراهيمية، وتم صياغتها وتكرارها بأوصاف متنوعة، وهي التي دفعت بالإنسان على طرح الأسئلة الشكية كالتي نطرحها هنا كأمثلة:
أليس التقديس أو وصف الإله بالذات التجسيدية، أو مهاجمة بعض التكفيريين لبعض الكتاب تحت حجة: التعرض للذات الإلهية، كفر، معتبريها تصغير للإله؟ أليس تسمية القدرة الكونية باسم الله أو بأسماء أخرى حسب لغات الأديان كالخودي تشخيص وتصغير لماهيته؟ مثلها مثل الدفاع عنه، وتوكيل الذات في نشر تعاليمه؟
ألا يلاحظ أن التوكيل تعظيم للذات الشخصية، مقابل تصغير للإله، وهي محاولة مباشرة لتضييق الهوة بينه وبين القدرة اللامعروفة؟ وهل الإنسان على مقاس قدرة الإله المالك لكون عرف، حتى الأن، نصف قطره فلكيا بـ 500 مليار سنة ضوئية، وعدد النجوم فيه أكثر من عدد حبات الرمل في جميع صحاري الكرة الأرضية، رغم أن الأبعاد الإنسانية بلغت مقاسات ثوابت العالم الألماني ماكس بلانك في الطول والزمن والكتلة، وهي ثوابت فيزيائية رياضية نظرية لا تزال من المستحيل للإنسان بالتجارب الوصول إليها. فما هي أبعاد هذا الموكل وقدراته، ليكون مقدساً على مقاييس البشر؟ وبالمقابل هل هذه القدرة تحتاج إلى تقديس من الإنسان العدم، أو الأكثر من العدم؟ وهنا لا تلغى جدلية، أن الأديان روحانيات، لا بد منها لتنظيم البشرية بطريقة ما، لكن تقديسها وفي الأبعاد المذكورة تصغير لما نسميه بالله أو خودى؟ وبمناسبة ذكر الأسماء الوصفية، يظهر أن اسم (خودى- وتعني بالكردية الذي أعطى ذاته) يعكس الوصف الفلسفي واللاهوتي الأقرب إلى ماهية الإله الكوني من بين جميع الفلسفات، أو الأوصاف النصية أو اللغوية الأخرى.
فالدراسات التاريخية والفلسفية وحتى اللاهوتية، ترجح أنه مع بوادر نشوء الوعي الفكري الروحي ولدت فكرة الإله الأبعد من الطبيعة، سخرها الإنسان لغاية الهيمنة قبل أن تكون طمأنينة للذات أمام عوامل الطبيعة، ونتجت عنها آلهة أرضية الأبعاد، لا علاقة لهم بالإله الكوني، وهم على خلاف وفي صراع حسب رغبات مخترعيهم، المدافعون عنهم في الأرض، أي أنه على الأرض أو بعض البشر آلهة ضعيفة تحتاج إلى مساعدة شرائح من الناس لا العكس.
ومع تطور المفاهيم وتعمق الغايات توسعت الصراعات بين التجمعات البشرية، على خلفية السلطتين الروحية والمادية، واللتين يخلقان بحضورهما معاً التوازن في ماهية الإنسان كفرد، وكذلك في العلاقات الإنسانية كمجتمع، سلبا وإيجابا، ولم يحصل التوازن ذاته بين الآلهة الأرضية المخلوقة، فبقدر ما تصاعدت الصراعات والحروب والكوارث بين البشر، ظهرت نوع ما من جدلية الأضداد بين الآلهة الأرضية، والتي ساعدت في حالات نادرة على التطور الحضاري، وفي أغلبيتها ساهمت على هدمها.
وعلى مدى التطور المعرفي، توسعت وتعمقت الخلافات بين القوى الدينية والمادية، ومع الزمن وحين نشوء الإمبراطوريات، والدول، أصبح الصراع بين السلطتين شبه معادلة لا بديل عنها، وأحيانا لا بد منها، فسجنت السلطة المدنية الإنسان بترهيبه على الأرض، وسلطة خالقي الآلهة الأرضية بترويعه من غضب الإله فيما إذا لم يقدس ويعبد، والمدعين بمتبعيه عندما ملكوا القوة ليس فقط نشروا هذه المفاهيم بل طبقوها على الإنسان وهم أحياء، وأصبح من شبه المستحيل التخلص من العبودية التي خلقوها كثقافة بين المجتمعات الدينية، ووضعوا ذاتهم ضمنها، وبذلك أصبحت البشرية تكوينا قائما على الصراعات الدموية لا الفكرية، وفي الواقع الشكوك أو لنقل الصراع الفكري في الداخل الإنساني انعكاس لما هو بين المجتمع وكذلك بين القوتين الروحية والمادية على الأرض، بل بين تابعي الآلهة المتعددة، متناسين أن الإله الكلي غني عن مساعدتهم ودفاعهم، وصراعاتهم، وهو خارج أبعاد الآلهة الأرضية.
فحتى أن المعالجة الفلسفية للإله ومطلقه المتناقض والمعالجة الدينية، لم يحل هذا المعضلة البشرية، القائمة على ترهيب المجتمعات، وتقبل كل هذه الأنواع من الآلهة، رغم وجود تقاطع ما بينهما من حيث الحيز الروحي للتيارين، وأستمر أس الخلاف قائما، وكثيرا ما توقفت تعاريف كل طرف على المطلق الإلهي أو للأبعاد الكونية، وحتى فيما وراء الطبيعة، أو ما قد نسميه ما وراء الكون حيث تقول الأديان السماوية هناك يكمن الإله، لكن دون أن يتخلوا عن آلهتهم الأرضية.
والفلاسفة كاللاهوتيون من الديانات المختلفة أو حتى أحيانا من الديانة ذاتها، يتناقضون بين عدمه أو انتشاره بمطلقه بين المحسوس وما وراءه. وقد تطرق جلهم إلى ماهية الإله، ووصفوه كلغز كوني غير قابل للحضور بمستويات العقل البشري، وأبعد من أن يعرف، أو أن نتماشى وتعليل متعارض، والمشابهة لبعض الأديان أو مذهب ما، حيث يرون أن الإنسان جزء من الإله، وهو العقل المتحكم بقدراته، أي أنه الإله في ذاته، وينتهي كليته عند عدمه، وبالتالي لا رحلة للإنسان إلى اللامتناهي حيث القوة المطلقة الأبعد من العقل والروح، والأديان فصل بشكل لا إرادي بين الماهية الإلهية المطلقة وخصائصه، أي بين الوصف التجسيدي ذات الأبعاد الإنسانية، والماهية الكلية التي لا وصف لها، وهنا أحد جوانب التناقض في الدين، والتي يهاجمونهم بها العلمانيون عادة.
ونعود إلى السؤال الأول، لماذا شخص الإنسان القدرة الكونية تحت أسم، الله، خودى، وشبهه بكائن بشري رغم إعطاءه القدرات الخيالية، لكنه من جهة أخرى لم يحرره من التشخيص؟ وهل حقا القدرة الكونية ذاتها أمرت شريحة من الناس بتسميتها؟ وأنه أختار لذاته أسم الله أو خودى أو God أو Boog؟ وعند شعوب أخرى وفي ديانات قديمة أو في جغرافيات خارج جغرافية الديانات السماوية بأسماء أخرى؟ ولماذا ظل الإله في الشخصية الذكورية؟ وهنا أعرض السؤال المعروف بالإحراج المنطقي، من أوجد الإله؟ والسؤال يذوب في حال وقفنا على القدرة الكونية المتكاملة، ففي الأولى يدرج الإله ككائن، وفي الثانية كلي بين علة(الإله) كائن ومادة وروح فاعلة وعلة غائية، قد يكون عدما وموجودا، وهو، هي، خارج جميع الأبعاد الكونية الإنسانية وستكون حتى في التصورات العلمية غير المكتشفة، أو المتصورة وجودها…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية