أصدر رئيس الوزراء العراقي المرّشح، محمد توفيق علاوي، برنامجه الوزاري للمرحلة الانتقالية التي سيتوّلى فيها منصبه، إن حظيَ فعلاً بمصادقة مجلس النواب على حكومته التي يشكّلها وبرنامجه الذي قدّم نصّه، والذي يوضّح سياسته التي سيتبّعها في أقل من سنّة، إن حظيَ بموافقة النواب، كما طرح إجراء انتخابات تشريعيّة في غضون أقلّ من سنة. وبدا واضحاً من قراءة البرنامج أنه يريد إقناع كلّ العراقيين، كونه قد أعدّه وكأنه سيحكم أربع سنوات ( أو أكثر ) ، بأنه برنامج يأخذ العراق كلّه إلى مصاف متقدّمة، فيما يدري علاوي جّداً أنّ الخراب والتهرؤ قد طاول كلّ المؤسسات، فلا يمكن أبداً أن يكون هذا البرنامج (أو : المنهاج) خطّة عمل لمرحلة وزارة انتقالية، ولا يمكن أبداً أن تنبثق أيّة إيجابيات من واقع موبوء يتحّتم علاجه أولاً.
بعيدا عن الوعود المعسولة
لنتفق مع صيغة البرنامج ومضامينه المتنوعة، والتي شملت كلّ القطاعات، ولكن من دون التركيز على الجانب السياسي، إذ هل يمكن لمثل هذا البرنامج العمل في ظل حياة سياسيّة متعبة ومتشرذمة بوجود كتلٍ سياسيةٍ تعتبر حيتاناً لها أساليبها المتوّحشة في الوقوف ليس ضدّ التغيير فقط، بل ضد الإصلاحات أيضا. ولا يمكن لهذا البرنامج الحكومي أن يعمل يوما واحدا، ما دام لم يتطرّق ألبتة إلى آليات التغيير الحقيقية، والأمر نفسه جرى مع ذلك المنهاج الذي قدّمه رئيس الوزراء المقال، عادل عبد المهدي. وكان يتضمّن موّادّ ووعوداً رائعة، ولكن صاحبه لم يستطع أن ينفّذ منه شيئاً، فالوعود التي تخّدر الناس، إنْ لم تصاحبها أفعال على الأرض مع نيات صالحة مع خطة وطنية، وترجمة حقيقية لما تريده الجماهير، فلا فائدة من كلّ المناهج والوعود المعسولة.
الاساسيات بديلا عن المعضلة المزمنة
يتمنّى كلّ العراقيين أن تتحقق قفزة نوعية في كلّ ميادين الحياة العراقية، سواء في الصحة أو التعليم أو الاقتصاد أو المواصلات أو الطيران المدني أو الخدمات.. إلخ. ولكن ما يهمّ العراقيين أساساً يتمثّل بالأمن والنظام، والتغيير السياسي، وتخليص البلاد كلّها من المليشيات والفصائل المسلّحة وارتباطاتها بإيران، وضرب الفاسدين ومحاسبة المفسدين حساباً عسيراً، وتهيئة البلاد والعباد لانتخابات نزيهة وعادلة، وبإشراف دولي وقضائي، بعيداً عن أية مفوضية عراقية ستخترق حتماً من أجل التزوير.
لا تملك المرحلة الانتقالية عصا سحرية لمعالجة كلّ التهرؤات، ولكن مهمتها نقل البلاد من حالة التردّي إلى حالة الاستعداد بفرض العدالة الاجتماعية، وكبح جماح الكتل والأحزاب المسيطرة على الموقف والقرار، من خلال نفوذها وطغيانها، فهي تمتلك القوة والمال والنفوذ، فكيف يمكن إيقاف جموحها ومؤامراتها وفسادها وهيمنتها، بضربها بيدٍ من حديد، وإلّا مهما كان منهاج هذه الوزارة الجديدة والانتقالية واعداً وحالماً، فهي ستتكرر المأساة نفسها، ما دام النظام السياسي برمته يحتكره حيتانٌ، رؤوسها في بغداد وأحشاؤها في إيران! سيبقى الحال على حاله، وربما يسوء بشكل أكثر. وعندما يعد برنامج حكومة محمد توفيق علاوي العراقيين بأن يحصر السلاح بيد الدولة، فما الطريقة التي تجعل عشرات المليشيات والفصائل المشيطنة تتنازل عن حمل السلاح؟
فرصة ضائعة لانقاذ العراق
كان المتمنّى من رئيس الوزراء الجديد أن يقدّم للعراقيين منهاج عمل واقعياً وآنياً لسنة واحدة، يلخص فيه الرجل فلسفته في إدارة البلاد ومعالجة أزماتها الفعلية، بدل برنامج مليء بالوعود المتخيّلة التي لا يمكن تحقيقها. تتطلب إدارة البلاد في أي طور انتقالي عدّة معايير أساسية، يمكنه اتباعها مع فريقه الوزاري. ولكن لا أستطيع أن أجزم بكيفية أداء هذا “الفريق الوزاري” الجديد، وما يمكن تحقيقه في الشهور المقبلة إن نجح في نيل الثقة من البرلمان، وهذا مؤسسة بائسة تتحّكم فيها قوى تلك الكتل التي لا تريد أبداً أن تفارق السلطة. وقد راقبنا كيف تصرّف الرئيس المرشّح محمد توفيق علاوي، سواء خضوعه لإرادة كتل أو رفضه ضغوط كتل أخرى، فضلاً عن ردود فعل تلقاها من الكرد ومطالبهم، وفرض ما يريدونه ورفضهم ما يريده. مصيره ستحدّده هيمنة الكتل السياسية في ظل الوضع الحالي، كما أن الشارع بكلّ هيجانه لم يقف معه، أن ترشيحه قد جاء مرتبّاً من طرف معروف، ومن ضمن دائرة النظام الحاكم كبديل لا يمكنه انقاذ العراق واخراجه من دوامته الصعبة.
بعيداً عن الأخبار التي راجت أخيرا، ومنها ما ذكرته مصادر سياسية مطّلعة فإن “حديث بعض النواب والمحللين عن وجود بازار لبيع الوزارات في حكومة محمد توفيق علاوي مجافٍ للحقيقة، ونابع من رغبة تلك الكتل في الحصول على وزارات”. ولكن تجمع أغلب الآراء على أن الرجل لن يقوى أبداً على الصمود والمواجهة، مهما قدّم من وعود، أو ما تضمّنه برنامجه الوزاري. وليس المهم أن نقول بـ “ردع الفاسدين” و”مكافحة الفساد” و”ملاحقة الفاسدين” و”اتخاذ إجراءات صارمة للقضاء على ظاهرة الفساد” .. إلخ. ولكن الأهم هو كيف تقضي على الفساد. إنه يتم بأبسط وسيلة، تتمثل بمعاقبة أخطر عشرة مسؤولين فاسدين في العراق وفي قلب بغداد، وسترى النتيجة كيف يترجمها الشعب، وتغدو بطلاً وطنياً في غضون ساعات، وسيجعلك ذلك تتفرّغ للبناء ومعالجة مؤسسات الدولة في كلّ المرافق.
الطور الانتقالي يتطلب الاهم قبل المهم
كان المتمنى أيضاً أن يكون محمد توفيق علاوي، في برنامجه الحكومي، حازماً في ردع من جعل العراق ممرّاً له وساحة حرب له ضد الآخرين، فحماية الحكومة الأرض وشرفها حماية للمال العام وقدسيته. ومن يتولى أمر البلاد يغدو سيداً لها، وأباً لشعبه، لا يفرّق بين بيئة وأخرى، ولا بين جماعة وأخرى، ولا محافظة وأخرى. ثمّة معالجات عاجلة ينبغي أن يشدّد عليها البرنامج الوزاري في طوره الانتقالي، ولا يذكرها من باب ترديده، فالمطلوب التشديد عليه مهما كانت الظروف: إرجاع النازحين إلى بيوتهم وديارهم، وتعمير ما تدمّر من مدن وجسور ومستشفيات وأجهزة كبرى في حياة كل العراقيين. ولا يكفي القول إننا نريد تطوير القوات المسلحة بقدر تنفيذ إرادة كلّ الشرفاء بتطهيرها من كلّ العناصر الموبوءة وحرمان هؤلاء من رتب حملوها بلا استحقاق. كما أنّ ثمّة مطلباً لكلّ شعب العراق بمحاكمة كلّ القتلة والمجرمين والقنّاصة الذين قتلوا العراقيين الثائرين ، وإنزال العقاب الصارم بحق كل المجرمين.
وأخيراً، أتمنى على محمد توفيق علاوي، وعلى كلّ مسؤول عراقي على عهده، النزول إلى الشارع ولقاء المتظاهرين، فهم من الوطنيين العراقيين الشباب الذين لا يطالبونه بسلطة أو مال.. هذا وذاك أهم وأجدى من منهاج مليء بالوعود التي يستحيل تحقيقها من دون إجراءات ميدانية على الأرض، وبعيداً عن كلّ القوى الماكرة المهيمنة على أنفاس العراق. وبعيداً عما يريده الآخرون من العراق واستراتيجيته وثرواته.
نشرت على صحيفة العربي الجديد / لندن يوم الخميس 27 شباط / فبراير 2020 ، ويعاد نشرها على الموقع الرسمي للدكتور سيّار الجميل