الحلبوسي رجل أميركا أم إيران في العراق
حركة “الحل” السنية الناشئة التي ينتمى إليها الحلبوسي اختارت مبكرا التعامل مع النفوذ الإيراني الهائل في العراق بوصفه “واقع حال” و”بوابة” لمصالح أوسع.
العرب/بغداد – لم تستغرق عملية تحويل المهندس محمد الحلبوسي من مقاول مغمور إلى رئيس لمجلس النواب العراقي، سوى أربعة أعوام، عمل خلالها جمال الكربولي الطبيب السني ورجل الأعمال المثير للجدل بجد ونشاط، معتمدا على تحالفات شيعية رصينة تضمن دعم الشاب القادم من الأنبار ليعتلي سدة أرفع منصب تشريعي في البلاد.
ولد الحلبوسي في معقل سني قرب بغداد، يدعى “الكرمة”، ودرس الهندسة وحصل على شهادة عليا فيها، قبل أن يتفرغ لأعمال المقاولات في منطقته، مستفيدا من الوجود الأميركي فيها، الذي كان يرحب بأي متعاون سني معه، أيام 2004 وما تلاها، ومعتمدا على خبرة والده الإدارية، إذ كان يشغل موقعا بارزا في مؤسسة رئاسية إبان سقوط نظام صدام حسين.
وبعد نحو عشرة أعوام، قرر الحلبوسي توسيع دائرة اهتماماته لتشمل السياسة، بعدما كون ثروة متوسطة، فما كان عليه إلا أن يترشح عن منطقته، ليحصل على مقعد من حصة الأنبار في مجلس النواب العام 2014، مدشنا شراكة وثيقة مع عائلة “الكرابلة”، التي يتزعمها جمال الكربولي.
سياسة الأمر الواقع
انخرط الحلبوسي في العمل البرلماني نائبا عن حركة الحل السنية الناشئة، التي اختارت مبكرا التعامل مع النفوذ الإيراني الهائل في العراق بوصفه “واقع حال”، و”بوابة” لمصالح أوسع، فنشأ التحالف الشهير بين الكرابلة ونوري المالكي، الذي كان يوصف بأنه رجل إيران الأول في العراق ابتداء من العام 2010.
ولم يكن سرا أن المالكي المعروف ببخله الشديد، كان سخيا مع الكرابلة، إذ اسند لأحد أبناء العائلة وزارة الصناعة، التي تحولت إلى بوابة لتوسيع نفوذ هذه العائلة في مجالي المال والسياسة.
ومنذ دخوله الهادئ إلى البرلمان، كان واضحا أن مستقبل الحلبوسي سيكون مميزا، إذ دفع به الكرابلة إلى الترشح لتسلم مواقع حساسة في الجهاز التنفيذي، الذي تعاملت معه هذه العائله بوصفه مدخلا لصفقات مشبوهة بالملايين من الدولارات، لكن تسليم منصب حساس لشاب في مطلع الثلاثينات، كان أمرا بالغ الصعوبة في العراق، الذي تتنازع فيه الرؤوس الكبيرة على أتفه المناصب، ما دامت مرتبطة بصفقات مالية مهمة.
وبدلا من أن يتحول إلى تنفيذي في حكومة العبادي، سهل الكرابلة للحلبوسي، الحصول على منصب رئيس اللجنة المالية في الدورة البرلمانية السابقة، ما وضعه في مكان يسمح له بمراجعة الحسابات المالية لجميع أجهزة الدولة، فتحول إلى اسم بارز، يسعى وزراء مؤثرون إلى استرضائه. ومع تصاعد الجدل، بشأن دور مشبوه لعبه الحلبوسي في مناقلات مالية ضمن موازنة العام 2017، اختار الكرابلة، إخراجه من المشهد السياسي مؤقتا، تجنبا لاحتراق اسمه، ليشتروا له منصب محافظ الأنبار بنحو 20 مليون دولار.
شراذم واشنطن السنية
النائب السابق مشعان الجبوري يقول إن الحلبوسي دفع 15 مليون دولار لساسة سنة، ليكون المرشح السني الوحيد (صورة تجمع الجبوري والحلبوسي)
النائب السابق مشعان الجبوري يقول إن الحلبوسي دفع 15 مليون دولار لساسة سنة، ليكون المرشح السني الوحيد (صورة تجمع الجبوري والحلبوسي)
جلسة اختيار الحلبوسي محافظا للأنبار، مثلت صورة لواقع مثير للسخرية، رعته عائلة الكرابلة، يجسد كيفية توزيع المناصب في العراق، الذي تحول إلى سوق مفتوحة. فخلال جلسة علنية، صوت جميع أعضاء مجلس محافظة الأنبار لصالح المحافظ الجديد، بضمنهم ثلاثة من أعضاء الحزب الإسلامي، الذي كان يخوض حينها معركة كسر عظم في هذه المحافظة مع حركة ”الحل”، حول منصب المحافظ. وذاع حينها، أن أعضاء الحزب الإسلامي الثلاثة، دعموا الحلبوسي للمنصب، بعدما تسلموا نحو ربع مليون دولار لكل منهم، تكفل الكربولي بتوفيرها.
وبالرغم من الإمكانيات الهائلة التي تحتكم عليها محافظة الأنبار، والدور البارز الذي يلعبه المحافظ في توجيه هذه الإمكانيات لخدمة مصالح الحزب الذي ينتمي إليه، فإن الحلبوسي قرر مغادرة هذا المنصب بعد قضاء عام واحد فيه فحسب، طامحا في أن يكون رئيسا لبرلمان العراق، وذلك بعدما حقق قرابة أربعين ألف صوت في الانتخابات العامة التي جرت في مايو الماضي، متفوقا على أقرب منافسيه بفارق كبير.
وعكست النتيجة التي حصل عليها الحلبوسي في الانتخابات، حجم النفوذ الهائل الذي تحتكم عليه عائلة الكرابلة في المشهد السياسي العراقي، وقدرتها على تشكيله وفق مصالحها.
ولكن الحلبوسي، لم يشأ مغادرة منصب المحافظ، وهو بدرجة وزير، من دون ضمان إسناده لأحد محازبيه، فاختار أحد أعضاء حركة ”الحل” الفائزين في الانتخابات، ليمنحه المنصب، على أن يتنازل عن مقعده النيابي الذي حصل عليه في انتخابات 2018 لصالح محمد الكربولي، شقيق جمال الكربولي الأصغر، الذي كشفت مفوضية الانتخابات عمليات التزوير الواسعة التي تورط فيها، وأقصته من البرلمان.
وبذلك، ضمن الحلبوسي، وجود محمد الكربولي، على رأس الفريق الذي سيمهد طريق وصوله إلى رئاسة البرلمان، ولكن الأمر كان بحاجة إلى تجاوز عقبات كبيرة يمثلها وجود شخصيات سنية بارزة طامحة في هذا المنصب، مثل نائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي، ووزير الدفاع السابق خالد العبيدي، ومحافظ صلاح الدين أحمد الجبوري وغيرهم.
في هذه اللحظة، لم يتردد الكرابلة في الاستعانة بصديقتهم الوفية.. إيران، التي كلفت التحالفات العراقية الشيعية الموالية لها وأبرزها الفتح الذي يتزعمه هادي العامري بتعبيد طريق الحلبوسي نحو سدة رئاسة البرلمان.
كان واضحا أن الولايات المتحدة تفضل وصول النجيفي أو العبيدي إلى موقع رئيس البرلمان. لكن اللاعب الإيراني، كان نجح في ضرب الالتفاف السني المؤقت حول النجيفي، وتحويل “المحور السني”، إلى شراذم، من خلال العرض على الاحزاب المشاركة في مواقع تنفيذية مهمة. وبينما كان النجيفي يجلس إلى جانب مقتدى الصدر وحيدر العبادي وعمار الحكيم في فندق بابل ببغداد بعدما تعهدوا بدعمه للحصول على رئاسة البرلمان والاتفاق على ترتيبات إعلان الكتلة النياية الأكبر التي تملك حق ترشيح رئيس الوزراء الجديد.
كان الحلبوسي يجلس إلى جانب هادي العامري ونوري المالكي وحنان الفتلاوي في منزل زعيم تحالف الفتح، حيث كان يجري التخطيط لتشكيل كتلة أكبر موازية.
ويقول النائب السابق في البرلمان العراقي مشعان الجبوري، إن الحلبوسي دفع نحو 15 مليون دولار لساسة سنة، كي يضمنوا له أن يكون المرشح السني الوحيد لمنصب رئيس البرلمان، وهي الخطوة التي اشترطت الأحزاب الشيعية الموالية لإيران على الكرابلة تتحقيقها، كي يدعموا مرشحهم للمنصب.
وبالفعل، حاز الحلبوسي رضا نحو 90 بالمئة من النواب السنة في البرلمان العراقي، فتمكنوا بدعم شيعي وكردي من تنصيبه رئيسا لمجلس النواب، بعد مواجهة غير متكافئة في التصويت مع وزير الدفاع السابق خالد العبيدي الذي لم يستفد من الدعم الأميركي له ولا من انسحاب النجيفي لصالحه لحظة الاقتراع.
استثمار فاشل
ويعتبر مراقبون ان حصول الحلبوسي على هذا المنصب، هو حصيلة تنسيق إيراني تركي مع عدد من الحلفاء السنة في مواجهة ضغط أميركي غير فعال لصالح شخصيات أخرى.
ويقول الجبوري، إن خطورة الحلبوسي تكمن في أنه يستطيع إقناع جميع الأطراف بأنه إلى جانبها، وهو ما يفسر الدعم الذي حصل عليه من أطراف شيعية وكردية مؤثرة.
ولم يتردد الحلبوسي في ترجمة قدراته الفريدة في التواصل مع المتناقضين إذ سارع عقب توليه المنصب الجديد، إلى الاجتماع بممثل الرئيس الأميركي في التحالف الدولي بريت مكغورك قبل أن يدلي يتصريحات تشير إلى رفضه سياسة العقوبات التي تنتهجها الولايات المتحدة مع إيران.
ويتحدث اشخاص عرفوا الحلبوسي عن قرب، لـ”العرب”، عن “استثمار غير مأمون في هذه الشخصية”.
ويقول هؤلاء إن “الشراكة بين الحلبوسي والكرابلة لا يمكن أن تكون استراتيجية، لا سيما بعد حصوله على أحد أهم ثلاثة مناصب سياسية وسيادية في العراق”. مضيفين أن “الحلبوسي الذكي والعنيد، الذي لم يتردد في عقد قرانه سريعا، عندما فهم من الكواليس أن أحد الشروط غير المعلنة، الواجب توفرها في رئيس البرلمان، هو أن يكون متزوجا، لن يبقى مجرد تابع لجمال الكربولي، ولن يقبل بدور البيدق، الذي تحركه الأيدي”.
ويتوقع المقربون من الحلبوسي أن يختار هذا الشاب العلماني، الذي بات اصغر رئيس برلمان في تاريخ البلاد، دور الند للكرابلة، ولجميع الشخصيات المؤثرة في المشهد السياسي العراقي، ما يرجح احتمالية انقلابه في معسكر الولاء السياسي من طهران إلى واشنطن، في حال اقتضت المصالح.