بعد ان تخلصت من كابوس الاعدام بمساعدة الرائد الركن امر قاطع أمرية موقع الموصل / موقع الإعدامات، هذا الانسان الكريم والشريف الذي لن أنسى فضله أبداً، بعد ذلك أعادوني الى سجني السابق مثلما ذكرت في نهاية الحلقة السابقة من مذكراتي، حين دخلت الى المعسكر استقبلوني الجنود بالفرح والسرور ورحبوني، فرحوا كثيرا لعودتي مرة أخرى اليهم بسلام حيث كانوا يظنون بأنه سينفذ حكم الأعدأم ولن يروني مرة أخرى، أعطاني هذا الاستقبال القوة والثبات كي أهرب لأنني أحسست بأنهم قد منحوني تمام الثقة، كان السجن الذي وضعوني فيه مرة أخرى عبارة عن غرفة صغيرة يتم قفلها بأحكام من خلال سلسلتين حديدية ذو حلقات احداهما سميكة كبيرة والأخرى صغيرة يقفلان ومن حسن حظي كانت غرفة السجن تقع في اطراف المعسكر مقابل الشارع العام الذي يربط بين الموصل وبغداد، وهذا الشيء فتح لي المجال بشكل أوسع للهروب ومنحني الأمل بالخلاص من السجن والإعدام، بعد أن حسمت أمري للهروب وجهزت نفسي كنت أنتظر غروب الشمس وقدوم ظلام الليل.
بعد غروب الشمس وحلول ظلام الليل شاهدت قدوم احد الجنود راكضا في ممرات السجن وأبلغ الجنود الموجودين بان السيد الآمر قادم وذهب الى غرفته، وبعد برهة شاهدت قدوم مراسله المدعو (حمكت) كان يخدم الآمر، ابلغ مسؤول الحرس (فاضل عباس) بالمثول امام سيده لأمر مهم، عندما سمعت هذا الكلام انتابني الخوف والارتباك وقلت يا ترى ما هو الشيء المهم وكنت اعرف تماما أن الموضوع مرتبط بمصيري، وبعد لحظات عاد مسؤول الحراس وأبلغ الحراس بضرورة تشديد الحراسة وقفل باب غرفة السجن بسلاسل سميكة، ويجب وضع نقطتين للحراسة أمام غرفة السجن وخلفها بسبب خطورة الموقف، علماً كنت السجين الوحيد والمحكوم بالإعدام ويجب فعل ذلك لحين اليوم التالي حتى يتم تصحيح الاخطاء في الكتاب ثم يعيدوني الى أمرية موقع الموصل مرة اخرى كي تتخذ أمر حكم الاعدام هذه المرة.
لكن كما يقال (انقلب السحر على الساحر) بسبب ارتباكهم وحدوث خلاف بين الجنود الحراس حول الحراسة المشددة، وترتيب الواجبات وتوزيعها على النقاط أمام غرفة سجني وخلفها، كنت أشاهد وأسمع أصواتهم من خلال فتحة باب السجن، رفضوا ان يكونوا ضمن الحراسة وتحججوا بمختلف الاعذار، حيث سمعت أن أحدهم قال : أنا أخذت بالأمس الحراسة ولا استطيع اليوم بنفس المكان، بينما قال الآخر : انا اليوم عدت من الاجازة وقال الثالث : انا مريض، لذلك حصل خلاف بينهم ووصل الى حد المشاجرة، وبعد أن علم رئيس عرفاء الوحدة (زين العابدين علي) بذلك خرج اليهم وفتح تحقيقا عسكريا بحقهم من أجل تقديم جميعهم الى السيد العقيد أمر الوحدة من اجل معاقبتهم لخرقهم القوانين العسكرية وعدم الالتزام بها، كانت هذه فرصة ذهبية للهروب حيث بقى جندي وحيد أسمه(احمد) من قضاء الحويجة أمام غرفة السجن واخذوا باقي الجنود للتحقيق معهم، يبدو أن احمد انتابه خوف شديد بسبب بقاءه وحيداً لحراسة غرفتي ثم قال لي بارتباك:
– هل تريد شيئاً لكي افتح لك الباب واغلقه بعد ذلك ؟
– نعم أود أن أذهب الى الحمام، حيث كانت المرافق الصحية في السجن على شكل كابينة تقع خلف غرفة سجني في الطرف الاخير من المعسكر.
وقد استجاب لطلبي بالذهاب رغم أنه كان خائفا ولكنه لم يستطع رفض طلبي لان من حقي وحق أي سجين أن يذهب الى المرافق الصحية عندما يكون بحاجة الى ذلك. ولكن عندما وجدت الفوضى بين الجنود وانشغال الجميع بالتحقيق معهم عند الآمر، بقي جندي واحد في الحراسة حيث وجدت ذلك فرصة سانحة للهروب، لذلك توجهت الى المرافق الصحية التي كانت تبعد حوالي 50 م تقريبا، وكان الظلام دامساً وعندما وصلت الى باب المرافق وضعت ابريق الماء امام باب الكابينة، وبدأت بالركض نحو الشارع العام الذي يربط بين الموصل وبغداد، ولكن في البداية لم تساعداني قدامي على الركض بسرعة بسبب الوضع النفسي المتدهور الذي كنت أعاني منه حينما أخذوني الى موقع الاعدام بالإضافة الى التعب والإرهاق، ولكنني قررت بمواصلة الركض مسرعاً وأساعد نفسي، لان في كلتا الحالتين كنت سأواجه عقوبة الاعدام فيما أذا القوا القبض علي مرة أخرى فإذا أمسكوا بي فأنها سوف تكون نهايتي الحتمية وإذا هربت ونجوت ولم يمسكونِ سيكتب لي حياة جديدة، لذلك واصلت الركض بكل ما أوتيت من طاقة وقوة، كانت هناك قنطرة تحت الشارع القريب من حي وادي الحجر، كان هدفي هو محاولة تجاوزها، لكن شاهدت وجود دورية عسكرية راجلة هناك، لذلك بدأت بتغير وجهتي نحو اليمين اي في اتجاه مدينة الموصل وعلى بعد مائة متر من الدورية وصلت الى الشارع حيث كان الظلام حالكا ولم يستطيعوا رؤيتي، حاولت ايقاف سيارة كي أستقلها ولكن لم أوفق بذلك، ولم أستطع العبور من الشارع المرتفع خوفا من اضواء اعمدة الكهرباء الموجودة على الشارع، لذلك اضطررت الى الدخول في وادي على شكل مستنقع الى جانب الشارع وتوجهت نحو المدينة ، ثم دخلت بين عدد من هياكل الدور السكنية، وبسبب الركض المستمر وحالتي المتدهورة والتعب اضطررت الى التوقف قليلاً وأخذ قسط من الراحة لمدة دقائق لكي أسترجع بعض من طاقتي وبعد هذه الاستراحة القصيرة قمت بتعديل ملابسي وقيافتي من اجل ابعاد شكوك الاخرين عني ثم توجهت نحو الشارع وعندما رأيت قدوم سيارة كانت من نوع ( لادا – بيضاء اللون) لوحت بيدي للسائق ثم توقف وشاهدت شخص أخر جالسا الى جانب السائق طلبت منهم ايصالي الى كراج الشمال على وجه السرعة ولكن من سوء الحظ كان أتجاه السيارة نحو الجهة المعاكسة وسوف تمر من خلال الدورة القريبة من وادي الحجر حيث كان يوجد هناك باب النظام الرئيسي لمعسكر الغزلاني الذي يتواجد فيه عدد من الوحدات العسكرية ومنها وحدتي التي هربت منها، لذلك كنت خائفا ان يكونوا قد وضع سيطرة للتفتيش اثر هروبي امام باب النظام الموجود القريب من الدورة للبحث عني، ولكن لم يكن أمامي مفر أو طريق آخر طلبت من السائق أن لا يتوقف عند أحد، فتعجب وقال لي :
– لماذا انت مستعجل جداً اراك لست على ما يرام
– نعم لقد هرب مني سجين أثناء واجبي في السجن، بدأ السائق بالسب والشتم، ثم قال :
– لماذا تذهب الى كراج الشمال ولا تذهب الى كراج شيخان ؟
– لقد ارسلنا مجموعة من العسكرين الى كراج شيخان وانا مكلف بذلك .
– انت من اي مواليد ؟
- انا من مواليد سنة 1956
- رد علي بتعجب هذا المواليد قد تسرح من الجيش منذ توقف الحرب العراقية الايرانية
- ((حاولت أن أتفادى ذلك)) نعم كلامك صحيح لكن كنت هارباً لمدة سنتين من الخدمة العسكرية وتوجب علي تعويضها، ونحن نتكلم هكذا وأخذنا الحديث حتى وصلنا الى كراج الشمال .
كان معي آنذاك مبلغ من المال من دراهم معدنية على شكل السداسي تقدر اكثر من ثلاثة دنانير في جيبي وبعد أن أوصلني الى كراج الشمال ولشدة خوفي وارتباكي واستعجالي نسيت أن هناك دنانير حديدية لذلك أخرجت ورقة من فئة خمس دنانير الورقية وكانت أجرته هي دينار ونصف وعندما أعطيتها للسائق قال :
- لا يوجد معي صرف
- خذها انت واصرفها في احدى المطاعم او الدكاكين ثم رجع لي الباقي ثلاثة دنانير، كنت اعلم ان السائق لن يرجع الباقي، توجهت الى داخل الكراج وجدت سائق تاكسي ينادي بصوت عال : زاخو زاخو (أي أنه سوف يتوجه الى قضاء زاخو) هل انت اول من تنطلق؟لا بعد أنطلاق السيارة اول ومن ثم تأتي دور لي– حينها ادركت بان السيارة ستنتظر الركاب، ذهبت الى سائق آخر وهو كان مرتدي ملابس الكوردية قلت له :
- أريدك أن تأخذني الى مدينة زاخو
- لا استطيع لان ليس دوري
- سأدفع لك أي المبلغ الذي تطلبه
- اركب
- اخرج بسرعة من الكراج
بعد أن ركبت السيارة وهو في طريقه الى الخارج توقف أمام باب الكراج عند كابينة صغيرة، تفاجأت وانتابني الخوف عندما شاهدت عامل النقابة يخرج من الكابينة، حينها لم أكن أعرف قوانين الكراج بأن هناك نقابة في الكراج، ثم توقف سائق التاكسي فقلت له بدهشة:
- لماذا توقفت؟
- مد يده الى جيبه ثم قال : سأدفع حق النقابة وهي ربع دينار
حينها تنفست الصعداء، خرجت من جيبي كومة من النقود المعدنية تقدر بثلاثة دنانير وضعتها في يد العامل الذي ارعبني بالخوف وأمرت السائق التحرك بسرعة، قال السائق :
- (تعجب من الكلام) اراك لست على ما يرام ؟ هل لديك مشكلة ؟
- نعم كنت آمر حرس السجن ولسوء حظي هرب شخص مسجون اثناء واجبي ولم يبقَ لي سوى شهرين ستنتهي خدمتي في الجيش
عند سماعه ما قلت قاد سيارته بسرعة، بدأت أتأمل بالنظر الى مدينة الموصل لاني لم أراها منذ عشر سنوات، كنت اشاهد شوارعها مكتظة بالناس في الليل، وأنا أهرب منها، رغم توقي للبقاء فيها بعض الوقت، سار سائق التاكسي من شارع الى شارع من أجل أن يخرجنا من المدينة وبدأنا شيئا فشيئا نقترب من نقطة التفتيش العسكرية في منطقة المجموعة في أطراف الموصل كي نخرج من الموصل ونتجه بعدها الى مدينة دهوك ثم الى زاخو، وعلى بعد كيلو متر تقريبا من نقطة التفتيش وكان الوقت حوالي منتصف الليل، حينها قررت أن اقول الحقيقة للسائق لكي ينقذني من هذا الموقف ثم وضعت يداي على باب التاكسي وقلت له :
- توقف رجاءً !!
- تعجب السائق وركن سيارته جانباً، ثم قال : ما بك ؟
- أريد أن اقول لك الحقيقة وأترجى منك أن تفهم موقفي والوضع الذي أنا فيه لأنني الان تحت رحمتك وإنسانيتك وغيرتك .
بدأت علامات الارتباك والتعجب تظهر على وجهه، ثم أجانبي قائلاً :
- لقد وضعتني في حيرة من أمري لا ادرك ما هي مشكلتك ؟
- كنت عنصر من البيشمركه وفقدت عائلتي في عام 1988 ابان عمليات الانفال السيئة الصيت وقد اعتقلتني السلطات العراقية وكنت في السجن وأنا محكوم بالإعدام، تمكنت من الهروب منهم هذا اليوم، لذا أرجو منك أن تساعدني في محنتي الصعبة هذه وتنقذني من هذا الموقف، كانت يداي على باب السيارة وانا جاهز ما اذا رأيته يرفض طلبي كنت سوف افتح باب السيارة وأترجل منها، وأواصل سيري مشياً على الاقدام وابتعد عن النقطة العسكرية بعيدا عنها تجنباً منهم وأتجه نحو تلكيف وتللسقف بالمشي ثم الى قرية ختارة التي يسكنها الايزيدية أعتمادا على خبرتي السابقة بالمرور في هذه المناطق
وانا أفكر رأيته تنهد قليلاً وبدا يفكر ثم قال :
- أخاف منك أن تكون من قطاع الطرق تسلبني وتقتلني ؟ الا تحمل سلاحاً ؟
وضعت يدي خلف رأسي وقربت جسمي اليه، ثم قلت: تفضل قم بالتفتيش .
كل ذلك من اجل كسب ثقته على ما اقول ثم القى نظرة وأطلق شهيقاً عميقاً، وقال لي:
– أسمعني جيداً….. لقد حان ساعة الغيرة من أجل قضية مناضل مثلك ضحى بالغالي والنفيس من اجل شعبه فمتى سأكون صاحب غيرة وكرامة، وسأساعدك بكل طاقتي لكي أخرجك من هذا الوضع الصعب، ولكن هل لك دراية بطريق آخر نستطيع المرور به بعيدا عن نقاط التفتيش العسكرية ؟
– نعم لدي دراية بطريق يمر عبر (تلكيف، تللسقف، باطنايا) وبعدها تمر بالقرب من قرية ختارة الى مفرق ناحية القوش .
– لكن هناك نقطة تفتيش عسكرية في مفرق ناحية القوش
– أعلم ذلك، هذه النقطة يتم نصبها في المفرق نهاراً فقط وفي الليل يتم رفعها وبذلك يكون الطريق آمناً مفتوحاً أثناء الليل .
أدار أتجاه السيارة وكنت أرشده على الطريق حتى وصلنا الى قرية باعذرة، حينذاك لم تكن باعذرة ناحية بل كانت قرية او قصبة صغيرة، وعندما وصلنا الى مدخل قرية باعذرة طلبت منه ان يتوقف كي لا يعرف الى أين سأذهب، رغم مساعدته لي ولكنني كنت لا زلت أخاف أن يخبر أحد عني وكنت املك مائة دينارعراقي في جيبي وضعتها أمامه وقلت له :
- هذه أجرتك وشكرا لك ايها الرجل الكريم لقد أنقذتني ووفيت بوعدك لي رغم أن هذا المبلغ من المال قليل بحق ما فعلته من أجلي، فرد علي وقال :
- من المعيب جدا علي كشخص كوردي انا أخذ ثمن مساعدتي لشخص مثلك ناضل بروحه وضحى بعائلته من اجل شعبه ومن اجلنا، لكن سأخذ فقط عشر دنانير وأرجو منك ان تصفي نيتك علي لان هذه السيارة هي مصدر رزق لعائلتين، ورغم أنني حاولت أن أعطيه المبلغ كله بدل العشرة دنانير لكنه رفض ذلك وأكتفى بعشرة دنانير، ثم التوجه الى دار المرحوم قاسم كورو وهو كان مهاجر من قرية كوهبل تابع الى قضاء السنجار؛اما كان السائق شخصا كريماً، عظيماً وشريفاً ومخلصاً لي ولشعبه، فقد كان يستطيع أن يخبر عني ويسلمني الى السلطات الحكومية لكوني سجيناً هارباً من حكم الإعدام كان سيحصل بشكل مؤكد على أكرامية وجائزة قيمة، ولكنه لم يفعل ذلك بالعكس وضع روحه وحياته على المحك وفي الخطر وساعدني وأوصلني بين النقاط العسكرية من الموصل الى قرية باعذرة، في محنتي هذه وكأن الله سبحانه وتعالى كان يرسل لي أشخاصاً الى طريقي لكي ينقذوني من هذه المحنة الصعبة ففي كل مفترق كنت أصادف شخصا أو بالأحرى أنساناً بكل معنى الكلمة كان وفياً ونبيلاً معي الى أبعد الحدود ابتدائا من أمر الحراس السجن المدعو خليل ابراهيم من الشامية والذين كانوا يحرسون باب سجني وكانوا لي أوفياء وصولا الى الرائد الركن الذي أنقذ حياتي من الاعدام مرورا بهذا السائق الانسان الذي أخرجني من كابوس النقاط العسكرية والجيش وأوصلني الى بر الامان وللحديث والتكملة بقية