أتمّ فيروس “كورونا” الجديد شهرَهُ الثالث منذ أول ظهور له في مقاطعة ووهان الصينية في يناير الفائت، واليوم يعلن الفيروس دخوله لأكثر من 90 دولة، واضعاً أعراضه على 104.000 مصاب حول العالم، ومؤكداً وفاة 3599 شخصاً بحسب آخر إحصائيات منظمة الصحة العالمية.
ومنذ اللحظة الأولى، وما إن تم تأكيد خبر انتشار الفيروس حتى بدأت أصابع الاتهام تتناوب في الإشارة فيما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
الصينيون يتهمون الولايات المتحدة بأنها من نشرت الفيروس في إطار حربها الاقتصادية على الصين، وهي ضمن تاريخ “حرب جرثومية” طويلة المدى.
والأمريكان من جهتهم يوجِّهون اللوم والاتهام إلى الصين بأنها سبب انتشار هذا الفيروس نتيجة أبحاثها السرية والمستمرة في تطوير أسلحة بيولوجية وعلى مدى عقود من الزمن.
ويعرف السلاح البيولوجي بأنه أحد أشكال أسلحة الدمار الشامل غير التقليدية التي شهدها التاريخ، وهو ما كان يطلق عليه سابقاً سلاح “العقوبات الذكية”، التي تنشر الأوبئة والجراثيم للقضاء على أكبر قدر ممكن من السكان والبيئة.
تاريخ البلدين في تطوير الأسلحة البيولوجية
– أمريكا:
خلال الحرب العالمية الثانية طورت الولايات المتحدة أسلحة بيولوجية لكنها لم تستخدمها مطلقاً.
كان هناك العديد من العوامل والقوانين لاستخدام الأسلحة البيولوجية في ساحة المعركة، فهي لا تصبح نشطة على الفور، وكانت حساسة للظروف البيئية والأرصاد الجوية، ويمكن أن تتسبب في تلوث المنطقة مدة أطول من المقصود.
لكن ومع ذلك استمرت الولايات المتحدة في تخزين الأسلحة البيولوجية وتطويرها حتى عصر ما بعد الحرب.
قاد ماثيو ميزلسون، عالم الأحياء بجامعة هارفارد، حملة ناجحة ضد تطوير الأسلحة البيولوجية بدأت في أوائل الستينيات.
في عام 1969، تخلصت الولايات المتحدة من برنامج الحرب البيولوجية الهجومية وكان لها دور مهم في التفاوض بنجاح على معاهدة دولية تعرف باسم اتفاقية الأسلحة البيولوجية (BWC).
تحظر المعاهدة تطوير وإنتاج وتخزين العوامل البيولوجية، وجميع النظم ذات الصلة المعدة للاستخدام العدائي.
في شرح القرار الأمريكي، علق الرئيس ريتشارد نيكسون في عام 1970 قائلاً: “لن نستخدم الجراثيم اللعينة أبداً، فما الفائدة من الحرب البيولوجية كرادع إذا كان يمكن أن يستخدمها شخص ما علينا؟”.
– الصين:
مقارنة بالولايات المتحدة، جاءت الصين متأخرة للعبة، فغالباً ما كانت تمثل الطرف المتلقي لدمار الأسلحة الجرثومية، حيث استخدمها ضدها الجيش الإمبراطوري الياباني خلال الحرب العالمية الثانية.
نتيجة لذلك، شعرت الصين بحتمية بناء منشآت بحثية مخصصة للحرب البيولوجية “الدفاعية”.
في أغسطس 1951، أنشأ رئيس مجلس الدولة، تشو إنلاي، أكاديمية العلوم الطبية العسكرية يطلق عليها (AMMS) لإجراء بحوث في الدفاع البيولوجي.
ونظراً لأن الصين لم تكن تمتلك أسلحة نووية حتى منتصف الستينيات، فربما تكون قد استكشفت بالفعل تطوير أسلحة بيولوجية كسلاح أخير أو رادع استراتيجي مماثل للأسلحة النووية.
ولكن بحلول عام 1982، كانت الصين قد اكتسبت ترسانة نووية، وبعد ذلك بعامين، انضمت إلى اتفاقية الأسلحة البيولوجية.
شهد منتصف الثمانينيات في القرن السابق تحولاً في جدول الأعمال الوطني للصين نحو التنمية الاقتصادية، أدى ذلك إلى تضاؤل التمويل اللازم لمرافق البحث البيولوجي في الصين، وبدؤوا تطوير منتجات للأغراض المدنية وليس العسكرية.
وأصبح “AMMS” مركزاً لتطوير أدوية ولقاحات ضد الفيروسات والأمراض الحديثة. حيث ابتكر دواء مضاد للملاريا يسمى “benflumentol” ونال عليه براءات اختراع في أكثر من 50 دولة.
كذلك أثناء اندلاع فيروس إيبولا عام 2014، تعاونت “AMMS” مع شركات الأدوية الصينية لتطوير عقارين لعلاج هذا المرض الفتاك.
تراشق الاتهامات بين البلدين
– الجانب الأمريكي
رغم أن كلا البلدين هما طرفان في اتفاقية الأسلحة البيولوجية، فلا يزال كل منهما ينظر إلى الآخر بعين الشك.
وزعمت تقارير سابقة للحكومة الأمريكية أن الصين واصلت امتلاكها “لقدرة حربية بيولوجية هجومية تعتمد على تقنية طُوِّرت قبل انضمامها إلى اتفاقية الأسلحة البيولوجية”.
ووفقاً لمسؤول سابق من وزارة الدفاع الأمريكية، فإنّه بحلول التسعينيات من القرن الماضي كانت الصين قد صنعت مجموعة كبيرة ومتنوعة من الكائنات الحية الدقيقة والسموم وكانت لديها مجموعة واسعة من وسائل التوصيل المتاحة لاستهداف أي دولة، ومن ضمن ذلك الصواريخ الباليستية والصواريخ الروسية.
وعلى الرغم من أن هذه التقارير والاتهامات لم يتم إثباتها مطلقاً بأدلة مفتوحة المصدر، فإن المنشورات الصينية الرسمية تشير إلى نشاط بحثي مرتبط ومنظم في مجال الحرب البيولوجية.
– الجانب الصيني
ينظر كثير من الناس في الصين إلى الولايات المتحدة على أنها أكبر تهديد محتمل للحرب البيولوجية.
بعد انتشار السارس 2002-2003، تخيّل بعض الخبراء العسكريين الصينيين سيناريو أعداء يرشون فيروسات غير معروفة تشبه السارس على بكين خلال الغارات الجوية.
وأشار خبير طبي عسكري صيني بارز إلى أن واشنطن قد سلحت السارس وفيروس إنفلونزا الطيور.
في عام 2001، رفضت إدارة الرئيس جورج بوش البروتوكول المقترح لاتفاقية الأسلحة البيولوجية، وأقنع هذا الرفض بعض الخبراء الصينيين بأن الولايات المتحدة جددت اهتمامها بتطوير أسلحة بيولوجية.
وفي عام 2007، نشر الباحثون العسكريون الصينيون مقالاً يتهمون فيه الولايات المتحدة “باستخدام تقنيات جديدة لتطوير عناصر أسلحة بيولوجية جديدة”، ويدعون أنه “من المرجح للغاية” أن تكون جراثيم الجمرة الخبيثة المستخدمة في هجمات 2001 على مكاتب أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين تسربت من مختبرات عسكرية أمريكية.
نتائج انعدام الثقة بين البلدين
إن انعدام الثقة المتبادل والتصورات الخاطئة تؤدي لتغير الإجراءات التي تتخذها الدول لتحسين أمنها، ما يجعل الوضع العام أقل أماناً.
الأسوأ من ذلك أن برامج الدفاع البيولوجي مبهمة للغاية، وعندما يُنظر إلى دولة ما على أنها تسعى إلى امتلاك أسلحة بيولوجية، فمن المرجح أن يسعى منافسوها إلى الحصول عليها.
خلال الحرب العالمية الثانية طورت كل من الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة أسلحة بيولوجية لأنهم اعتقدوا أن ألمانيا امتلكت مثل هذه الأسلحة.
بسبب الاتهمات المستمرة وسوء الظن بين البلدين؛ تجاهلت الصين عروض المساعدة المقدمة من المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها.
ووفقاً لمدونة منشورة على موقع إلكتروني تابع لـ “Jiefang Daily” (الصحيفة الرسمية للجنة شنغهاي للحزب الشيوعي الصيني)، قد يكون “بعض خبراء المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها” في مهمة عسكرية “للتجسس على قدرات الصين في مجال الأبحاث الفيروسية”.
فيروس كورونا بين نظريات المؤامرة والعلم
من أوائل الإشاعات التي ظهرت بعد تفشي كورونا وانتشرت على نطاق واسع، أن الجنود الأمريكيين المشاركين في الألعاب العالمية العسكرية لعام 2019 في ووهان ألقوا الفيروس عن عمد في سوق هونان للمأكولات البحرية.
لكن، ونظراً لأن الفيروسات التاجية حيوانية المنشأ، وهذا يعني أنها تقفز من الحيوانات إلى البشر، يتفق معظم العلماء على أن الخفافيش كانت مضيفاً طبيعياً للفيروس.
والادعاء بأن الفيروس التاجي الجديد سلاح بيولوجي ليس ضاراً فحسب، بل هو أيضاً غير مدعوم من الناحية العلمية.
أشار العلماء إلى أن الطفرات في الفيروس “تتفق تماماً مع التطور الطبيعي”. وفقاً لصحيفة “The Lancet”، فقد توصل علماء من بلدان متعددة “بأغلبية ساحقة” إلى أن الفيروس التاجي الجديد نشأ في الحياة البرية.
وخلصت دراسة أخرى أجرتها جامعة جنوب الصين للتكنولوجيا إلى أن الفيروس التاجي “ربما” نشأ في مركز ووهان لمكافحة الأمراض والوقاية منها، الذي يبعد 280 متراً عن سوق ووهان للمأكولات البحرية، وتسرّب من المختبر بطريقة أو بأخرى.
وربما يكون الاستخفاف بقواعد السلامة وراء ذلك الحدث.