أجرى السيد حسام الحاج في برنامجه الموسوم “في متناول اليد” (قناة الشرقية) بتاريخ 10/03/2020 حواراً سياسياً مع الدكتور فؤاد حسين نائب رئيس الوزراء ووزير المالية، حول الوضع السياسي وحكومة عادل عبد المهدي، وعن الانتفاضة الشبابية والشعبية المستمرة طوال 160 يوماً، والموقف من مطالب الانتفاضة، وحول انخفاض سعر البرميل من النفط الخام في السوق الدولية ومدى تأثيرها على الاقتصاد العراقي وعلى رواتب موظفي الدولة، إضافة إلى الموقف من مطلب الجماهير المنتفضة بتشكيل حكومة مستقلة، رئيساً ووزراءً، من غير الأحزاب الحاكمة. كل الإجابات التي قدمها الدكتور فؤاد حسين عن أسئلة المحاور تستوجب المناقشة، ولكني، ورغم أهمية القضايا الأخرى، سأقتصر في مناقشتي على مسألة واحدة وردت في إجابات الدكتور فؤاد حسين، لا بصفته الشخصية فحسب، بل وبصفته نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للمالية، عن سؤال المُحاوِر حول تشكيل حكومة مستقلة في العراق ورفضه لهذه الفكرة أصلاً واستغرابه من المطالبة بها، لأن الحكومة تنظيم وتدير شؤون البلاد، وهي حكومة سياسية ولا يمكن أن تكون مستقلة! فهل كان الوزير في إجابته عن هذا السؤال محقاً، أم إن مطلب تشكيل حكومة مستقلة من جانب المنتفضين والمنتفضات هما الحق والعدل، وهما المطلوبان بإلحاح وسرعة في المرحلة الراهنة في ضوء الحالة العراقية الاستثنائية الراهنة. فالحديث هنا لا يدور عن حكومة في بلد آخر لا يعيش انتفاضة شعبية عمرها أكثر من 160 يوماً حتى الآن، وبعد أن أقسم المنتفضون والمنتفضات، رغم كل التضحيات الغالية والكثيرة جداً واليومية، بأنهم لن يتركوا ساحات وشوارع النضال ما لم تتحقق المهمات والأهداف التي انتفضوا من أجلها.
لنتابع الواقع الجاري على أرض العراق، فبعد مرور أكثر من 17 عاماً على وجود الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية المتحالفة مع الأحزاب الإسلامية السياسية السنية ومع الأحزاب الكردية في الحكم، بغض النظر عن الصراعات التي نشبت وما تزال مستمرة بين أطراف هذا التحالف القلق والمتعثر، ولكن المتماسك بغير حق في مواجهة مطالب الشعب الأساسية والرافض لها فعلياً، ومن حيث دفاع أطراف الحكم الثلاثة على ضرورة استمرار وجود حكم طائفي سياسي فاسد وملوث بهيمنة أجنبية إيرانية شديدة وتبعية صارخة لها، بغض النظر عن المواقف المتباينة نسبياً لأطراف هذا التحالف بصدد هذه المسألة الهامشية أو المصالح الذاتية أو تلك. وبعد معاناة الشعب المريرة والقاسية من نظام المحاصصة الطائفي والأثني الفاسد الذي:
** يتنكر لمبدأ المواطنة المتساوية والواحدة ويأخذ بقاعدة الهويات الفرعية المتقاتلة والقاتلة التي عاشها العراق طوال السنوات المنصرمة؛
** التوزيع المحاصصي في السلطات الثلاث وأجهزة ومؤسسات وهيئات الدولة على أساس الهوية الطائفية والأثنية والتنكر لحقيقة وجود ملايين البشر غير المنتمين للأحزاب السياسية الطائفية أو الأثنية واستبعادهم من المشاركة في سلطات ومؤسسات الدولة؛
** التمييز الفظ والمتعارض مع حقوق الإنسان بين أتباع الديانات والمذاهب في البلاد، حيث عانى المسيحيون والمندائيون والإيزيديون وكذلك أتباع المذهب السني من العرب من تميز ظالم وبغيض على مدى الفترة المنصرمة، ولم يكن هذا من قبل الجماهير التي تتبنى المذهب الشيعي بل من القوى الحاكمة التي تدعي تمثيلها للشيعة زوراً وبهتاناً. إضافة إلى ما حصل خلال الفترة 1814-1917/1918، من اجتياح وإبادة جماعة للإيزيديين وقتل وسبي واغتصاب ونزوح وتهجير هائلين في الموصل وعموم محافظة نينوى عبر عصابات داعش المجرمة للإيزيديين والمسيحيين والتركمان والشبك وأهل السنة الذين رفضوا داعش، في ظل هذا النظام الطائفي القائم وبقيادة حزب الدعوة الإسلامية والبيت الشيعي الطائف بامتياز.
** تركيز النفوذ السياسي والاقتصادي والمالي بيد القوى الحاكمة ومن خلالهما الهيمنة على النفوذ الاجتماعي والتحكم بالدولة والمجتمع وحياة البشر.
** تفاقم الفساد المالي والإداري بما يزكم أنوف حتى الحكام المشاركين أساساً في نهب خيرات البلاد وخزينة الدولة، بحيث أصبح الفساد نظاماً قائماً وسائداً ومعمولاً به في الدولة والمجتمع ومع الخارج، وأصبح العراق في ظل هذا النظام في مصاف الدول القليلة الأولى في قمة الفساد المالي والإداري في تقارير منظمة الشفافية الدولية ولدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
** التدهور المستمر والطاغي للخدمات الأساسية للمجتمع، لاسيما الكهرباء والماء والسكن والصحة والتعليم والمواصلات والاتصالات …إلخ، بحيث أصبح العراق يحتل مواقع متقدمة جداً وفي مواقع متقدمة من الدول الأكر تخلفا ورداءة في الخدمات.
** الغياب التام لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتفريط الفعلي الواسع النطاق للمال العام، إلى جانب النهب والسلب له، بحيث أصبح العراق يوجه نسبة عالية جداً من موارد النفط المالية لاستيراد مختلف السلع الاستهلاكية والكمالية، لاسيما السيئة من إيران وتركيا؛
** تفاقم البطالة في صفوف القوى القادرة على العمل، لاسيما في صفوف الشبيبة والخريجين على نحو أخص، وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 35% من القوى القادرة على العمل، رغم محاولات تخفيض هذه النسبة، مع حقيقة وجود جيش جرار من رجال الأمن والشرطة والجواسيس والعيون التي تراقب الشعب، إضافة إلى الميليشيات وفرق الاغتيالات؛
** تفاقم حجم وعمق الفقر المدقع لنسبة عالية جداً من العائلات العراقية والتي تعيش تحت خط الفقر، وتلك التي تعيش على خط الفقر، إضافة إلى نسبة عالية تعيش فوق خط الفقر بقليل، والتي كلها تشكل النسبة العظمى من سكان البلاد، في مقابل بروز مجموعة من حيتان الفساد المليارديرية والمليونيرية على حساب قوت الشعب ورزقه اليومي. إن الفجوة بين فقر الأكثرية وغنى الأقلية الضئيلة في اتساع دائم لا مثيل له في تاريخ العراق الحديث؛ ويمكن العودة لتقارير المنظمات الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتعرف على مدى فقر المجتمع وعلى مدى فساد وغنى الطغمة الحاكمة وحواشيها؛
** تفاقم القتل اليومي للمتظاهرين المطالبين بحقوقهم المشروعة والعادلة والاختطاف للمناضلين من إعلاميين وكتاب وعموم المثقفين والكادحين الذي يسعون لبناء حياة إنسانية طبيعية في العراق، وآخر مختطفين هما توفيق التميمي ومازن لطيف.
** قبول الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الـ 17 المنصرمة بالتدخل الفظ للدول الأجنبية في الشؤون العراقية كافة، لاسيما إيران، مما يشكل نهجاً ثابتاً في الخضوع لقرارات حكام إيران في مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية من جانب الحكم القائم.
بعد كل هذا، وغيره كثير، انتفض الشعب العراقي بشبابه أولاً، وببقية فئات الشعب لثانياً، ضد هذا الوضع وضد العملية السياسية الفاسدة والمشوهة الجارية طلها. ويجُمع المراقبون في العراق والعالم على إنها أروع وأوسع وأعمق انتفاضة شهدها العراق في تاريخه الحديث، إذ تعبر بعمق ووعي ومسؤولية وبروح المواطنة التي لا تعرف التمييز بين القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية السليمة، عن إرادة ومصالح الشعب بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، ودفاعاً عن الوطن المستباح بقوى الإرهاب والميليشيات والهيمنة الأجنبية الإيرانية والتدخل الفظ لدول الجوار بشكل خاص، لاسيما تركيا، في الشؤون العراقية. إن انتفاضة الشعب المجيدة طرحت مسائل ثلاث أساسية:
- إجراء تعديل جاد وديمقراطي عادل لقانون الانتخابات، وكذلك قانون وبنية مفوضية الانتخابات وجعلها مستقلة حقاً عن الأحزاب كلها، سواء الحاكمة منها أم غير الحاكمة، وإجراء انتخابات مبكرة لمجلس النواب العراقي بإشراف الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية والمحلية بحيث لا تتجاوز عاماً واحدة مع تشكيل الحكومة المستقلة.
- تشكيل حكومة عراقية مستقلة عن الأحزاب التي شاركت حتى الآن في الحكم بل وحتى التي لم تشارك فيه، أي حكومة مستقلة ومصغرة وذات صلاحيات كاملة لتمارس تنفيذ المهمات الواردة في الفقرة 1 حصراً وتنتهي مهمتها خلال أقل من عام واحد.
- قيام القضاء العراقي والادعاء العام بالتحقيق الجاد والمسؤول والعادل بكل الجرائم التي ارتكبت في فترة الانتفاضة ضد المتظاهرات والمتظاهرين في أنحاء العراق، ومنها عمليات القتل والاختطاف والتغييب المستمرة والاعتقال والتعذيب والتي كانت وما تزال تجري حتى في الوقت الذي كان نائب رئيس الوزراء ووزير المالية يتحاور مع قناة الشرقية بشأن الوضع في العراق، والذي يتحمل مع رئيس الوزراء وبقية الوزراء ما جرى ويجري في هذه الفترة من حكومة عادل عبد المهدي. إطلاق سراح جميع الذين اعتقلوا واختطفوا خلال فترة الانتفاضة الشعبية.
ومن هنا نقول للدكتور فؤاد حسين، إن مطلب الشعب المنتفض محدد سلفاً بمرحلة انتقالية وذات أهداف محددة، وهو لا يريد حكومة ذات برنامج متوسط أو طويل الأجل، ولا يريد تنفيذ سياسات الأحزاب المتحالفة في إدارة الدولة منذ تشكيل مجلس الدولة الانتقالي المؤقت حتى الآن، وبالتالي لا يشترط في مثل هذه الحكومة أن تُمثل بالأحزاب القائمة التي لكل منها برنامجه الذي يسعى إلى تنفيذه، بل يريد حكومة انتقالية مؤقتة ومسؤولة عن المهمات الثلاث السابقة التي يفترض أن تبتعد عن دور وتأثير الأحزاب الحاكمة حالياً، سواء أكانت عربية أم كردية أم من أحزاب إسلامية أو قومية، بل من قوى مستقلة عنها.
إن هذا المطلب العادل والمشروع هو ما ترفضه الأحزاب الحاكمة لأنها تريد أن تفرض ذات السياسات التي جرّبها الشعب طيلة 17 عاماً واكتوى بنيرانها وأعطى عشرات ألوف الضحايا بسبب تلك السياسات. لقد قتل حتى الآن أكثر من 700 إنسان عراقي وأصيب بجروح وإعاقة أكثر من 25000 إنسان متظاهر ومتظاهرة أثناء الانتفاضة الجارية، واعتقل الآلاف وعذبوا في السجون والمعتقلات الرسمية وغير الرسمية التي تقودها الميليشيات العراقية-الإيرانية الطائفية المسلحة.
أرى إن الدكتور فؤاد حسين، وهو خبير قانوني، لا يريد أن يعترف ، وهو العارف ببواطن الأمور، كما يعرف تماماً مفهوم والمهمات المحدودة لحكومة مستقلة في ظل انتفاضة شعبية من هذا النمط السلمي الجاري، ويعرف بأن مثل هذه المهمة لا تخضع لمعايير الأحزاب الحاكمة التي يرفضها المنتفضون لأنها أذاقته مرًّ العذاب سنوات طويلة، كما لا تخضع للدستور الذي تجاوزت عليه بفظاظة واستمرارية كل القوى الحاكمة، وأن الشعب، كما يعرف الخبير القانوني هو مصدر السلطات، وعندما ينتفض الشعب ويصر على التغيير، فلا بد أن يعي السياسيون المسؤولون، مهما كانت هوياتهم وايديولوجياتهم ومواقعهم، ضرورة الخضوع لإرادة الشعب وتنفيذ مطالبه، لا مواجهته بالحديد والنار والادعاء بوجود طرف ثالث يقتل المتظاهرين، والطرف الثالث هو بيد رئيس الحكومة التي يعمل الدكتور فؤاد حسين نائباً له. ورئيس الحكومة هو الذي يشرف مع كتلة أهل البيت الشيعية على عمل ونشاط الدولة العميقة ومؤسساتها وميليشياتها ومكاتبها الاقتصادية غير الشرعية.
يعرف الدكتور فؤاد حسين بأن الشعب العراقي قد فقد الثقة كلية بالنخب والأحزاب والقوى الحاكمة وبمجلس النواب والقضاء العراقي، وبالتالي من فقد ثقة الشعب به لا يمكن إعادتها من خلال تشكيل حكومة بذات النخب والمواصفات التي هي عليها الآن لتقوم بتنفيذ المهمات التي يطرحها المنتفضون والمنتفضات، بل لا بد من وجود حكومة مستقلة تنفذ تلك المهمات حصراً. وبالتالي فهو يجانب الواقع والحقيقة في ادعاءه بأن ليس هناك في القاموس السياسي حكومة مستقلة، فمطلب حكومة مستقلة من قبل الثوار والثائرات لم يأت من فراغ، بل من واقع الحال القائم منذ 17 سنة، بسبب السياسات المعادية لمصالح الشعب والمناهضة لكل ما هو عقلاني وسليم، سياسات دمرت الثقة التي يجب أن تكون ملازمة للحكم بين الشعب والأحزاب الحاكمة. إنها مفقودة منذ سنوات كثيرة ولا يمكن استعادتها برفض تشكيل حكومة يمكنها أن تعيد الثقة للشعب من خلال قيام حكومة جديدة بعد إجراء انتخابات نزيهة وشفافة ومراقبة وتستجيب لمطالب الشعب العادلة والمشروعة وتنفذ ما عجزت ورفضت النخب والأحزاب والقوى الحاكمة تحقيقها خلال السنوات المريرة والبائسة والدموية المنصرمة.