عندما قدم الراوندي أبو الحسين (205هـ -245هـ) إلى بغداد وكان يسبقه شهرته، وبعض من كتبه المتجاوزة حسب بعض المصادر المائة كتاب، حاملا مخطوطته (الفرند) ساعيا بين الذين لهم صلات بالأوساط العلمية لكي يزكوه إلى الخليفة، أهتدى إلى وراق يدعى عباس الصرم، فرجاه أن يستنسخ له عدداً من النسخ من كتابه. يقال إن عباس شرع في تصفح الكتاب، ودقق النظر في عناوين فصوله، وكانت حيرته تزداد كلما ازداد وقوفا على محتويات الكتاب وجرأة صاحبه. فدار بينهم حديث، ويقال إن الحديث داره بينه وبين الخليفة المتوكل وله تشعبات، وأنسخ منها التالي كما ورد في العديد من المراجع:
قال له: يا أبا الحسن هل طالع أحد هذا الكتاب؟
فأجاب: نعم، هناك نسخ منه في متناول المهتمين بموضوعه في الرأي.
فقال: يدهشني أنت ما زلت على قيد الحياة ناعماً بحريتك في الذهاب والإياب، على الرغم من هذا الكفر الذي تبثه في ثنايا الكتاب.
فقال ابن الراوندي: ما سجلته في هذا الكتاب حقائق وليس بكفر.
فعاد يقول له: لقد أنكرت الأصول الثلاثة للإسلام، وهي التوحيد والنبوة والمعاد.
فقال ابن الراوندي: ليس الأمر كما تتصور، فلو دققت النظر لعرفت أنني لم أنكر التوحيد، وإنما رغبت في تنزيه الخالق عن الخرافات التي تنسب إليه.
ولربما هذا ما نحن بصدده، فلا النصوص نزه الخالق، ولا متبعي الإبراهيمية فعلوها بتفاسيرهم أو تأويلاتهم، بل أضافوا على تصغير الخالق أو القوى الكونية إلى مستويات التجسيد ومحدودية العقل البشري، وبعضها لغاية فرض العبودية على المجتمعات، وبعضها للتسييد باسم الإله.
فما بين الإنسان والإله أبعاد مطلقة، والإنسان هو المتحكم بتفكيره لإنتاج المعرفة، وفهم واكتشاف أسرار الطبيعة، والإله، أو العلة الأولى، خارج التحكم في الطبيعة الإنسانية، لأنه ليس كقوى تجسيدية مراقبه، أو حتى قوى كونية مطلقة في التصور الإنساني، ولا حواس كما يصفه الأديان كمراقب لحركة الكون والإنسان، أنه المطلق الحاضن لكل العلل ومنها المطلق الإنساني الذي صغره رغم وضعه خارج أبعاد التحكم، ولكنه صوره كمغير لمسارات الإنسان والطبيعة، بأهواء مقاربة لأهواء البشر، يغضب ويثور، ويرحم، ويغفر، ويعاقب، ويرمي الإنسان في الجنة والجهنم، وهي ذاتها سجون إلهية، وغيرها من المشاعر الإنسانية النسبية المتناقضة مع المطلق الإلهي الأبعد من المطلق الإنساني المحدد كما ذكرنا بأبعاد الكونٍ، أي أن الإله، إما آلهة، أو مالك نزعات، وهنا ينزع عنه الكمال، ووحدة أو كلية العلة، الإله، وإرادته تتأثر بأفعال البشر.
ولهذا عرض الإنسان إلَّههُ على مقاس الأباطرة والفراعنة الذين كانوا بحاجة إلى من يقدسوهم ويعبدوهم، وأورد النص التالي “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدوني” ليقضى بهذا على اللا محدود الإلهي، فهل الإله بحاجة إلى من يعبده، وما الغاية من هذه العبادة؟ والذي لا يوجد تبرير له والله لا يحتاج إلى من يعبده؟ أليست هذه المفاهيم نابعة من ثقافة العبودية المستمرة على مدى عصور مديدة، والسلطتين الدنيوية والدينية كانا بحاجة إلى ديمومتها، لتبرير طغيانهم على المجتمعات، فتم نقلها من لدنهم إلى حيث عبادة الإله من خلال سلطاتهم، ومعابدهم التي يتحكمون بها.
وما يتناقض مع لاهوت الأديان السماوية، أن الإله خارج مجالات الفعل كما يقول ديكارت، فالقوى المطلقة الكلية لا حاجة بالفعل مع الأبعاد الإنسانية اللامتناهية بالصغر. ولا حاجة إلى السلطات الاستبدادية اللاهوتية أو السياسية الدينية للتعريف بذاته أو وصاياه، وكل الفرق الإسلامية المدعية أنها تملي الشروط الإلهي ليست بأقل كفراً من قاتل الأطفال بحجج الحفاظ على الوطن، وكل من فوض ذاته نائبا عن الإله، أو مدعيا أنه ناقل نصوصه وإملاءاته ينافق العلة والمعلول إي الإله والإنسان، وغايتهم ترسيخ سلطة الاستبداد باسم الإله، بتصعيد درجات الرهبة من إلهه المركب ذاتياً.
وفي شرقنا تلاقت السلطتين الدينية والسياسية الاستبداديتين وعلى مدى قرون، على فكرة الإله، وتساوى في محاولات إعدام العدالة، والأخلاق، وإحلال أوبئتهم مكانها، إلى أن تعارضت مصالحهما، وتصارعا وكان حطبهما شعوب المنطقة، وهو ما أدى إلى ظهور إنسان يعاني الكثير من الأمراض، ويحتاج إلى ثورات فكرية صحية متتالية، خارج اللاهوت الإسلامي لإنقاذه. فظهرت الأفكار المطروحة عن الإله ومن ضمنها هذه، والتي يراها البعض عبثية ولا نهائية ولا تؤدي سوى إلى المتاهات، والصراعات السفسطائية، والأديان أكثر المجالات الفكرية البشرية ضبابية وتائهة، لذلك ينقل ولا يناقش العقل. وآخرون يرونها من ضرورات المعرفة البشرية، والتطور الذهني، وتدفع تراكمه المعرفي إلى التوسع فيها، وتحريرهم من العبودية الفكرية.
التطور المعرفي أثبت أن الزمن البشري معدوم في الحضور الكوني، والقوة المتحكمة بالكون تنعدم فيها الأرض وأبعادها، وبالتالي فالإله أو القوة المسمى بالإله، أبعد من التقديس، أو الحاجة إلى العبادة. فما ظهرت من الأديان، وعرض الآلهة، إلى أن رست إلى الآلهة الإبراهيمية خلال مراحل التطور الفكري، وفرضت بأسمائهم القوانين الاجتماعية وعرضت النصوص كدساتير، لم تتجاوز الأبعاد الإنسانية، حتى ولو كانت في بداياتها كثورات فكرية اجتماعية ساهمت في التطور الحضاري، لكنها بالمقابل جلبت الكوارث والدمار للبشرية، ووقفت في بعض العصور أمام الحضارات، والتطور العلمي، واستغلتها في مراحل عديدة شرائح من الناس للهيمنة، وترسيخ سلطاتهم، مثلما سخر التكفيريون الإسلاميون في السنوات السابقة النص القرآني لغاياتهم، وشرعوا الشر والقتل باسم الإله، وتحت خيمة حماية الأمة الإسلامية، الأمة التي لم تكفرهم، وظلت تحيل أفعالهم إلى الإله، ولهذا فهذه السلطات وخلفهم البسطاء من البشر يكرسون مفهوم التقديس بكل أشكاله، ويجرمون تحت ظل التعرض للذات الإلهية، أو انتهاك الحرمات المقدسة.
فهل الإله له عبرة في الإجرام والسبي، وهل له جنة لهؤلاء الأشرار لأنهم يقدسونه، وجهنم لمن قتلوا وتم سبيهم ولا يؤمنون بالتقديس له بمنطقهم؟ هل الله سيحاسب الإيزيديين في يوم القيامة كأمة كافرة؟! أم ستحاسب جماعات داعش ومن والاهم؟ أي إله هذا الذي يتلذذ بالقتل وعذاب الجهنم لبشر هو خالقهم وهو القادر على تسييرهم كيفما شاء؟ وهل هناك إله على هذه المقاسات البشرية وبهذه الصفات والعواطف الإنسانية؟ وهنا لا مكان لعلم الكلام في تأويلات القدريين والجبريين، لتبرئة الله؟ وترسيخ مفاهيم التقديس لإله خلقوه ولم يخلقهم، أو ما يربط به من شخصيات أو أماكن على الأرض، وهي مثلها مثل غيرها بل ولربما أٌقل أهمية؟ ولماذا يبرئون الإله، وهل يحتاج إلى تبرئة بهذين المفهومين؟ أليست تأويلاتهما طعن في لا محدوديته وتقديسه؟
وإذا فرضنا جدلا هناك نهاية ويوم القيامة، من سيحاسب من في ذاك اليوم؟ هل الله سيحاسب الإنسان لأنه لم يعبده ولم يقدسه؟! أم الإنسان سيحاسب الله؟ من عذب من؟ من خلق المجرمين والأشرار والمنافقين والطغاة؟ ألم يكن الله على علم بما خلق؟ فلماذا خلقهم والإنسان البسيط؟ هل ليعذبه ويتلذذ بتعذيبه؟ ويعلم أن الإنسان الذي يخلقه طوع إرادته؟ أليست هذه المفاهيم تشبه كخلق الإنسان للكمبيوتر، فعندما يصبح الجهاز عاطلا وغير صالح يقوم الإنسان بمعاقبته وتدميره، وإذا كان ناجحا يستخدمه ويحافظ عليه، وبالتالي يطلب من الجهاز عبادته وتقديسه، أليس معاملة الإله للإنسان تشبه هذه المعادلة البسيطة، والإنسان وضعه الله أمام خيارين، إما الجهنم أو الجنة.
وإذا فرضنا جدلا هناك نهاية ويوم القيامة، من سيحاسب من في ذاك اليوم؟ هل الله سيحاسب الإنسان لأنه لم يعبده ولم يقدسه؟! أم الإنسان سيحاسب الله؟ من عذب من؟ من خلق المجرمين والأشرار والمنافقين والطغاة؟ ألم يكن الله على علم بما خلق؟ فلماذا خلقهم ومعهم الإنسان البسيط؟ هل ليعذبه ويتلذذ بتعذيبه؟ ويعلم أن الإنسان الذي يخلقه طوع إرادته؟ أليست هذه المفاهيم تشبه كخلق الإنسان للكمبيوتر، فعندما يصبح الجهاز عاطلا وغير صالح يقوم الإنسان بمعاقبته وتدميره، وإذا كان ناجحا يستخدمه ويحافظ عليه، وبالتالي يطلب من الجهاز عبادته وتقديسه، أليس معاملة الإله للإنسان تشبه هذه المعادلة البسيطة، والإنسان وضعه الله أمام خيارين، إما الجهنم أو الجنة.
لا حكمة في تقديس الخالق، وتكوين الخليقة، إذا نظرنا إليهما من البعد الديني، مثلما لا حكمة في تقديس قوة كونية خارج أبعاده. ولا يحتاج الخالق والخليقة إلى الحكمة إذا بحث في وجودهما من الحيز العلمي.
مع ذلك تبقى البشرية بحاجة إلى الأديان وفكرة الإله، وتقديس أشياء أو تقديرهم، ولكن ليست الآلهة التي تخدم شريحة من البشر. مثلما هي بحاجة إلى التطور العلمي، وتحرير وتطوير الأديان والمذاهب المدمرة للبشرية، والتي تسخرها الأشرار لتمرير غاياتهم الإجرامية، ولتصبح الأديان مساندة للتطور الحضاري، ولا تقف عائقا أمام العلوم والعلاقات الإنسانية الطيبة، الأديان التي تربط الإنسان بإلهه دون التقديس ودون طموح لسطوة أو إجرام.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية