الشاعر مؤيد الراوي .. (1ـ2)
في أجواء مهرجان نادي الرافدين للثقافة العراقية في برلين 2012 تعرفتُ على مؤيد الراوي عن طريق الصديق المخرج ستار عباس الذي خطط للقاء بمؤيد والتمهيد لأجراء هذا الحوار المشترك.
ستار كان قلقاً بحكم عدم لقائه بمؤيد من سنين، لكنه كان يُدرك ما يعانيه من آلام وصعوبات بسبب حالته المرضية التي تسببت في تحديد علاقاته، وتوجسه من احتمال عدم وجود ميل أو رغبة للاسترسال في الحديث عن تجربته الادبية والسياسية.
لهذا أخذ يُكرر نصائحه بالحذر من احتمالات عدم تجاوب الراوي، كان غير موقناً من أن يثمر اللقاء بنتيجة. مع تكرار تنبيهه حسمتُ امري لأكون مستمعاً له في أول لقاء به، لقناعتي بأن الراوي ليسَ انساناً عادياً بحكم وجوده في قوام جماعة كركوك المتميزة بخصال جيل مبدعيها في مجال الشعر والرواية والمسرح وبقية فنون الأدب والمعرفة.
جيلا امتزجت حياته وهمومه بحلم الحرية والتمرد، خاض التجربة مقتحماً أوسع ابوابها من درابين الفقر في أحياء الكادحين.. التي جمعت بين مجموعة الاصدقاء المتطلعين للانعتاق والتحرر، اللذين تجاوزوا التصنيفات الأثنية والقومية واطر الدين وكل ما يمت بصلة للمفاهيم المستهينة بالإنسان.
صنعوا من شرارة نفوسهم المتقدة شعلة للكفاح تنير الدرب للخلاص من عذابات وجحيم الحياة التي يتحكم بها الطغاة والمستبدون. فتألقوا في السماء يمطرون من فيض ابداعهم قصائد .. قصائد تحرضُ حتى “التنبل ” لتجاوز كسله .. تلهب النفوس .. تمتدُ في الفضاء لتناطح السماء متجاوزة اسوار السجون والمعتقلات تسخرُ من غباوة المستبدين الذين لجئوا لمصادرة الحريات وتوهموا إنّ بإمكانهم تحجيم العقول المنتجة للفكر والإبداع باعتقالهم لشلة الاصدقاء.. التي شملتها اجراءات الملاحقة والقمع عبر مفارز تجوب الأزقة والدروب بين كركوك وبغداد لتجمعهم في زنازين الموت أيام شباط 1963.
هذه التجربة المريرة.. التي حولت جيل المبدعين الحالمين الى علامات وأسماء فاعلة.. انتجت فكراً وشعراً ومعرفة.. تحولت الى رايات.. تؤشرُ عبر قامات سامقة لهامات المبدعين التي عرفت بـ جماعة كركوك .. مؤيد الراوي .. سركون بولص .. انور الغساني .. جان دمو .. فاضل العزاوي .. جليل القيسي .. زهدي الداوودي ..
في هذا اللقاء تركتُ الراوي يفيضُ بما في دواخله .. كان ستار يستعلمُ منه بين الحين و الآخر .. تحدث عن الشعر .. السياسة .. اللقاءات الأولى مستذكراً بسلاسة تلك الأيام .. كنت ادون ما استطيع تدوينه في لقاء برلين بالرغم من التعب والإرهاق بعد ساعات اعقبت الحفل الختامي لمهرجان الثقافة العراقية الذي تواصل لعدة أيام.
بدأ الراوي .. حديثه مستذكراً اجواء كركوك عبر اللقاءات التي كانت تجمعُ بينه وبين عدد من اقرانه آنذاك .. ذكر وتذكر منهم انور الغساني .. معروف البرزنجي .. زهدي الداوودي .. الذين كانوا يشكلون محوراً ومجموعة صداقة تلتقي وتتابع الكتابات المنوعة في العهد الملكي بما فيها مجلة شفق بالفارسية.. وبين انه كانَ في وقتها قد بدأ بالكتابة والنشر في جريدة فتى العراق التي كانت تصدر في الموصل ومن بين ما كتبه في حينها ترجمة لقصة قصيرة .
قبل أن تصدر جريدة كركوك بعد ثورة 14 تموز 1958 لصاحبها الهرمزي التي تحولت الى جريدة كاورباغي لاحقاً واستلمها عثمان خوشناو .. لكنّ احداث كركوك وملابساتها المعقدة التي ساهمت في خلق تغييرات في عقلية المواطن جعلتنا نتعمق في المعرفة، كنا نحاول ان نستوعب الاحداث لذلك بدأنا بمشروع قراءة كتاب ومناقشته .. كان يأخذ جليل كتاب ما ويقوم سركون بمناقشته من الناحية الطبقية.. كنا فقراء نعاني من اوضاعنا المادية، وكان انور عصامي ويعاني من عقدة وفي عمر متقدم ترك وظيفة التعليم وقدم الى الجامعة ليتعلم الخط .. كان يخط احياناً من أجل وجبة طعام.
في بغداد كنا نسهر ونشرب على شط دجلة الجميل .. احياناً ننام بالقرب من باعة الرقي الذين يعطفون علينا ويهبون لنا واحدة منها لنتناولها بدل وجبة طعام.
بدأتُ أعمل مع حسو اخوان في حافظ القاضي. حصلت احد أيام العمل على دينار اسرعت به الى المربعة لتناول السمك المقلي.. لأول مرة اجد من يهرب من السمك الجري.. لم أكن اعرف من يستحرم اكله.. بعد تناول السمك ذهبت الى قهوة برازيلية في بداية شارع السعدون. كنت جالساً اتقي الحر فجأة انتبهت الى حركة الناس الذين تركوا حاجياتهم. ركضوا مسرعين يتشبثون بسيارة تمرق من الشارع.. استفسرت عن السبب و الغاية؟.. ادركت انهم كانوا يسرعون لتقبيل قضبان شبابيك العباس المطلية بالذهب .. للأسف كان بعضاً مما ركضوا من المدنيين الذين تبدو عليهم مظاهر التعليم..
في هذه الفترة اتفقنا أن نستأجر شقة لتكون مسكناً لنا، لكن انور تهرب من دفع الأجر، فاضطررتُ لدفع 8 دنانير وهو مبلغ كبير آنذاك .. في ذات الشقق ايضاً سكنت الفنانة نسرين شيروان.. ترددَ عليها الكثير من النساء والرجال بينهم شيوخ و آغوات اكراد يلعبون القمار..
اذكر من بين من شاهدته عندها الفنان حسن جزراوي الذي غنى اغنية (كابوكم ليلي) الشهيرة، استفاد انور وفاضل من هذه الاجواء .. خلقوا علاقات مع بعض النسوة لكنني امتنعتُ .
حاولت نسرين مساعدتي في دفع الأجر .. كانت تريد ان ابقى لكني وجدت فرصة للعمل في مدرسة الراهبات في حسن باشا كمعلم لأكثر من سنتين.. وانتقلت حينها الى شقة على الشط بالقرب من بائع السمك على بعد 50 متراً من الجسر ..
في هذه الفترة حدثت لي مشكلة ناجمة من حرصي على الطالبات والتعليم إذ تعلقت احداهن بي .. حاولت امها أن تزورني في الشقة لكني رفضتُ .. لم اكن ارغب في أن تساء الظنون بها في حالة مجيئها الى الشقق.. التي تتواجد فيها الفنانة نسرين شيروان والمترددين عليها .. مع ذلك وجدتها ذات يوم تطرق الباب عليّ.. حاولت اقناعي بالزواج من بنتها المتعلقة بي.. رفضتُ بسبب صغر سنها وفارق العمر ، كنتُ قد بلغت 28 عاماً أي ضعف عمر طالبتي.
تعاملت مع الطالبات بروحية جديدة تجمع الفكاهة بالتدريس كي لا تكون الدروس مملة.. لهذا كنت امازح ماركريت احدى الطالبات الكسولات التي كانت لا تنتبه للدرس.. وتحيك بأناملها الصوف قائلا لها : بدلاً من التقدم نحو لوحة الكتابة / الصبورة، هيا الى مسرح العذاب، بعد تلكؤها وفشلها في الاجابة اسألها لماذا لا تدرسين ؟ .
بعد سنة ونصف عملتُ في الصحافة وزارني بصحبة شقيقتي عدد من الراهبات في مبنى الجريدة.
غادرتُ العراق عام 1969 .. عدت عام 1973 لأتزوج من فخرية البرزنجي التي تسكن في المأمون ـ الأعظمية.. توجهت مع فاضل العزاوي وصادق الصائغ الى دارهم لإجراء مراسيم الخطوبة .. الأمن كمنوا لي في الدربونة . اقتادوني الى شرطة الأعظمية ، منها نقلت لأودع في الأمن. لم يعذبوني كثيراً . لا اعرف ماذا كانوا يريدون؟! . كان هذا أصعب شيء يمكن التوصل اليه. لم أكن حينها شيوعياً كي اعترف وتنتزع مني المعلومات. هذه المرة كنت خارج صفوف الحزب الشيوعي..
كل الناس في العراق بما فيها الحكومة مع المقاومة الفلسطينية ويدعمونها.. وأنا خارج العراق اعمل مع المقاومة الفلسطينية ايضا .. قالوا:
ـ نريد معلومات عمن يعمل هناك من العراقيين المنخرطين في صفوف المقاومة.
اجبت:
ـ لا اعرف اكثر مما يُكنى به البعض بأبي الأسود أو ابو الفهود.
فأُجابه بسؤال.
ـ من هو ابو الأسود ؟ .. ومن هو ابو الفهود ؟ .
تتواصل المشكلة. قلت لا اعرف الا نفسي الملقب بـ ابو مازن و أسمي مؤيد الراوي .. اعمل في القسم الفني من اعلام منظمة التحرير .. اخذوا يشتمون كالوا اقبح الالفاظ ليستعرضوا قوتهم ليس الاّ .. أزداد عناداً وسخرية مما يدور من حولي.. في المعتقل ينادون بأسماء بعض المعتقلين لجولات التعذيب ونسمع الصراخ والأنين بشكل متواصل .
بعد شهر نقلت الى موقع آخر. اتصل بي ناصيف عواد .. اعرفه منذ أن نُسِبَ للعمل والإشراف في الاعلام والصحافة .. علمته اشياء كثيرة في تلك الفترة. التي كنا نذهب فيها الى قناديل للشرب .. شهدتُ حالة دهسه لطفل في شارع الرشيد .. قدم في سياق حديثه بالتلفون اعتذاره مما لحق بي و أكد:
ـ بعد هذا الحديث ستخرج فوراً لنلتقي ..
بعد انتهاء الاتصال الهاتفي، قادني السجان لزاوية مرتبة فيها كتب لماركس و انجلس، صبّ لي قدحاً من القهوة .. هكذا خرجت من المعتقل دون أن أدري لماذا اعتقلت؟ .. لا اضنهم أدركوا ايضاً السبب .. أو ماذا أرادوا مني في ذلك الاعتقال !! ..
اذكر انهم طلبوا من جندي معتقل ارتداء ملابس جديدة وأنيقة ليذهبوا به الى ابي نواس كي يكشف ويشخص لهم ابن عمه الذي كان منتسباً لكتيبة دبابات.. متهم بالعمل مع التنظيم المنشق عن الحزب الشيوعي العراقي تحت راية القيادة المركزية .. لكنه عاد للسجن دون أن يكشف عنه .. فعادوا لشتمه وضربه دون فائدة..
بعد خروجي من السجن لم التقي ناصيف عواد بتاتاً الاّ في باريس.. إذ كان يشرف على اصدار مجلة فيها، حينما شاهدني صدفة في الشارع سألني : إنْ كانت لدي ملاحظات على الحكومة الحالية ونهج السلطة والبعثيين؟.. أوضح : انّ صديقك عبد الوهاب البياتي اصبح مدير عام، و بلند الحيدري عاد هو الآخر .. واستفسر إن كنتُ ارغب في طبع شيء كي اواصل العلاقة معهم.
قلت له : فرحت بوجودي في العراق.. لكن سأواصل العمل في اعلام الفلسطينيين لدي التزام معهم..
غادرت مع فخرية البرزنجي متوجهاً الى بيروت لأعمل في اعلام منظمة التحرير الفلسطينية لعقد كامل امتد من السبعينات لغاية الثمانينات. فقدنا خلالها طفلة لنا بسبب اصابتها بالسرطان وعدم تمكننا من علاجها للأسف. وطبعت في بيروت ديواني الأول وفيه 11 قصيدة ونشرت مواضيع باسم مازن ومجموعة قصصية بعنوان سرد المفرد. عموماً انا مقل في النشر احياناً اترك القصيدة لمدة عام. اعيد كتابتها قبل أن أقرر نشرها.
عدنا نذكرهُ بالبدايات في كركوك ..
اشعل سيكارة بعد أن نفذ دخانها بهدوء عادَ ليحدثنا عن نشأته في اجواء عائلة جمعت بين حنان أم مسيحية من سواره توكه ودفء أبٍ مسلم ليبرالي متجاوز لمفاهيم الدين المتزمتة عمل سائقاً للقطار بين بغداد والبصرة حيث تعارفا على بعضهما في العاصمة.
عن كركوك .. المكان الاول في ذاكرة الراوي التي كتب عنها سابقاً اكثر من عشرين صفحة في مجلة صفارن وفيها ترجم اول قصة يابانية لـ ي ابوي من الانكليزية نشرت في مجلة لبنانية وعلى خشبة مسرحها مثل وأدى دوراً قصيراً مع مجموعة فنانين مسرحيين جمعهم عصمت الهرمزي .. قبل أن يكتب موضوعين مهمين حول الاعتقال والتعذيب عام 1963 .. لكنه ما زال يفكر ويعد نفسه لكتابة المزيد عن هذه التجربة وله رأي بخصوص السيرة الذاتية وكيفية حكايتها وسردها مؤكداً.
الجنود الأمريكان مثلا لهم سيرة جيدة لكنها خالية من الفلسفة و الاستنتاجات.. فترة عام 1963 هي هاجس لا بدّ أن اكتب عنها. كانوا يجمعوننا ويضربونا بالعصي ونحن نركض لنهرب .. اولئك الجنود لماذا كانوا يعذبونا؟! .. كل حفلة ضرب وتعذيب يموت اثنان او ثلاثة من المعتقلين..
شاهدتهم يسحبون و يجرون الموتى من السلك الشائك.. هذا التعذيب المجاني هو جزء من وحشية بعض فئات الشعب العراقي المكونة من الرعاع للأسف.. كنا مغفلين بحلم النضال وتقبل هذه الأشياء.. كانوا يأخذوننا للتعذيب في الانضباط العسكري مع شرطي واحد ولا نفكر بالهروب منه.. كي لا يتعرض الشرطي للتعذيب والسجن بدلاً منا.
مرة فتشوا القاعة. وجدوا رسومات كنتُ قد رسمتها. سألني أحدهم:
ـ لماذا ترسمها ؟ .
قلت:
ـ افكر واحلم انا رسام .. صاح السائق:
ـ خذ الاستاذ ليشتري الأشياء التي يريدها ويحتاجها كي يعمل لي تصميم نافورة قال بتعاطف:
ـ خذ ما تحتاج من مواد
اخذني الى البيت على مسؤوليته لأشاهد عائلتي .. اثناء اللقاء قلت:
ـ تفضل معنا
قال:
ـ لا خذ راحتك.. شاهدت امي وبقية افراد العائلة وعدتُ مثل “الطلي” الى السجن ولم أهرب..
أما صديقي الشيوعي نور الدين شقيق حسين كرد شين المعتقل والسجين في نكرة السلمان الذي شاركني بحلقة القيد و المكلبج بكرسي القطار معي فقد شاهد ذلك الموقف القبيح الذي تعرضتُ له عندما جاء شخص عربي ليجلس بالقرب منا في القطار وسأل:
ـ شنو ذولة ؟
وحال سماعه شيوعي بصق في وجهي بالرغم من عدم معرفته بي .. تركتُ الشيوعية والعمل السياسي لاحقاً ليس بسبب هذا التصرف الأرعن وحده.. بل لكثرة ما تراكم من مشاهدات وقبائح تصب في ذات الشأن ..
بألم يقول الراوي وهو يسترجع تلك المشاهد .. الآن نور الدين دكتوراه في الموسيقى.. أما احسان الصالحي فقد اعدم ..
وعن قحطان الهرمزي المهتم بالأدب والثقافة.. قريب المذيع الشهير سعاد الهرمزي.. فقد انتقل الى بغداد بعد مجيء البارزاني الى كركوك.. وشجع العمل في مجال الفن و المسرح .. وكان بهاء الدين من جيل غائب طعمه فرمان مع محمود العبدي يرسمان .. و ايضاً سنان سعيد الذي عاد من باكو مذيعاً ورساماً جيداً في الوقت الذي برزت مواهب عصمت علي حسين السعيدي.. الذي يسكن في منطقة الحديدية كممثل وكاتب باللغة الشعبية .. والجميع مع جليل القيسي.. اجادوا التمثيل.. قبل أن يقرر جليل السفر الى أميركا.. بسبب تأثره بالفن.. وشغفه لمتابعة الفن السينمائي.. وعصمت المغادر الى تركيا .. أما علي حسين السعيدي وكذلك احمد رستم فقد اختفوا. وبعد غياب طويل فاجئني في مبنى الجريدة علي حسين قائلا:
ـ اتيت من النمسا. الآن اعمل مع مخرجين مهمين. أخذنا غرفة في كمب الأرمن.. عمل مسرحية جيدة وقدمها في بغداد. كان يدخل في الشخصية. وتم تعيينه في الفرقة القومية للتمثيل براتب بسيط بسبب عدم وجود شهادة.
في عام 1970 في سوريا شاهدني وقال لي علي حسين : صديقك وضعه صعب كنت اوده، تألمت من مشاهدته مشدوداً بالسرير.
أثناء مشاركة حسين مع فرقة عراقية ذهبتْ للتمثيل في الاردن.. في احداث ايلول.. وعادت للتمثيل على مسرح القباني في دمشق.. حاولوا انزاله من الخشبة.. لكنه رفض.. كان منفعلا و متوتراً.. وعند تدخل الشرطة طلب زرقه بإبرة مهدئة.
في عودة للعهد الملكي عام 1956 قال الراوي مستذكراً :
ـ اشتركت في تظاهرة ضد العدوان الثلاثي على مصر .. كانت شقيقتي قد تزوجت من مجيد الجادر في الموصل .. وشقيقي لديه تاكسي تعمل بين العراق و مصر .. جاءنا اشعار بخروج مظاهرة من سينما العلمين في كركوك. مع بدأ الهتافات تحركت مجاميع الشرطة المتأهبة .. شاهدت محمد علي عربتلي في المظاهرة كان قد خرج من السجن.. الذي تمكنت من مراسلته فيه عدة مرات اثناء المواجهة، وتعلمت منه الأسماء الغريبة في العالم ماياكوفسكي .. نيرودا .. لوركا .. قبل أن اتعرف على شعرهم.
العربتلي دخل السجن بسبب القتل.. لكنه كان لديه مكتبة كبيرة فيها روايات ومجلات ودواوين شعر .. في السجن اصبح شيوعي .. بعد خروجه اعتقل ثانية بسبب الاشتراك في المظاهرة والانتماء الفكري .. وافرج عنه وخرج بعد الثورة في تموز 1958 .. في تلك المظاهرة اثناء هتافه اعطاني مسدس لم اعرف كيف اخفيه فتوجهت برفقة زميلي سامي نحو النهر وألقيت المسدس فيه.
بعدها ذهبت الى الكراج وتوجهت الى الموصل .. تجولنا في الغابات والمناطق المحيطة بالمدينة التي كانت عامرة بأشجار المشمش والعنب والفواكه وبقينا خمسة ايام ننتقل في القرى والمدن بين بعشيقة و بحزاني والشيخان و تلكيف في سهل الموصل.
ثم انتقل بنا الحديث الى ما بعد الثورة ليقول:
ـ في سنة من سنوات عبد الكريم قاسم اعتقل عدد من الشيوعيين منهم مصلح مصطفى الجلالي.. الذي رشحني للحزب عام 1956 بواسطة توفيق احمد.. الذي تعرض للاعتقال والسجن هو الآخر.. ورفض ابو مصلح زيارته في المعتقل متذرع .. انه ليس كحيوان.. ليُطمغ ويختم في زنده اثناء الدخول للسجن.
في الوقت الذي كان مصلح يخطط للهروب من السجن مع رفاقه المعتقلين الذين حاولوا الاستفادة من خبرتي في مجال التمثيل والمسرح وطلبوا مني عمل مكياج و طمغة من البطاطس، أخذت الماكياج الخاص بالممثلين وتوجهت مع بكر من فرقة الطليعة المسرحية الى سجن السراي في مديرية شرطة كركوك لترتيب امر هروب مصلح من السجن .. لكن فكرة الهروب الغيت بسبب وجود خطة ثانية.
يسترسل الراوي في الحديث عن توفيق بالمزيد من التفاصيل قائلا:
في شاطرلو في أول بيت سكناهُ كان توفيق أحمد وعائلته جيران لنا.. صادقونا ودعموا والدتي و ساعدوها. أرضعتني ام توفيق حليباً مع آمنة لتصبح اختي بالرضاعة.
علماً أن مصلح قد اعتقل ثانية في اعقاب تشرين 1963 وتعرض لتعذيب شديد ونتف شاربه وشعرته ولم يصمد، غير مجرى حياته ، ترك السياسة ليعمل في مؤسسات الدولة.
وتعرف مصلح على شخصية كردية من بيت الجاف يجيد العربية.. كان قد القى البيان الأول للانقلابين عام 1963.. ونسب للعمل في النقابات.. كلف بتوزيع الفلوس على الجحوش والمرتزقة الكورد المتعاملين مع السلطة..
ـــــــــــــــــــــ
صباح كنجي
20/8/2012