(أعطني خبزًا ومسرحًا.. أعطيك شعبًا مثقّفًا)
هنا في ساحة التحرير حيث انتفاضة تشرين المستمرة منذ الأول من تشرين 2019، مارس الشباب المنتفضون وعياً عالياً يعتبر نموذجاً رائعاً في كافة المجالات، فكانت الجلسات والخطابات والندوات السياسية من جهة مقرونة بالنشاطات الفنية من رسم وتخطيط وفن المسرح والسينما والغناء والشعر والنقد بأنواعه، وممارسة أشكال مختلفة من الرياضة وغيرها من النشاطات اليومية الأخرى التي غدت من عناصر وروح المنتفضين الواعين والمدركين لأهدافهم الطامحين الى وطن جديد جميل بكل شيء، بعيد عن الجهل والتخلف والطائفية والعنصرية والمحاصصة. الى بلد المواطنة، بلد بدون فساد، وطن يزخر بالجمال والفن. وقد كان للمسرح دور مهم خاصة كونه مجالا لطرح الأفكار وأيصال الرسائل السياسية وتثقيف الجمهور. فلا يكاد يمر يوم دون أعمال فنية وخصوصا المسرحية، من قبل فنانين محترفين وهواة وشباب يقفون ليمثلوا لأول مرة في حياتهم، فـأمتزجت الخبرات لتقدم أعمالا مسرحية جذبت الجمهور وتفاعل معها لأنها عكست مأساته. فالجمهور هو الشباب المنتفض والمتضامنون معه من الفئات والطبقات الاجتماعية المختلفة بحضور نسوي متميز، وبرزت طاقات فنية جديدة واعدة نالت الخبرة من خلال هذا الاحتكاك والعمل المشترك.
فكانت ساحة التحرير في بغداد صاحبة حصة الأسد في تلك العروض، ففي خيم صغيرة فيها، كان للفنانين من مختلف الانتماءات تحضيرات لأعمال مسرحية تحاكي واقع العراقيين وتؤكد أهداف انتفاضتهم السلمية.
ومنذ تشرين الماضي والعروض المسرحية والندوات والحفلات الموسيقية مستمرة، من أجل إدامة زخم الاحتجاج داخل الساحة وتأكيد سلمية نهج الأنتفاضة. فقدم العديد من المسرحيين أعمالاً لدعم حركة الاحتجاج وحولوا ساحة التحرير والشوارع المؤدية لها مثل شارع السعدون إلى مسرح كبير، وتم تقديم العديد من الأعمال التي كان لها دور في تغيير مزاج الشباب ورفع معنوياتهم. منها على سبيل المثال لا الحصر مسرحية (مطبَّرة) التي جسدت يوميات المواطن العراقي المنتفض، حاكت المآسي التي تحملها الشباب العراقي بل بقية المواطنين خلال السنوات الأخيرة.
ساهم في العمل الفنان إسماعيل العباسي من محافظة ديالى الذي يقول “لجأنا إلى مسرح التحرير لأنه أصبح الوسيلة الأمثل للتعبير”. كما ساهم الفنان أحمد جمال في المسرحية، الذي أشار الى ان “تفاعل الجمهور والحضور الواسع شيء كبير بالنسبة إلينا”، خصوصا شاهدنا إقبالا جماهيريا كبيرا كان له دور معنوي في تشجيع الفنانين على العطاء والإبداع.
كذلك قدم المخرج علي عصام مشاهد يومية من الاحتجاجات المستمرة بعمل مسرحي في ساحة التحرير. ويقول عصام الذي جاء من البصرة، إن “الثورة تتجسد أيضا في المسرح والسينما والقراءة والرسم”، وكان عمله مثار أعجاب الجمهور الذي تجمع ليشاهد عرضا يمثل حادثة إطلاق نار وقنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، وجسد حالات الرعب التي عاشها المنتفضون وكيف سقط الشهداء وهم يتحدّون كل اساليب العنف التي مارستها السلطات ضدهم لاسكات صوتهم.
أغلب أعمال الفنانين التي قدمت كانت تهدف لنشر الوعي من أجل عراق خالٍ من التمييز والطائفية، وتكون فيه الهوية الوطنية هي الأساس، ونشر مفاهيم الجمال والحب والسلام. وهذا تأكيد على دور الثقافة في حفز الثورات وتنوير المجتمعات.
وهناك من الأعمال ما قدم تحت جدارية جواد سليم بمشاركة السيدة ام أحمد وبعض الشباب النشطاء، حيث قدموا عملاً فنياً بعد تدريبات استمرت أسبوعين، ونال عملهم أعجاب الجمهور.
الأعمال المسرحية التي قدمت في بغداد كثيرة ومن الصعب حصرها، بالاضافة الى الأعمال التي قدمت في أماكن الاحتجاجات في المحافظات المنتفضة الأخرى، منها عرض مسرحي بعنوان (الى أين ؟) برعاية مركز بابليات لتمكين المرأة، نظمه شباب متطوعون في ساحات الاعتصام في بابل بالقرب من مجسر الثورة يوم 16 كانون الاول حول حرية التعبير وضد الطائفية وتأكيد سلمية التظاهرات. كما قدم شباب معتصمون مسرحية في ساحة اعتصام البصرة على مسرح شارع حسن حنتوش. وشهدت ساحة الحبوبي ساحة الاعتصام الرئيسية في الناصرية، تقديم العديد من العروض المسرحية منها عمل يوم 13 ديسمبر يجسد “مجزرة الناصرية” التي ارتكبتها القوات الأمنية ضد المتظاهرين، حيث جسدوا فيه الأحداث التي وقعت قرب جسر الزيتون وراح ضحيتها العديد من الشهداء ومئات الجرحى.
هذه الأعمال المسرحية وغيرها ما هي إلا صور زاهية تعكس مدى وعي الشباب المنتفض وأحساسه بأهمية الفن باستنهاض شعب ثوري قادر على أن يقود انتفاضة ضد الفساد والمحاصصة والظلم والقمع والأستبداد.
—