إيران وكورونا.. وسلطة رجل الدين
.

من المستغرب أن يعرض قائد “الحرس الثوري” الإيراني حسين سلامي مساعدة الولايات المتحدة في جهودها للحدّ من انتشار وباء كورونا. يذكّر عرضه بالمثل الفرنسي القائل: من حسن الحظّ، أن السخف لم يعد يقتل.

لا شكّ أن وباء كورونا يهدّد أميركا التي زاد عدد المصابين فيها على عدد الذين أصيبوا في الصين التي كانت المركز الذي انتشر منه الوباء. تبدو الولايات المتحدة مقبلة على أيّام صعبة، لكن الأكيد أن “الجمهورية الإسلامية” لا يمكن أن تساعدها في شيء، أقلّه بسبب حال التخلّف التي تعاني منها والتي جعلتها مصدرا لتصدير كورونا إلى دول المنطقة في مقدّمها سوريا.

ليس سرّا أن لبنان كان ضحيّة من ضحايا الرغبة الإيرانية في تصدير كورونا، عن قصد أو غير قصد. الأكيد، بعيدا عن الحكم على النيّات الإيرانية، أن الجهل يتحكّم بتصرفات كبار المسؤولين فيها، بما في ذلك “المرشد” علي خامنئي الذي تحدّث أخيرا عن “مؤامرة” تتعرّض لها إيران وعن تطوير أميركا لفايروس يستهدف “جينات الإيرانيين”.

 

آن أوان ممارسة إيران التواضع والاعتراف بأن لا عيب من الحصول على مساعدة أميركية بدل متابعة سياسة قائمة على الهرب من الواقع. إن وباء كورونا الذي أقفل الكرة الأرضية على القاطنين فيها سيولد منه عالم جديد وقيم جديدة لا علاقة لها بتلك السائدة حاليا. هل تتمكن إيران من التكيّف مع هذا العالم الجديد الذي سيولد من رحم وباء كورونا… أم تستمر في ممارسة سياسة قائمة على رفض الشفافية ولغة الأرقام والهرب إلى خارج حدودها بحثا عن تنفيذ مشروع توسّعي. يستند هذا المشروع إلى إثارة الغرائز المذهبية. إنّه مشروع أقرب إلى الوهم من أي شيء آخر. هل تكتفي إيران بكمّية التخلّف والبؤس اللذين نشرتهما في المنطقة منذ العام 1979… أم أنّها تبحث عن نشر مزيد منهما مع رشّة كورونا للزينة لا أكثر؟

ما فعلته إيران إلى الآن مخيف، بل مخيف جدّا إذا نظرنا إلى الدور الذي لعبته في تصدير كورونا إلى لبنان وإلى سوريا وحتّى إلى العراق. هناك طائرات نقلت إلى لبنان مصابين بكورونا في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها مريبة. لكنّ الأخطر من ذلك كلّه، ما حصل في سوريا حيث يوجد موقعان إيرانيان، هما مزاران دينيان، أصبحا أشبه بمنطقتين عسكريتين بعدما سيطرت عليهما الميليشيات التابعة لإيران، بما في ذلك “الحرس الثوري”. يقع المزاران قرب دمشق وهما موقع السيّدة زينب وموقع السيدة رقّية الذي لا يبعد كثيرا عن المسجد الأموي.

بقي الزوار الشيعة الإيرانيون يتدفقون على المزارين حتّى يوم السادس عشر من آذار – مارس الجاري. أدّى إغلاقهما أمام الزوّار إلى اعتراضات صدرت عن متطرّفين يعتقدون أنّ المزارات الشيعية محصّنة تجاه كورونا بفضل قدرة إلهية ما. في المقابل لم يتخّذ النظام السوري، الذي بقي طويلا ينفي كلّيا وجود أي انتشار لكورونا في الأراضي السوريّة، أيّ إجراءات عملية قبل يوم الرابع عشر من آذار – مارس عندما أوقف الرحلات من مطار دمشق مستثنيا شركة “ماهان” الإيرانية التابعة لـ”الحرس الثوري”.

لم يعد خافيا أن إيران في حال يرثى لها بسبب المكابرة التي تتعاطى بها مع وباء كورونا. يرافق هذه المكابرة تفاد لأيّ إجراءات حقيقية لمنع انتقال كورونا من إيران إلى دول أخرى في مقدّمها سوريا التي تعاني أيضا من مشكلة كبيرة أخرى حذرت منها منظمة الصحة الدولية (WHO).

حذرت منظمة الصحّة من كارثة في إدلب بعد انتشار وباء كورونا في مخيمات اللاجئين السوريين الذين هربوا من البراميل المتفجرة للنظام ومن قصف الطائرات الروسية وبطش الميليشيات التابعة لإيران.

لم يعد كافيا كلام المسؤولين السوريين عن “رشح قوي” كي لا ينتشر وباء كورونا في دمشق وغيرها في بلد لا يمتلك أيّ بنية تحتية صحّية، على الرغم من أن آلاف الأطباء السوريين منتشرون في مستشفيات أوروبا والولايات المتحدة. فوق ذلك كلّه، ماذا سيفعل النظام السوري الذي لديه عشرات آلاف المعتقلين في سجونه عندما يدخل كورونا هذه السجون؟

تحوّلت سوريا إلى بؤرة من بؤر نشر كورونا في المنطقة. كلّ ذلك بسبب إيران التي لم تنتبه منذ البداية إلى وجود طلّاب صينيين ينتمون إلى الأقلّية المسلمة يتابعون دراستهم الدينية في قم. نقل هؤلاء الطلاب كورونا إلى إيران بدءا من قم.

هذا واقع لا مجال للهرب منه. بدل نفي الواقع، ثمّة حاجة إلى نقلة نوعية تساعد إيران، كما تساعد الدول التي باتت تحت رحمة إيران مثل العراق وسوريا ولبنان. تقضي هذه النقلة النوعية بالتفكير من الآن، بأنّ ما قبل كورونا ليس كما بعدها وأنّ ثمّة حاجة إلى اهتمام إيران بالإيرانيين أوّلا في ضوء التأكّد من أن ليس لديها أيّ بضاعة مفيدة تستطيع تقديمها إلى العالم.

 

هناك نصّ للمفكّر الفرنسي جاك أتالي يصلح لأن يقرأه المسؤولون الإيرانيون وغيرهم من الذين ما زالوا أسرى الوهم الإيراني في المنطقة من رافعي شعارات “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود”.

جاء في النص الذي صاغه أتالي، الذي كان مستشارا للرئيس فرنسوا ميتران، أن أيّ كارثة كبيرة ناجمة عن وباء “أدت إلى تغييرات أساسية في البنية السياسية للأمم وفي الثقافة التي تنطوي عليها هذه البنية”. أعطى مثلا على ذلك وباء الطاعون الذي انتشر في أوروبا في القرن الرابع عشر وقضى على ثلث سكّان القارة. أوضح أن ذلك أدى إلى “إعادة نظر في الموقع السياسي لرجل الدين” في أوروبا. صبّ هذا التطوّر في مصلحة قيام مؤسسة الشرطة التي باتت القوة الوحيدة التي تحمي الناس بعد فشل الكنيسة في لعب هذا الدور.

اختزل نتيجة ما حصل بأنّ “الشرطي حلّ مكان الكاهن”. وأشار إلى أنّه نتيجة الأوبئة التي انتشرت في القرن الثامن عشر، حلّ الطبيب مكان الشرطي. توصّل أتالي إلى خلاصة فحواها أن أوروبا انتقلت خلال بضعة قرون من سلطة الدين، الممثّلة بالكنيسة، إلى سلطة القوّة، ممثلة بالشرطي، ثم إلى سلطة دولة القانون، وذلك نتيجة انتشار الأوبئة الخطيرة التي كشفت أن الكنيسة لا تستطيع أن تفعل شيئا في وجهها وأن لا بدّ في النهاية من اللجوء إلى الطبيب.

لا تزال “الجمهورية الإسلامية” أسيرة رجل الدين الذي يمثّله “المرشد” والشرطي الذي يمثّله “الحرس الثوري”. لا وجود لإدراك أن العالم يتغيّر سريعا وأنّ وباء كورونا ليس حدثا عابرا وأنّ القويّ الذي سيبقى هو من يمتلك سلاح المعرفة والعلم. أين إيران من المعرفة والعلم بعدما أسقطت طائرة الركّاب الأوكرانية بالطريقة التي أسقطتها بها؟