نشرت في طريق الشعب العدد الاليكتروني الخاص – الثلاثاء 31 آذار 2020
هذه الأيام، يعيش العالم مع محنة الوباء الفايروسي، وباء كورونا، واخباره في كل مكان ووضع كل العالم في عزلة، لكنه لا يمكن قطع حبال ذكرياتنا.
في العراق، نهاية سبعينات القرن الماضي، مع تزايد قبضة صدام حسين وجناحه على مقدرات السلطة وشؤون العراق، كنا نواجه وباءا من نوع اخر، وباء العسف السياسي، بأرهابه العلني ضد الشيوعيين والديمقراطيين وعموم الشعب العراقي تحت شعار: انت بعثي وان لم تنتم!
لم يرضح المئات من شيوعيين وديمقراطيين لإملاءات حزب البعث العفلقي الحاكم، السادر في سياسة تبعيث المجتمع وتزوير التاريخ فأضطر عدد ليس قليل منهم لمغادرة العراق، واضطر قسم ليس قليل لترك جامعاتهم ومواقع عملهم والانتقال لمدن ثانية، انتحلوا أسماء أخرى ومارسوا اعمالا لا تمت لاختصاصهم بسهولة، وعاشوا أيام رعب وتوتر وضباع الاجهزة الأمنية تطاردهم من شارع لشارع في انتظار حل ما.
لم يكن مخطئا من سمى حياة التخفي بانها، حياة تحت الأرض. فعليك ان تقطع علاقاتك مع معارفك القدامى، تتجنب لقاء اهلك واصحابك، متمسكا بالشخصية التي صنعتها لنفسك.
وصلت بغداد في ربيع 1978، تاركا دراستي الجامعية، باحثا لنفسي، مثل كثيرين، عن شخصية جديدة، وعمل مناسب، لوقاية نفسي من وباء الاعتقال وتبعاته، اتنقل بين مختلف الامكنة لأبيت ليلة او ليلتين باحثا عن مستقر. كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي قد أصدرت بلاغها عن اجتماعها، الذي طالب بوقف حملات الاعتقالات والشروع في ارساء دعائم النظام الديمقراطي وانهاء الفترة الانتقالية واجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستورا دائما للبلاد وجن جنون قيادة وجلاوزة حزب البعث.
حل العام 1979، ونحن نعيش تحت الأرض في بغداد ومدن أخرى وضباع البعث تطاردنا من شارع لشارع. كان يوم الثلاثين من اذار يصادف يوم الجمعة. كانت شوارع العاصمة بغداد، مزدحمة بالناس، تعيش أجواء مباريات كرة القدم في دورة الخليج العربي الخامسة (من 23 اذار إلى 9 نيسان 1979). وعبر رفاق وأصدقاء، كان لدي موعد مع صديق عزيز ـ ربما يقرأ هذه السطور ويبتسم! ــ لم تفارقنا روح التحدي، وانطلاقا مما ذكره رجب بطل رواية “شرق المتوسط ” لعبد الرحمن منيف لحبيبته هدى ” ان أكثر الأماكن سرية هي الأماكن المكشوفة”، كان موعدنا عند صالة سينما بابل. وصل صاحبي على الموعد تماما، فلم ينتظر بعضنا الاخر كثيرا. اخذني بالأحضان وهو يسخر من هيئتي الجديدة، بذقني النامية ونظاراتي الطبية المزيفة. قال انه يعرف مكانا هادئا يمكن ان نحتفل به سوية، اتفقنا ان تستخدم اسمائنا المستعارة، ونتجنب العبارات والاغان الثورية، حتى لا نكشف أنفسنا للعيون. كنا لا نزال نقف عند بائع الفستق في باب السينما، حين وجدت انه اتفق مع صديقين أخرين لينضما الينا. لم يكن الامر حصيفا بالطبع ومخالفا لتقاليد العمل السري. الأكثر من هذا هو ان صاحبي كان متحمسا وقرر كما يبدو بدأ احتفاله ونحن هناك، فراح يدندن بصوت مسموع الاغنية التي تملأ الشارع يومها:
ـ “يا بورجل الذهب يا فنان العرب
هلا بيك هلا وبجيتك هلا!”
لم يكن خافيا عني مقصده. وسرعان ما ارتفع صوته يرافقه صاحبانا. بدا الامر وكأنه مزاج شباب محبين للرياضة. كان يفترض ان نترك المكان بسرعة، لكن صاحبي راح يكمل الاغنية بحماس أكبر:
ـ إلنا يبه الكأس وأسمنا يلوگ أله!
يكرر الجملة متوجها للناس القريبين اليه كمن يشركهم بالأمر، يغني وكأنه يطالبهم بالتصديق على كلامه. لا نعرف كيف التف علينا بعض الشباب في المكان، وصارت مجموعة من الشباب يغنون معه الاغنية بحماس ويدبكون، وتوسطهم صاحبنا. لم يكن صعبا إدراك ان صاحبي تحت ستار الاغنية الرياضية أراد ان يحتفل بطريقته الخاصة. بدأت دائرة الملتفين حولنا تكبر، وبدا الامر يكتسب شيئا من الخطورة حين اقترب مني أحد الوقوف في المكان وهمس لي محذرا:
ـ اخذوا صاحبكم واتركوا المكان بسرعة!
وهذا ما حصل. تركنا المكان أشبه بالهرولة، ووجدتني مع صاحبي، ونحن نبتعد ونضيع في الازقة القريبة اشاركه الغناء:
ـ “إلنا يبه الكأس وأسمنا يلوگ له“
25 اذار 2020
عزلة الكورون