شكلت انتفاضة اكتوبر والتي اندلعت شرارتها في الأول من اكتوبر للعام الماضي أمتدادا طبيعيا وتراكميا لما سبقها من احتجاجات في الأعوام 2011 و2015 . وفِي كل مرة كان يتظاهر فيها أبناء شعبنا، وخاصة شبابه وطلابه، ويحتجون ويعتصمون وينتفضون، كان المتنفذون الحاكمون يلجؤون الى ترسانة القمع والقتل والاغتيال وتزييف الحقائق، والاساءة الى كل من يعارض نهجهم في الحكم وتشبثهم بالمحاصصة ويطالب بالحد الأدنى من مستلزمات العيش الكريم. وقد ظلوا يمارسون ذلك وما زالوا، من اجل ادامة سلطتهم ونفوذهم ومواصلة فسادهم ، وفِي مسعى لتكميم الأفواه ومصادرة الحقوق الدستورية وبضمنها حق التظاهر السلمي، في سبيل انتزاع تلك الحقوق والمطالب المشروعة. وقد كلفت شعبنا تلك الأحتجاجات أكثر من 700 شهيد و30 ألف جريح, من بينهم ما لا يقل عن ألف من الأعاقات المنتهية والغير قابلة للعلاج, الى جانب العشرات من المغيبين ومئات المعتقلين والمفقودين, والذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن. لقد ضاق الخناق على السلطة المحاصصاتية جراء الفعاليات السلمية للمنتفضين, حيث اجبرت عادل عبد المهدي رئيس الوزراء على الاستقالة, ولا زال البحث جاري للعثور على رئيس وزراء بديل لحكومة القتل والقنص وحكومة ” الصجم “.
نقطة التحول في الأحتجاجات الميدانية وزخمها هو ظهور الوباء العالمي فيروس كورونا المستجد ” كوفيد ـ 19 ” الذي يستدعي التقليل من حجم التجمعات البشرية واللقاءات المكثفة لأنها تشكل ارض خصبة لأنتشار الفيروس وبالتالي العدوى السريعة وما تسببه لاحقا من موت واصابات تزهق فيها الأرواح. وكانت استجابة المحتجين لقرارات الحكومة في انهاء التجمعات المكثفة سريعة وتعكس حالة من الوعي والألتزام الحضاري للحد من انتشار الفيروس وأنسجاما مع التوجهات ليست فقط المحلية داخل العراق بل استجابة للنداءات العالمية في ضرورة البقاء في البيت جهد الأمكان لتجنب التواصل والأحتكاك مع الآخرين. بالتأكيد أن الحكومة العراقية “تتمنى فض هذه الاحتجاجات”، سواء لأسباب من كورونا أو غيرها لكن لا يعني هذا أن النظام العراقي قد تجاوز الأزمة، فما كشفته انتفاضة أكتوبر من فوضى في النظام السياسي العراقي لا يمكن تجاوزه بسهولة، وما يحدث من مشاكل وصعوبة في تسمية رئيس وزراء جديد ما هو إلا ثمرة من ثمار الانتفاضة، ولا نتوقع أن يرجع هذا النظام إلى قوته السابقة قبل انطلاق الانتفاضة قريباً، بل هو سائر صوب التغير الجذري للعملية السياسية, وقد يستغرق ذلك وقتا بالتأكيد جراء تشبث قوى النظام المحصصاتية.
لا شك أنه موقف مسؤول من قبل المحتجين ويجب الأشادة به بأعتباره موقف وطني مسؤول بغض النظر عن الدور الحكومي الهزيل من الامكانيات الصحيه التي اوصلها الفساد العام الى ما هو عليه اليوم . انه لمعروف وعند تعرض الاوطان لكافه اشكال المحن والمصائب والاقدار الطارئه تتظافر جهود كافه ابنائها مهما اختلفت مشاربهم ومواقفهم السياسيه والفكريه والعقائديه والقوميه لدرء وانهاء او اضعاف تلك المخاطر وتبعاتها الى الحد الادنى .وبالتالي فالعراقيين ليست نشاز واستثناءا عن الاخرين الاكثر صوابا بهذه الحالات. وبالتالي فأن هناك حالة من اعادة ترتيب الأولويات أنطلاقا من المصلحة الوطنية والانسانية للحفاظ على ارواح شعبنا, والتي ساهم النظام في ازهاقها في مناسبات عديدة وفي مقدمتها ضحايا وشهداء انتفاضة اكتوبر.
بالتأكيد فأن امكانيات وزارة الصحة العراقية عاجزة عن احتواء حدث كورونا, فالفساد الأداري والمالي نخر المؤسسات الصحية أسوة بغيرها من القطاعات المجتمعية. والقصة التي تظهر فصولها من بين هذه التفاصيل قصة معقدة، فخلال الثلاثين عاما الماضية تعرضت البلاد للخراب بفعل الحروب والعقوبات الدولية والصراع الطائفي وصعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش ” الذي أحتل ثلث البلاد.
لكن حتى في أوقات الاستقرار النسبي ضاعت على العراق فرص توسيع نظام الرعاية الصحية وإعادة بنائه، ففي عام 2019 على سبيل المثال، وهو عام شهد هدوءا نسبيا، خصصت الحكومة 2.5 في المئة فقط من موازنة الدولة البالغة 106.5 مليار دولار لوزارة الصحة. وهذا مبلغ ضئيل مقارنة بما يتم إنفاقه في دول أخرى بالشرق الأوسط.
وفي المقابل حصلت قوى الأمن على 18 في المئة ووزارة النفط على 13.5 في المئة، وتظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن الحكومة المركزية في العراق أنفقت خلال السنوات العشر الأخيرة مبلغا أقل بكثير على الرعاية الصحية للفرد من دول أفقر كثيرا، إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الانفاق 161 دولارا في المتوسط بالمقارنة مع 304 دولارات في الأردن و649 دولارا في لبنان، وقال علاء علوان وزير الصحة العراقي السابق لرويترز في أغسطس آب الماضي ”الوضع الصحي في العراق تراجع بشكل كبير جدا خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. وأحد أسباب هذا التراجع، وليس فقط السبب الوحيد، هو عدم إعطاء أولوية من قبل الحكومات المتعاقبة للصحة في العراق“.
خطوات الحكومة وسلوكها العام للتعامل مع وباء كورونا هو استعراضي أكثر منه واقعي ولاينسجم مع امكانياتها الفعلية والواقعية, ولا يخلو من فرصة للتنفيس عن ضغط الاحتجاجات ووقعها القاسي على السلطة, بل رأت الحكومة في كورونا ضالتها للخلاص من الاحتجاجات, وحيث بيانات الحكومة الرسمية اليومية: ” انها ألقت القبض على مئات من المواطنين ممن خرقوا حظر التجول الخاص بكورونا, دون ان يستطيعوا ألقاء القبض على قناص واحد قتل المتظاهرين“. أنه المضحك المبكي في الوضع السياسي في العراق.
وفي الوقت الذي تتجول فيه سيارات النجدة والشرطة والجيش في كل مكان لفرض والتأكد من حضر التجوال المفروض وهو امر مشروع بشكليته, ولكن أين كانوا من أمن المتظاهرين السلميين والأبرياء. وفي الختام فأن أي جهد حكومي وشعبي لأتقاء شر كورونا وانتشارها يلقي الأستحسان والشكر الجزيل لأنقاذ شعبنا, ولكن أن حقوق شعبنا ومطاليبه المشروعة لا تسقط بالتقادم ولا بضعف ذاكرة السلطة المفتعل ولا بحضور الامراض والوبائات المؤقته, فالتجارب الانسانية تؤكد أن لكل استحقاق سقف زمني وظروف مواتية.