الخميس, نوفمبر 28, 2024
Homeمقالاتقصة قصيرة : المُعَلَّمُ !: يوسف أبو الفوز

قصة قصيرة : المُعَلَّمُ !: يوسف أبو الفوز

الى رفاقي الأنصار الشهداء والشهداء ـ الاحياء في الذكرى 86 لعيد حزبهم العتيد ، ووفاءا ومحبة.

 نشر النص في الثقافة الجديدة العدد411- 410 آذار 2020/ من مخطوط ” بعيدا عن البنادق” المعد للنشر

كل شيء كان مدهشا. الفرقة الراقصة التي قدمت رقصاتها بحيوية ومرح وجمال، شدت اليها الانظار، وطغى الاعجاب برقصاتها على كل شيء أخر. أزدحمت القاعة بالكثير من الانصار القدامى واصدقائهم الذين يحملون تقديرا لنضالات الانصار وتضحياتهم. كانت الوجوه مفعمة بالسرور، والانصار يجلسون مزهوين كونهم الضيوف النجوم في الاحتفال والذين سيتم تكريم المبدعين والفنانين منهم. عريف الحفل، رغم قصر قامته، يشعر بنفسه أطول من الاعمدة التي ترفع سقف القاعة، التي أزدهت بالاعلام والشعارات والبالونات الملونة، مزهوا لنجاحه مع المجموعة المنظمة للحفل، في ضمان مشاركة الفرقة الراقصة. بعض الهمس قال ان المجموعة المنظمة للاحتفال ضمنت ذلك بمكالمة هاتفية قصيرة للمسؤولين المعنين من قبل “الدكتور”، الذي ما أن وصل قاعة المهرجان تحيط به حمايتة الخاصة، وثمة من يركض أمامه مؤشرا بيده ان ” افسحوا الطريق”، حتى ركض اليه البعض، يدلونه الى مكان جلوسه في الصف الامامي، ليس بعيدا عن قيادات حزبية وسياسية، الذين حضر بعضهم مبكرا واختلطوا مع الضيوف متبادلين معهم احاديثا ودية سادتها ضحكات مرحة، بينما جلس البعض الاخر منهم صامتا بشكل حيادي. لاحظ سالم من مكانه كيف ان البعض من القادة الحزبيين تعكر وجهه من رؤية “الدكتور”، وكيف نهض البعض وصافحه بحرارة، بينما رد البعض التحية مجاملة وهو جالس في مكانه. واذ تفحص سالم وجوه الحاضرين من حوله، عرف الكثير من اصحابه، قادمون من مختلف مدن البلاد، وبعضهم قادم من دول اوربية بعيدة، لكنه انتبه الى غياب معلمه. أيعقل ألا يحضر في مثل هذا اليوم، وهو الذي ظل يسأل عن موعد الاحتفال طوال الاسابيع الماضية؟ ما ان حلت الاستراحة حتى ترك سالم مقعده ووقف جانبا يتفحص القاعة بهدوء. لاحظ اخت الشهيد التي احتضنته قبل عام، في مهرجان سابق، بحرارة وشهقت على صدره حين علمت بانه ساهم بدفن اخيها في احد أودية كردستان. بعض أصحابه الانصار، وقد التقوا بعد فراق لفترات معينة، ربما شهورا وقد تكون سنينا طويلة، غرقوا ، وحتى خلال فقرات الحفل، في احاديث عميقة هامسة تقطعها ضحكات مكتومة، يمسحون الدمع بأطراف اصابعهم عن عيون اتعبتها ليالي السهر في الجبل، وخمن بأن الكثير منهم لم يسمعوا كلمة من قصيدة الشاعر، الذي ابتل قميصه المزركش بالعرق في حر تموز اللاهب، وبحت حنجرته وهو يشيد بحماس بنضالات شهداء العراق وشهداء الانصار، الذين نسي منظمي الاحتفال، ان يضعوا ولو صورا لبعضهم ضمن معرض صور الطبيعة التي استأجروها من معرض للوحات والصور القديمة، بعد ان تعالت الاصوات محتجة بضرورة ان يضم الاحتفال معرضا للوحات، فأنتبه منظمي الاحتفال الا انهم نسوا انه كان بين المقاتلين الانصار العشرات من الرسامين البارعين وسيتم تكريم بعضهم هذا اليوم. واخيرا أنتبه سالم، وعثر على المعلم جالسا في اخر القاعة، بملابسه المتواضعة وقبعته القماشية، التي صار يرتديها في الفترة الاخيرة كمحاولة لاخفاء صلعه النامي. كان يبدو مثل عامل وصل المكان من موقع العمل مباشرة. كان الجالس بجانبه يهمس له بشيء ما، وهو يبتسم له بهدوئه المعتاد. ذات الابتسامة التي ما فارقت محياه منذ تعارفا في تلك الزنزانة العفنة. في تلك الليلة البعيدة، حين جرجره الفاشست من سرير نومه، واذاقوه العذاب وحين عجزوا من معرفة ولو اسم واحد من رفاقه، رموه كخرقة بالية على ارضية الزنزانة. أحس بيد حانية، تمسد له جروحه وتمسح دمه المتخثر، وصوت تحمل نبراته كل حنو العالم يهمس له بكلام لا يفهم منه شيئا. تحدث الصوت معه كثيرا تلك الليلة وظل ساهرا معه، فلقد منعته جراحه من النوم، ومن كل كلامه بقي يتذكر تلك الجملة التي سحرته كثيرا:

ـ بسيطة … بسيطة .. غدا كل شيء يكون أحسن !

بعد يومين، حين افاق قليلا، ميز جيدا الوجه الفتي الذي لم يتركه لحظة واحدة. بأبتسامة حية، وبعينين متعبتين، تحملان كل حزن العالم وحكمته :

ـ بسيطة … بسيطة .. غدا كل شيء يكون احسن !

سأله بحياد :

ـ هل انت معلم ؟

ضحك الرجل حتى بانت جذور أسنانه :

ـ هل طريقة كلامي توحي لك بذلك، اتصدق أني بالكاد تعلمت القراءة والكتابة !

ومن يومها قرر ان يسميه “المعلم”. فعلى يديه تعلم كيف يمكن ترجمة المحبة الى أفعال :

ــ لا يكفي ان تقول لمن تحب أنك تحبه، عليك ان تجعله يتلمس ذلك!

ـ والكراهية يا معلمي ؟

ـ هذه لابد ان نعرفها، لكن يجب ان لا نمارسها !

ـ لكن الذي وشى بك وسلمك للضباع، كيف يمكن ان لا تكرهه ؟

ـ سيكره نفسه، حتى لو صار … !

ـ ماذا ؟

ـ الذي وشى بي، يطمح لان يحصل على شهادة الدكتوراه يوما !

ـ وماذا تظن ؟

ـ سيحصل عليها، وسيناديه الناس “يا دكتور”، وسيكون له شأن ما، وبدل سن الذهب سيكون له أثنين، ولكن …

ـ ماذا ؟

ـ سيكره نفسه قبل ان نكرهه أنا واياك. وغدا حين ننشغل بالمحبة والاحباب وعذوبة حياتنا الجديدة، سوف لن يكون لنا وقت كاف لنكره هذا “الدكتور” وأمثاله !

 لم يكن المعلم يحب الكلام الكثير، لذا تعب منه جلاديه. بعد جولات الاستجواب والتعذيب، كان يمسح لهم جراحهم بأبتسامته التي كانت تدفع بجدران الزنزانة ليروا خلفها جمال الايام القادمة :

ـ ترك لي ابي قطعة ارض صغيرة، صحيح انها اصغر من حصة أخي الأكبر، لكنها تناسب امكانياتي جيدا. سأبني لي فيها غرفة صغيرة واجد بنت الحلال التي تشاركني خبزتي، وسازرع الارض بكل ما ينفع الناس. يمكنك ان تزورني الى هناك. سأعطيك العنوان !

حين وجدا نفسيهما خارج السجن بعفو رئاسي مفاجيء، تسللا معا الى كردستان . كان للمعلم خبرة بارعة في معرفة الناس والدروب. في الجبل عاشا لفترة على مقربة من بعضهما البعض. تلقيا تدريبا على عمل الانصار، كان القائد الانصاري العجوز وهو يذرع الارض امامهم، ذهابا وايابا، يحرك اصبعه في الهواء

ــ عيوني … تذكروا دائما، ان الجنود هم أخوتنا، والنظام هو عدونا !

اشتركا معا في عمليات انصارية مختلفة، واذ لاحظ المعلم يوما ارتباكه وتردده خلال عملية عسكرية، همس له وهو يحيط كتفه بذراعه :

ـ لا تخاف يا صاحبي من الرصاصة التي تسمع صوتها، فالتي ستقتلك لن تمنحك الفرصة لذلك !

وفي يوم صحو مريع، حين انهمرت القذائف عليهم بشكل مباغت، من طيران العدو، الذي صب حمم غضب النظام الفاشي على المواقع المحتملة للانصار، أصيب المعلم بساقه، وقرر طبيب الانصار بترها من تحت الركبة. كانت ليلة عصيبة. استخدم الطبيب منشار قطع الخشب وبمخدر موضعي قطعوا العظم. لم تنم القاعدة الانصارية ليلها. كانوا يسمعون زئير المعلم والطبيب يمارس مهمته الشاقة. في اليوم التالي قال الطبيب للأنصار :

ـ هذا ليس رجلا، قلبه من صخر !

ترك القاعدة ليلتها، لم يحتمل سماع الزئير، صعد الى ربيئة المراقبة والاسناد، ربيئة الدوشكا، اعلى الجبل، بعد يومين زار المعلم ودفن وجهه في صدره وشهق.  وهما يحتضنان بعضهما، قال له :

ـ انا اسف يا معلم !

وحرك عينيه اشارة الى ساقه. لم يستطع أن يقول الكلمة. أبتسم المعلم :

ـ  بسيطة … ماذا كان سيحدث لو أن الشظية اختارت رأسي، ها انت تراني حيا، وبإمكاننا غدا ان نفعل كل شيء، سيكون لي ابناء بسيقان صحيحة، وستكون الارض عامرة بكل ما يسرك، فقط عليك ان تزورنا!

انتهى الحفل، وتدافع الحضور للخروج . حاول سالم ومعه المعلم الانتظار حتى يخف الازدحام. كان سالم يراقب بألم كيف حمل المعلم نفسه مكابرا على ساقه الاصطناعي مستندا الى عكاز خشبي قصير. كان المعلم يسير الى جانبه يحاول اقناعه بزيارتهم الى مدينتهم الصغيرة ليعرفه على من تبقى من أهله وزوجته، حين جرى كل شيء بسرعة، اذ خرج عليهم فجأة جماعة من ممر جانبي يؤدي الى غرفة دورة المياه ، وصاح احدهم بعدائية:

ـ افسحوا الطريق !

واندفع مجموعة من الشباب المتنمرين يبعدون الناس جانبا، رغم ان لا أحد يسد ممر الخروج الواسع. مد أحد افراد الحماية يده القوية جانبا وازاح سالم الى الخلف. لم يلحق ليقول شيئا. فثمة من قفز يدفع الاخرين ببندقيته ليفتح ممرا أكبر بين بقية الناس :

ـ افسحوا الطريق للدكتور!

مال احد الضيوف الخارجين متحاشيا عقب البنادق المشرعة، ومن دون ان يقصد دفع المعلم، فانزلقت عكازه على الكاشي الاملس. حاول المعلم ان يستند لشخص قريب، لكنه لم يلحق فتكوم على الارض مطلقا أهة حاول ان يكتمها وغطى وجهه حتى لا يرى الاخرين ألمه. اندفع سالم واخرين أليه وهم يشتمون لا على التعيين . وقف الدكتور جانبا وصاح بأحد افراد حمايته :

ـ أعمى، أغبر ، ما شفت هذا المسكين !

وألتفت الى سالم وسأله :

ـ أخي، هل كل شيء تمام ؟

ثم سأل بسرعة  :

ـ من هذا ؟

نظر سالم الى الدكتور ملياً، حدق جيدا الى لمعان سن الذهب في فكه الاعلى، قال له وشيء يخدش له قلبه

ـ بسيطة دكتور … هذا نصير شيوعي !

 

 

 

 

 

22 ايار 2012

السماوة

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular