“أمينة قاسم الدلكاني”، ذات الواحد والعشرين ربيعاً، ناجية إيزيدية تحاول تجاوز ذكريات الحرب، التي أعلنها تنظيم “داعش” ضد أبناء جلدتها ودينها، وتعيش على أمل عودة والدتها المفقودة حتى اليوم، ولمّ شمل عائلتها، التي فرّفتها واحدة من أكبر المآسي في عصرنا.
اليوم المشؤوم
مع بزوغ فجر يوم الثالث من آب /اغسطس عام 2014 على قرى “سنجار” وبلداتها، غربي قضاء “نينوى” في شمال العراق، قطع جنود تنظيم “داعش” الطرق المؤدية لجبال “شنكال”، كما يسميها الأيزديون، وهي الجبال التي حمتهم من ويلات المجازر المروعة على مرّ التاريخ.
تروي “أمينة” لـ«الحل نت» تفاصيل “اليوم المشؤوم” كما تسميه: «كنت في الخامسة عشر من عمري حين احتل مسلحو تنظيم “داعش” قريتي “تل قصب” القديمة، وخطفوني مع ثمانية أفراد من عائلتي، فضلاً عن والدي وأمي “سيفي”، الحامل في شهرها السابع، وجدتي وأخوتي وشقيقتي “زريف”. نُقلنا إلى مدينة الموصل، حيث بقينا حوالي عشرة أيام، ثم أخذونا إلى مدينة “البعاج”، وحشرونا في مدرسة يتكدس فيها مئات الأسرى، بعد أن فصلوا الرجال والأطفال الذكور عن النساء».
صنّف التنظيم الإناث بحسب أعمارهن، العازبات الصغيرات والجميلات منهن كنَّ غنائم يسعى المسلحون للحصول عليها، لتقديمها هدايا للأمراء والمسؤولين في التنظيم.
اُقتيدت “أمينة” مع شابات أخريات لمنزل في “بعّاج”، وأُجبرن على ارتداء ملابس خفيفة، وصفتها أمينة بـ”بدلات الرقص”. وكان بينهن الشابة “جيلان”، الطالبة الجامعية الجميلة، التي فضّلت الانتحار على الاغتصاب. قطعت شرايين يدها بآلة حادة، فنزفت حتى فارقت الحياة.
«تأخرت “جيلان” في الحمام، فدخله مسلح من “داعش”، بعد أن كسر الباب، وأخرجها وهي جثة هامدة ملطّخة بدمائها. رماها للكلاب، ليزرع الخوف والهلع في قلوبنا، وهو يتوعّد المتمردات منّا بذات المصير». تروي “أمينة” بألم قصة الفتاة، التي لقّبتها “القديسة جيلان”.
بين أسواق النخاسة
عبر جنود “داعش” العراق إلى سوريا بحافلات وشاحنات كبيرة، مكتظة بآلاف المختطفين الإيزديين، والوجهة كانت بيت محافظ مدينة الرقة ذي الطابقين، الذي يتسع للآلاف. تقول “أمينة” أنها فقدت الاتصال مع عائلتها بعد نقلها لأسواق النخاسة، التي كان يديرها مسلحون ملثمون، يُعرفون بالأرقام والحروف بدل الأسماء، كي تبقى هوياتهم مخفية. «كان بعضهم يُعرف باسم “ب 1” أو “أ 33”. حجزونا في الطابق العلوي، بينما استقر المسلحون في الطابق السفلي، كنا نسمع قهقهاتهم وهم يتخيلون كيف سيلتهمون أجسادنا الصغيرة». تضيف الفتاة المحررة.
أُغتصبت “أمينة” وشقيقتها “زريف” في الرقة، وحاولن مع أربعة فتيات أُخريات الهرب من “مدينة الجحيم” كما تصفها. «ضربونا بالسوط بعد أن قبضوا علينا، وحرمونا لعدة أيام من الطعام والشراب، واقتادونا بسيارات مع فتيات أخريات إلى حمص، حيث سجنونا في منزل كبير، كانوا احتجزوا فيه شابتين إيزيديتين. وجاء أحد المسلحين، ويُكنى بـ”أبي محمد الأدلبي”، برفقة آخرين، وجرّ شقيقتي من شعرها، ومضى بها مع فتيات أخريات، وانقطعت أخبارها عني لأيام»، تروي “أمينة”.
انتحار “زريف” والعودة للموصل
سمعت “أمينة” في ساعات الصباح الباكر صوت أربع رصاصات، «لم أُدرك أن أختي تتواجد في المنزل المجاور، لكن قلبي انقبض حين سمعت صوت الطلقات الأربع، وبعد انقضاء يومين جاء “الأدلبي” وشدّني من يدي، وأخبرني أن شقيقتي قد انتحرت حين حاول اغتصابها. وهددني بأنه سيأخذني بدلاً عنها، وبالفعل اصطحبني إلى ذات المنزل الذي قتل فيه أختي، وتناوب هو وغيره على اغتصابي شهراً كاملاً»، تقول “أمينة”.
اصطحب “أبو محمد الأدلبي” أسيرته إلى منزله في مدينة “الطبقة”، لتعيش مع عائلته خادمةً وعبدةً لمدة سنة كاملة، نالت فيها الكثير من الضرب والإهانة والتعذيب والحرمان من الطعام والشراب. وأجبرها على اعتناق الإسلام وترك ديانتها.
وبعد مقتل “الإدلبي” في غارة جوية على “الطبقة”، باعت زوجته “أمينة” لقيادي داعشي سعودي الجنسية في مدينة الرقة، قام ببيعها بدوره لعراقي يدعى “أبو طارق”، عاد بها إلى الموصل، حيث تزوجها في محكمة “دولة الخلافة” في المدينة. وبقيت معه قرابة عامين، تنقلت فيهما بين أزقة الموصل وحاراتها، التي كانت تتعرض للقصف من طيران التحالف، إبان معارك تحرير الموصل.
أجبرت المعارك اثني عشر داعشياً على الفرار، وأخذوا معهم “أمينة” وأسيرة إيزيدية أخرى، وتحصنوا داخل إحدى مقرات “داعش” في المدينة، لكن المركز لم يصمد أمام الضربات الجوية،التي حصدت أرواح المختبئين فيه، باستثناء “أمينة”.
نقل الأهالي الناجية الوحيدة لمشفى المدينة، لتتحرر من براثن التنظيم في الحادي عشر من شهر تموز/يوليو عام 2017، وسلمها عناصر القوات الأمنية العراقية، بعد تعرُّفهم على هويتها، إلى “مكتب إنقاذ المخطوفات الإيزديات في كردستان العراق”، ومنه سُلّمت لشقيقها “أمين”. لتبدأ رحلة البحث عن عائلتها.
تحرير “بيوار”
خلال فترة خطف أمينة وشقيقتها، بيعت جدتها “إنعام” وأمها “سيفي” لداعشيةٍ من “تلعفر” تدعى “مريم”. ووضعت الأم مولدها الذكر الذي اسمته “بيوار”، وعبر تطبيق “الواتس آب” سمحت “مريم” لـ”سيفي” بالتحدث لابنها البكر “أمين”، الذي نجا من أسر “داعش”. فأرسلت له صور شقيقه وطلبت منه البحث عنه، بعد أن أبلغتها مالكتها بأنها ستبيعها والجدة، وستحتفظ بالطفل عندها.
حُرِّرت الجدة “أنعام” قبل تحرير “أمينة” بعدة شهور، وتوفيت بعد تحريرها بفترة قصيرة في “تلعفر”، أما “سيفي” فقد بيعت في عدة أسواق نخاسة، كان آخرها في سوريا، حسب معلومات مكتب “إنفاذ المخطوفات في كردستان العراق”، الذي تسلم مهمة تحرير مخطوفين لقاء بدل مادي، وتسليم الناجيات والأطفال المحتجزين في سوريا. إلا أن العاملين في المكتب لم يستطيعوا تحديد المنطقة التي بيعت فيها الأم بالضبط.
“علي الخانصوري”، الناشط الحقوقي الإيزيدي، الذي ساهم بتحرير عدد من المختطفين، أكد لـ«الحل نت»، في اتصال صوتي، أن تنظيم داعش نقل عديداً من المختطفين الإيزديين إلى مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” وإدلب، وحتى إلى تركيا، بعد معارك تحرير “الباغوز”، وهي آخر منطقة لتواجد تنظيم “داعش” في وادي الفرات.
وأضاف: «يحتفظ “حاتم أبو شقرا”، قائد فصيل “أحرار الشرقية”، المنضوي ضمن التشكيلات العسكرية لـ”لجيش الوطني السوري” المعارض، بعشرات النساء والإطفال الإيزيديين، ويتاجر بهم».
بدأت “أمينة” وشقيقها رحلة البحث عن “بيوار”، الذي يبلغ السادسة من عمره اليوم، وتمكّنا خلال عامين من الحصول على معلومات من شبكة نشطاء إيزديين، ينسّقون مع مهربين من تنظيم “داعش”.
أعطى أحد المهربين، ويُدعى “عبدالله شريم”، معلومات عن هروب “مريم”، المالكة السابقة لـ”سيفي”، من “بعاج”، ودخولها لتركيا، حسب ما كشفت أمينة لموقع «الحل نت». وأضافت: «دفعنا مبلغ ثمانية آلاف دورلا للمدعو “شريم”، الذي اشترى أخي من “مريم”، وردّه لنا».
وتقول “أمينة”، التي تعيش اليوم مع أخويها في مخيم”مام رشان” في إقليم كردستان العراق، إن شقيقها “بيوار” لا يتقن سوى اللغة التركية، وهي تجهد لتلقينه مفردات لغته الأم الكردية. حسب تعبيرها.
المأساة مستمرة
وفي حصيلة جديدة أعلنها “مكتب إنقاذ المختطفين الإيزيديين”، في السابع عشر من شباط/ فبراير الماضي، واعتمدتها الأمم المتحدة، كان عدد أفراد الأقلية الإيزيدية في العراق نحو 550 ألف نسمة، وبلغ عدد النازحين جراء هجوم “داعش”، منذ الثالث من آب/أغسطس 2014، نحو 360 ألفاً. أما عدد القتلى في الأيام الأولى من الهجوم فقد وصل إلى 1293 فتيلاً. وكشفت الإحصائية أن الهجوم يتّمَ 2745 طفلاً.
كذلك وصل عدد المقابر الجماعية المكتشفة في “سنجار” حتى الآن إلى واحدة وثمانين مقبرة، إضافة إلى عشرات المقابر الفردية. كما جرى تفجير ثمانية وستين مزاراً ومرقداً دينياً. أما عدد النازحين فبلغ أكثر من مئة ألف. وبحسب الإحصائية، فإن عدد المختطفين بلغ 6417، منهم 3548 من الإناث، و2869 من الذكور.
ولا تزال عمليات البحث عن المفقودين والأسرى الإيزديين مستمرة داخل الأراضي العراقية والسورية منذ هزيمة التنظيم.
وقتل داعش آلاف الرجال الإيزديين، واستعبد نساءهم، وتاجر بهن في أسواق النخاسة، وأجبر الأطفال على اعتناق الإسلام، وجنّدهم في معسكرات “أشبال الخلافة”، وأرغمهم على ارتكاب عمليات انتحارية في المدن والبلدات التي سيطر عليها التنظيم المتشدد في العراق وسوريا.
وتستمر معاناة الإيزيديات إلى اليوم، دون وجود آليات حقوقية أو مراكز فاعلة للحماية وعلاج الآثار النفسية والجسدية، التي تعاني منها الناجيات من أسر “داعش”. ورغم تحرير ما يقارب ثلاثة آلاف من الأطفال والنساء، إلا أن هذه الفئة ما تزال تُعاني من صعوبة الاندماج في المجتمع. فعودة الإيزيديات المحررات إلى أسرهن لا تعني نهاية المأساة، وإنما بداية معاناة أخرى، وهي العيش مع ذكريات السبي والتعذيب والاغتصاب.