.
نتجول كل مساء في الغابة القريبة من بيتنا، هاربين من وحشة العزل الذاتي بسبب جائحة فايروس الكورونا، وتتوفر لنا الفرصة لشم هواءا نقيا، مراقبة مظاهر الربيع على أغصان الأشجار، والتلذذ بسماع خرير الماء في الجدول والاستمتاع بالطيور محلقة حولنا، تتناجى فيما بينها بأعذب موسيقى، غير دارية بما يجري على الأرض من أهوال. ومثل كل يوم، كانت شريكة حياتي تعزز هوايتها بالمزيد من الصور لما حولنا، لتختار فيما بعد أفضلها لتنشرها على حسابها في الانستغرام. ومن لا مكان ظهرت أمامنا. كانت نبضات قلبي موسيقى طبول مصاحبة لظهورها. أيعقل ان المرأة ـ الوطواط حقيقة وليس خيالا؟ بحثت عن الكاميرات حولي، فربما يصورون هنا فيلما ما، أو اعلانا للحبة الزرقاء يقدم بعد الساعة التاسعة مساء! ليس سوى الهدوء ، فهو الغالب. غابت حتى السناجب والارانب التي يستهويني متابعة ردود فعلها على ظهور الانسان قريبا منها! كانت المرأة تتحرك برشاقة لا تخفي جسمها الملفوف بأحسن تكوين، الامر الذي جعلني أتذكر حيلة رجالية عتيقة، بافتعال ربط شريط حذائي لأحظى بزاوية أفضل للتمتع بهذا الجمال المكنون وكسب بعض الوقت في تملي المرأة التي حيت زوجتي وهي تعبر مسرعة تاركة في المكان زوبعة من عطرها الفاغم. بدلا من نيل اللوم والتقريع من زوجتي لأفعالي الصبيانية، ولان حركتي كانت مكشوفة، تفاجأت بها تسألني:
ـ هل عرفتها؟!
ازدردت بلعومي مرارا أبحث عن جواب ما، لكنها وفرت عليّ ذلك:
ـ كنت اظنك حقا هراكيل بوارو لكثرة ما تتحدث عنه!
ـ أتعرفينها؟
وضحكت زوجتي، تلك الضحكة التي تعادل القبضة اليسرى من مايك تايسون قبل إعلان إسلامه. فحاولت ان اتماسك والشعور بالهزيمة والعجز بدا واضحا يرسم حركتي البطيئة:
ـ هذه جارتنا، صاحبة الجرو الذي …
ـ مستحيل، لا يمكن، ان تكون هي!
ـ مثلما تريد، لكنها هي!
بعد عودتي للبيت وقفت عند شباك المطبخ، متابعا كل من يمر امام منزلنا. نادرا ما مر أمامي رجل او امرأة بدون كمامات أو قفازات. لاحظت مبالغة البعض بارتداء ملابس مغلقة، مثلما فعلت جارتنا، بأرتدائها ملابس داكنة واسعة، غطت فيه رقبتها مع كمامات ونظارات وعززت ذلك بقفازات بحيث بدت لي كأنها المرأة ـ الوطواط فلم اتعرف عليها وانا الذي طالما تباطأت في خطواتي كلما صادفتني تتسكع مع جروها الذي يطلق نباحا مزعجا لا يتناسب مع حجمه كأنه قطة!
ولمع في بالي خاطر. يا آلهي. ايتها الآلهة عند الكفار والمؤمنين.. أنه الوقت الملائم تماما. هل أخبر بذلك الشرطة، أم أنشر تحذيرا عاما على فيس بوك فيتوزع أسرع من بوستات ” جمعة مباركة“؟؟
كيف لم يخطر ببال الكثيرين أنه الوقت الملائم لسرقة البنوك!
نعم! سبق وشاهدنا كيف تجري سرقات البنوك في الأفلام الهوليودية : يرتدي اللصوص أقنعة لإخفاء معالم الوجه، قفازات لعدم ترك البصمات وملابس داكنة واسعة لتخفي طبيعة الاجسام !
لقد حولتنا جائحة الكورونا، كلنا نساءا ورجال، اخيارا واشرار، اغنياء وفقراء، مؤمنون وملحدون الى اشكال تبدو كأنها مشاريع لصوص. لو دخلت هذه الأيام أي مجموعة بشرية لأي بنك لن يشك بها أحد أبدا. لن يستنفر الحراس وتطلق صفارات الأنذار، فالجميع في الهوا سوا! سوف يمكنهم بسهولة سلب البنك ما يريدون والانصراف بهدوء كبير. لا حاجة لسيارة تنتظر والمحرك شغال. يمكن المغادرة من الباب الامامي، ولن تتمكن الشرطة من العثور على شهود لوصف اللصوص، فالجميع في بيوتهم يمارسون حقهم في العزل الذاتي!
إشهدوا أني بلغت! إشهدوا أني بلغت! إشهدوا أني بلغت!
٩ نيسان
هلسنكي ـ عزلة الكورونا