غلاء المواد، وانعدام الدخل، وتفاقم الفقر، المرافق لرعب وباء كورونا في مجتمعنا، لم تعط الحكمة لأطراف من حراكنا الكردي، لتخفف نزعة الخلافات، وتوقف التهجم على الأخرين، وتتخلى عن منهجية إلغاء من لا يتوافق معهم. فمن عمق الكارثة المهيمنة لا تزال تظهر الصفحات السوداء، وينتشر الوباء السياسي، في الوقت الذي أوقفت فيه البشرية معظم خلافاتها، باستثنائنا وبعض الدول الإقليمية الحاقدة، وهو ما دفع بنا إلى عرض التالي، أملين أن تهز الوجدان الكردي، ونقف إلى جانب بعضنا في هذه المرحلة القاتلة، وندرس كيفية مساعدة الألاف من العائلات التي تتضور جوعا في مدننا وقرانا، وتتحسر على شراء بضع وحدات من البندورة أو قطعة من اللحم أو حبات من الليمون، في الوقت الذي يمر بجانبهم تجار الحروب بسياراتهم وهي مليئة بكل ما يحلمون به.
أسئلة حادة وعديدة تطرح على طرفي حراكنا الكردي في جنوب غرب كردستان، جلها من باب التشفي، أو لإبراز الذات، ونادرا ما تعرض من حسن النية أو لتوعية المجتمع أو لمعالجة خلافاتنا أو لحل الإشكاليات التي تحد من مسيرة أمتنا لبلوغ الهدف، رغم منطقية أغلبيتها، منها:
1- هل الأحزاب الكردية على سوية القضية؟ وهل الإدارة الذاتية تمثل الشعب الكردي، وماهي علاقتها بقضيته؟ وماذا يفعل المربع الأمني في قامشلو، وما هو دوره في مجريات الأحداث في المنطقة الكردية؟
2- هل حافظت أحزاب الأنكسي على خطها القومي والوطني، بتعاملها مع المعارضة اللاوطنية ووجودها في الإتلاف، ولماذا أضمحلت؟
3- هل الحركة الثقافية على سوية المرحلة، وهل تعكس أبعاد تسميتها؟ وهل تنتقد الأحزاب الكردية لأنها أضعف منها، وتريد من خلالها إبراز الذات؟ أم تهاجمها عن وعي وتخطيط لتنوير المستقبل؟ وهل تكرارها لمفاهيمها الكلاسيكية مجدية في هذه المرحلة؟
4- هل إثارة هذه الأسئلة وغيرها المطروحة على خلفية تصعيد الصراع، والتهجم، وإلغاء الأخر، تفيد مستقبل القضية؟ أم أنها تضعضع مكانتها؟
5- من يقف وراء إثارة الخلافات بين أطراف حراكنا السياسي والثقافي، ومن يصعدها؟ ولماذا في هذه المرحلة التي يظن أنه لم يعد للنظام ومربعاته الأمنية من هيمنة؟
6- ما مدى وعي النخبة الثقافية قبل السياسية وقدراتها على انتشال حراكنا من هذه الضحالة المعرفية؟
7- لماذا وكيف تمكن مخططو الخلافات من بلوغ هذا المدى في توسيع الشرخ بيننا، وخلال هذه الفترة القصيرة؟
8- ما هي سلبيات حراكنا الثقافي، أمام أحزابنا التي لم تقدم شيئا يذكر لشعبنا وقضيتنا على مدى قرابة قرن من الزمن؟
9- هل أحزابنا الأممية والقومية تملك ناصية قراراتها أم أنها كانت ولا تزال أدوات بيد قوى خارجية؟ وما مدى درجة وعيها للإشكالية، وقدرتها على تدارك ما تمت ضمن الأروقة الأمنية سابقا والتي لا تزال أوبئتها مسيطرة على مفاهيمنا؟
10- لماذا الصراعات الداخلية تجذب أكبر نسبة من مجتمعنا؟ ويبدع فيها حراكنا؟ وبالمقابل تصبح ضحلة في صراعها مع الإعداء؟
11- هل هناك أحزاب معادية للقضية الكردية؟ أما أنها هكذا تظهر لسذاجتها في معالجة القضية القومية؟
أليست إشكالية طرح هذه الأسئلة، ومضامينها، وغيرها الكثير، كافية للتفكير والعمل على إعادة إنتاج حراكنا الكردي، ولا نقصد به على إزالة الموجود بل بتوعية المجتمع لينبت من ذاته، ألا تقع هذه على عاتق الحركة التنويرية المأمولة أن تظهر وتقوم بمهامها.
كلما كان يلتئم جرحا في جسم حراكنا في جنوب غرب كردستان، كانت الأنظمة المتعاقبة تبحث عن أساليب أخبث للطعن وفتح جرح أعمق، لديمومة النزيف، وكثيرا ما كان يتم تحديد الأماكن بتخطيط، ومن المؤلم أن الطعنات جلها كانت بأيادي بعضنا وبأسلحة الأعداء، فالندوب الناتجة من صراعاتنا لا تزال كثيرها واضحة، وتلك التي خلفتها أيادينا أكثر ألما مما خلفه الأعداء فينا.
واليوم ورغم هشاشة النظام، وضعف إمكانياته، لا نزال نستخدم الأساليب ذاتها في محاربة بعضنا، ويا للألم، وكأن ديمومة بقائنا متوقفة على الصراع الداخلي، وليست في مواجهة الأعداء! والأكثر ألما توسعها وانتقالها من الساحة السياسية إلى ما بين الحراك الثقافي والأحزاب.
مؤلمة مسيرة صراعاتنا، والتي بدأناها بسفك دماء بعضنا، وبعد الإحساس بالذنب وتأنيب الضمير أكتفينا بالتخوين، وبعد أن ترقينا مع الزمن عرضنا الاتهامات والتشهير كبديل حضاري! وعندما ساد بعضنا، بدأنا بكتم الأصوات، وفي عالم الإنترنيت حللنا التهجم تحت غطاء النقد، مع ذلك لم ولربما لن نستخلص منها الدروس، لأننا في كل مرحلة أبدعنا في خلق عوامل الصراع، وأسندناها بمفاهيم ساذجة، نبرر بها عدمية بلوغنا الهدف، وحاولنا إقناع ذاتنا قبل المجتمع بها.
بل أثبتت الحركة الثقافية وفي صراعها مع الأحزاب الكردية ومنذ أكثر من ثلاثة عقود إن لم تكن أكثر، على أنها تجتر نفس المفاهيم التي لم تجد نفعاً ولم تقدم بالشعب خطوة نحو الهدف، وما كسبناه حتى الآن هي من فضل الشهداء والمصالح الدولية، ولا تزال حراكنا تستخدم نفس المنهجية في التعامل بين بعضها، في جنوب غرب كردستان. فالصراع ما بين الأحزاب السياسية، وانتقادات الحراك الثقافي لهم لم تختلف عما كنا عليه قبل قرن أو نصف قرن.
فالعمل على عدمية كردية الـ ب ي د ومن يتبنى الإيديولوجية الإيكولوجية أو الأمة الديمقراطية (والغريب أن إستراتيجييهم لم يتمكنوا حتى اللحظة من توضيح إشكالية التناقضات بين الفعل والنظرية) لا تختلف عن جدلية تخوين أحزاب الأنكسي وفي مقدمتهم البارتي الديمقراطي الكردستاني واليكيتي، وعلاقتهما مع المعارضة السورية، والطرفان الحزبيان لا يتمكنون من إقناع جماهير الشارع بمدى منطقية الحالتين ومن يقف وراء هذا الصراع الذي لا يختلف عن صراعاتنا التاريخية، والمؤدية إلى تزايد احتمالية عزلتهما مستقبلا عن شارعهما، والأغرب من الحالتين عدم قدرة حراكنا الثقافي من تجاوز الانتقادات الكلاسيكية للطرفين، والمؤدي إلى سقوطها في مطب التهجم والعداوة معهما، في الوقت الذي يتطلب منها عدم عرضهما كخصم، بل توعيتهما وتصحيح مسارهما، وخلق التألف بينهما.
الحكمة تبين أن القوي الواعي لا يتدنى إلى سوية الهزيل الساذج، وبما أن شريحة من حراكنا الثقافي تقيم ذاتها على أنها بلغت مرحلة لا بأس بها من الوعي، فعليها الابتعاد عن محاربة الأحزاب، وتكتفي بمحاولات إعادة مراجعة ودراسة مفاهيمها، لخلق البديل وإعادة إنتاج عصري لحراكنا السياسي، وليس في هدر طاقاتها للقضاء عليها، وهي تدرك أن هذه لن تتم ولن تنجح فيها.
كما وعليها أن تدرك قبل غيرها من شرائح المجتمع أن الحراك السياسي، ومن ضمنها الأحزاب، ليس خصما، فهي تحاول قدر إمكانياتها خدمة ذاتها، وهذه الخدمة تعتبرها حسب مفهومها بداية لخدمة الشعب، وبالتالي فمحاربتها تضع الحركة الثقافية ذاتها والنخبة في خانة الأحزاب من حيث اجترار الأخطاء، والضعف، بل وفي كثيره تصبح هي الطرف الأضعف، وتتناسى أن ديمومة الخصومة والصراع خسارة للجهتين، وبالتالي تهدر طاقاتها؛ على خلافات تستفيد منها الأحزاب المتصارعة في البقاء على الساحة، أي أن الحراك الثقافي يكون قد قدم لتلك الأحزاب عوامل استمراريتها وتمثيلها للشارع الكردي؛ رغم ما هي عليه من الضعف والسذاجة السياسية والدبلوماسية.
وهنا تتجلى الفرق بين النخبة؛ التي ترى الدروب واضحة نحو الهدف؛ أو المتأثرة بالمفاهيم الكلاسيكية، كطريق وحيد لبلوغ الهدف، لا نشك في وطنية الكل، لكننا نشك في غياب التراكم المعرفي والوعي…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
4/4/2020م