ذكرنا قبل سنوات، أن الحراك الثقافي الكردي تحتضن نخبة تملك إمكانيات التنوير، ولكنها تحتاج إلى مراجعة الذات، وتفعيل قدراتها، وعدم هدر قواها في محاربة الأحزاب المشتتة، بنفس الأساليب الكلاسيكية والمفاهيم التي لم تعد تجدي نفعا، فهي لا تملك إرادتها؛ ولا مقومات وجودها، وجميعنا نعرف وبكل التفاصيل المملة؛ أن أمراضها أصبحت أكثر من معروفة، وعلى أثرها كثيرا ما تراجعت ومنذ سنوات عن نقدها بنفس المنطق والمفاهيم البالية، أمل أن أجد البديل المتوقع لإحداث التغيير.
ولأن الأساليب السابقة أصبحت غير مجدية، بل وتزيد من تشتتنا وتضعفنا أمام الأعداء، يتوجب على حراكنا الكردي ولنقل النخبة أن تبحث لذاتها عن مخرج قبل أن تجدها لأحزابنا، وتأتي بمفاهيم ملائمة تستخدمها لإنتاج البديل، فيما إذا كانت ترى ذاتها المسؤولة عن التنوير، وأنها أقوى وأوعى منهم.
لو عدنا إلى الوراء قليلا، لوجدنا أن حراكنا الثقافي، لتمسكها بمفاهيمها الجامدة حول إشكالياتنا القومية والوطنية، والتهائها بالصراعات الحزبية، تأخرت في معالجة العديد من القضايا المصيرية وبعض الأوبئة التي كانت ولا تزال تعاني منها أمتنا، كما ولم تتمكن من بدايات المشاكل في سوريا، وفي الشارع الكردي، إقناع الأحزاب، المهيمنة بقدرة قادر، على معالجة ما كانوا قادمين عليه، ولم يتمكنوا من تخفيف الخلافات والصراعات الداخلية، التي أدت إلى استمرارية ضعفنا على المستويات الإستراتيجية الطويلة الأمد، كما ونتجت عنها الكوارث المتتالية لشعبنا في جنوب غرب كردستان، وللأسف لم يجدي نفعا ما بثته النخبة حينها.
واليوم شعبنا يدفع الثمن، حتى ولو كانت الأحزاب الرئيسة تتدرج بين الملامة والمذنبة والمتهمة، فكانت النتيجة حتى اللحظة شهادة قرابة 11 ألف شابة وشاب كردي، وتهجير ما لا يقل عن مليون ونصف من الشعب، وإسكان مليون ونصف خارجي وأكثر في مناطقنا، أي دمار ديمغرافي، خلقت معها أسبابها المتعددة والمتنوعة، والتي تختلف عن التغيرات الديمغرافية في المناطق السورية الأخرى، رغم أن المصائب والألآم الإنسانية هي ذاتها، إلى جانب تدرج مصير جغرافيتنا ما بين محتلة ومدمرة ومتسلطة عليها شرائح التكفيريين والمرتزقة، ومنطقة على كف عفريت، لا تعرف مصيرها، تتحكم بها قرابة ثمانية قوى متنوعة ما بين عالمية وإقليمية ومحلية.
كما ومنذ حينه، توسع الشرخ بين الأحزاب الكردية إلى درجة لم يسبق له مثيل في تاريخ الحراك الكردي، تجاوز في كثيره ماضي الصراعات العشائرية، إلى أن أصبحت منطقتنا اليوم على شفى فوهة بركانية، حبكت لأجل تدميرها، مؤامرات مخفية خبيثة، أدت إلى قيام المجتمع الكردي والحراك الثقافي أو السياسي الثقافي، بطعن بعضهم البعض بشكل شبه عشوائي، تمكنت النخبة الثقافية من الوقوف في وجه بعضها، لكنها ولتشتتها وضعف إمكانياتها وقفت حائرة في كيفية مواجهة المؤامرات الإستراتيجية للنظام الاستبدادي، ومن بينها تشويهها لقضيتنا القومية على المستويين الإقليمي والدولي.
وفي الوجه الأخر وعلى خلفية دراسة مجريات التاريخ وما بث إلى الشارع الكردي، في المراحل السابقة، والتي بعضها لا تزال سارية المفعول، منها ديمومة الصراع الكردي- الكردي، استطعنا إلى حد ما تنبيه شارعنا، وإيقاظ قسم واسع من حراكنا الثقافي على الأوبئة الفكرية التي كانت تبثها السلطة الشمولية من خلال مربعاتها الأمنية، وبعضها أخذت مجراها عن طريق شريحة من حراكنا السياسي والثقافي المساهمة في البث بدون إدراك، وعلى أثرها ظهرت دراسات وكتب ومقالات تشوه في تاريخ الجزيرة الكردية، وتطعن في ديمغرافيتنا، ضمن جنوب غرب كردستان.
ومن المؤامرات الحديثة، التي ظهرت مع بدايات الصعود الكردي على الساحة السياسية الدولية، وفي جنوب غرب كردستان، أثناء ما كانت المسيرات ثورة:
1- إشكالية (الداخل والخارج) والتي حاولت جهات عدة تقييم الأبعاد الوطنية والإخلاص للشعب وللقضية من خلال التمييز بين من هُجر أو هاجر أو صمد في الداخل، إلى درجة بلغت مرحلة تخوين كل من في الخارج! وطلبوا منهم الصمت حول قضايانا القومية والوطنية. وتم تحريض شريحة من كتاب الداخل لمهاجمة المعارضين في الخارج، بل ووسعت لتشمل كل المهاجرين والمهجرين. وبعدما تمكنا إلى درجة ما من تعرية هذه المؤامرة ونبهنا الشارع لمآلاتها الكارثية ومن يقف ورائها، وغاياتهم، خرجوا بخباثة أخرى، تبنتها شريحة من الكتاب والسياسيين المستعربين والعروبيين، وهي.
2- مصداقية الانتماء إلى الوطن، وإتهام كل من يطالب بالحقوق القومية الكردية ضمن سوريا كوطن مشترك، بالانفصاليين ومن ثم بالخيانة والعمالة، وعلى هذا المنحى ظهرت مفاهيم غريبة، منها أن الوطن هي (سوريا العربية) والكل فيها عربي سوري قبل أن يكون كرديا أو سريانيا أو غيرهما، وبالتالي وصفوا الشعوب بالمواطنين السوريين إن لم يكن عربياً، ودونها عدت خيانة للوطن الموسوم بالعروبة والإسلام السني.
3- تم تحريف تاريخ الجزيرة على مراحل، بدأوا بإصدار دراسات مشوهة مطعونة فيها؛ عن الديمغرافية الكردية، وأسماء مدنهم، إلى درجة أصبحوا يعرضون الشعب الكردي كمهاجر إلى الجزيرة، والقبائل العربية الهاربة من أل سعود بعد ثورات حائل في شمال الجزيرة العربية في عام 1910 وما قبلها أصحاب الأرض، متناسين أن هذه القبائل لم تعرف الحضر في شمال الفرات قبل عام 1930م، وأن المعارك التي جرت بين القبائل الكردية والعربية الهاربة من أل سعود، كالتي جرت بين الملية والشمر والطي، وبين الكوجر والشمر وبين عشائر سنجق خلف أغا كدوركا والكاسكا والحجي سليمانا ودومانا وأل مرعي وأباسا وغيرهم، وبين الشمر والجبور والطي، وكذلك بين الدقورية والكيكية والبرازية والعشائر العربية الرحل، وجميعها كانت على خلفية صد الغزوات الفصلية للقبائل العربية التي سكنت في بادية الشام، للمناطق الكردية في شمال الفرات.
4- نشروا بحوث مطعونة فيها، عن جغرافية جنوب غرب كردستان، وللأسف شاركت فيها شريحة بقدر ما حراكنا الكردي، على منطقتنا الكردية، مكونة من ثلاث أجزاء منفصلة ديمغرافيا عن بعضها، وبالتالي لا اتصال بينها، وعليه نقدوا بل في الواقع هاجموا ما طالبنا به في )المجلس الوطني الكردستاني – سوري( بالفيدرالية الكردستانية، واللامركزية في السلطة، عام 2006م بعد مؤتمري واشنطن والمؤتمر التأسيسي في بلجيكا، وقد كان المطلب وطني، لان المنطقة فيدرالية كردستانية ستضم الشرائح الأخرى من الشعوب السورية، ومن الغرابة أن البعض من قادة الأحزاب الكردية دعمت منهجية التقسيم والفصل في المنطقة الكردية، وكأن لسان حالهم كانت تقبل بأسلوب أو أخر، المركزية في السلطة، فساهمت بسذاجتها هذه على إعادة إنتاج السلطة المركزية العربية، بل وتطاولت وبدون إدراك لتكتب فيها؛ وتؤكد على التجزئة والتقسيم بين المناطق، بعضهم تناسوا أنها طعنة للتاريخ الكردي ولقضيتهم، وإضعاف لمطلب الشارع الكردي، وهي الفيدرالية، المشرفة حدودها الجغرافية على البحر الأبيض المتوسط، حيث الامتدادات الديمغرافية الكردية، والتي كانت في إحصائية الثلاثينات من القرن الماضي لا يقلون عن 45% من سكان سوريا الكبرى، وهذا ما أدى أن يكون أول رئيس لسوريا، عندما كانت وطنا يجمع الكل؛ كرديا، وأول وزير دفاع كرديا، وأول من وقف في وجه الاستعمار كرديا، وأفضل علامة في اللغة العربية كرديا وأول من وضع الدستور كرديا، غيرها…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
4/4/2020م