رغم الانفتاح الذي شهده العراق بعد 2003 في مختلف المجالات وخروجه من الفضاء الضيّق نحو العالم الخارجي، فإن الطبقة السياسية ما زالت تفتقر إلى ثقافة “الاستقالة” حتى بعد عجزها عن تقديم الخدمات الأساسية للمواطن والقضاء على الفساد وهدر المال العام.
لم يلمس العراقيون حتى الآن من طبقتهم السياسية أي شعور بروح المسؤولية، فكل الطبقة الحاكمة ما زالت متمسكة بمصالحها، رغم ما تشهده البلاد من أزمات وفساد تسبب في تفاقم نقمة الشارع.
ورثة البعث
وشهدت الدولة العراقية منذ تتويج الملك فيصل الأول ملكاً على العراق يوم 23 أغسطس/آب 1921 أكثر من 100 استقالة لرئيس وزراء ووزير ونائب وتشكيلة حكومية، أكثر من 80% منها كانت خلال العهد الملكي، وشهدت تراجعا إلى أن انعدمت خلال تجربة حكم حزب البعث، ومن ثم أصبحت شبه معدومة بعد 2003.
ويشكل غياب الرؤية لدى النخبة الحاكمة في العراق أحد الأسباب الرئيسية لعدم شيوع ثقافة “الاستقالة” لديها، فهؤلاء ليسوا إلا طارئين على العملية السياسية، ولم يكونوا سياسيين قبل 2003 بالمعنى الأكاديمي، كما يرى ذلك الباحث غالب الشابندر.
ويرى الشابندر أن المسؤولين في العراق ليس لديهم الإرادة والخيال في السياسة، وإنما تتركز ثقافتهم على قضايا عقائدية ومذهبية مع توجهات فكرية بسيطة.
ويذهب الباحث العراقي في حديثه لـ“الجزيرة نت” إلى أن الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين لم يغب عن منظومة الحكم في العراق حتى بعد 2003، واصفاً الطبقة السياسية الحالية في العراق بـ“ورثة صدام” لكن بأسلوب عقائدي، والتغيير في جذور هذه الظاهرة يحتاج إلى مدة طويلة إن لم يكن مستحيلاً.
ثلاثة أسباب
وشهد المشهد السياسي العراقي بعد عام 2003 استقالات متواضعة، لكنها ليست بالشكل المطلوب مقارنةً مع حجم الفساد والأزمات الموجودة على أرض الواقع.
وفي 15 سبتمبر/أيلول 2019 قدم وزير الصحة علاء الدين العلوان استقالته بسبب تعرضه لضغوط ممن وصفهم بالفاسدين، بيد أن رئيس الوزراء حينها عادل عبد المهدي لم يقبلها ومنحه إجازة مفتوحة، قبل أن يقبلها لاحقاً.
ودفع اندلاع المظاهرات مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي حكومة عبد المهدي إلى الاستقالة، بعد وقوع عشرات القتلى والجرحى من المتظاهرين، فضلاً عن اختطاف وفقدان المئات.
وهناك ثلاثة أسباب تقف سداً منيعاً أمام تقديم المسؤول العراقي استقالته، أحدها ذاتي يتعلق بشخص المسؤول، فهو يعتبر المنصب مكسباً شخصياً يصعب التخلي عنه بكل ما فيه من امتيازات اعتبارية ومادية، ويتعلق السببان الثاني والثالث بطبيعة حصوله على المنصب حيث يكون ذلك بسبب نظام المحاصصة، وهو نظام له أصوله الدستورية والقانونية التي كرسها عرف سياسي سارت عليه إدارة الدولة.
ولذلك فإن استقالة المسؤول ليست قراره وحده، وإنما قرار الجهة والمكون اللذين أوصلاه للمنصب، بحسب الصحفي العراقي كمال بدران.
ويرى بدران في حديثه لـ“الجزيرة نت” أن المسؤول في العراق لا يقدم استقالته إلا في حالتين، أن يكون ضامناً لإمكانية حصوله على المنصب متى شاء أو حتى الوصول إلى أبعد منه، ولنا في ذلك تجربة عضو مجلس النواب المستقيل في الدورة قبل الماضية جعفر محمد باقر الصدر، الذي استقال تاركاً الأبواب مشرعة لأي منصب آخر يرتضيه، وهو حصل بالفعل عندما تم تعيينه سفيراً للعراق لدى الأمم المتحدة.
أما الحالة الثانية فتمثلها حالة وزير الصحة المستقيل علاء الدين العلوان، ويبدو أنه درس موضوع بقائه في المنصب واستشعر خطورة ذلك وهو بلا سند حزبي، دون إغفال أن يكون دافع استقالته نبيلا لما رآه من فضائع الفساد في وزارته يستحيل معها البقاء.
في عهد ما قبل 2003 ليس هناك ما يسمى استقالة إلا لأسباب صحية، ما عدا ذلك فإن تقصير المسؤول أو فساده إما أن يمضي بمباركة النظام بالاستفادة منه أو الحفاظ على ولائه، وإما أن يوقف ويكون السجن أو الإعدام بانتظاره تبعا لمزاج القيادة.
العقلية الاحتكارية
ولربما يعود السبب في ذلك إلى بنية العقلية الاحتكارية لدى الفرد العراقي خصوصا والشرق الأوسطي عموما، ولأن الطبقة السياسية هي جزء من المجتمع، فبالتأكيد ستتأثر بهذه الظاهرة، كما يفسر ذلك أستاذ الإعلام أركان روؤف، مضيفا لـ“الجزيرة نت” أن الأحزاب السياسية في العراق تنقل الصلاحيات والسلطة الحزبية إلى أفراد الأسرة الحاكمة وليس العكس.
ورغم اعتراف المسؤولين العراقيين بالفشل، بحسب رؤوف، فإنهم يرفضون الاستقالة ويصرون على التمسك بالمنصب لأنهم متأثرون بالتراث الاحتكاري الذي يفضّل التبعية على الإدارة الحرة.
ويشير رؤوف إلى أن “استقالة المسؤول هي اعتراف ضمني بالتقصير وهي ثقافة غير موجودة فما بالك إذا كان التقصير أو المسؤولية فيها الجانب الجنائي، وهنا سينبري الحزب والمكون للدفاع عن شخص مرشحهم والتلويح بشتى الدفاعات ضد الخصوم مثل كشف الملفات لتمر الفضيحة كلها“.