[ موضوعٌ آستشكل على غالبية المفسرين ]
الجزء الأول
مير عقراوي / كاتب بالشؤون الإسلامية والكردستانية
النص الأول / { وقولهم : إنا قتلنا المسيح آبن مريم رسول الله * وما قتلوه وما صلبوه * ولكن شُبِّهَ لهم * وإن الذين آختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علمٍ إلاّ آتباع الظنِّ * وما قتلوهُ يقيناً * بل رفعه الله اليه * وكان الله عزيزاً حكيماً } النساء / 157 – 158
النص الثاني / { إذْ قال الله : ياعيسى إني متوفِّيك ورافعك إليَّ ومطهِّرُكَ من الذين كفروا وجاعل الذين آتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة * ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } آل عمران / 55
النص الثالث : { ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به أَنِ آعبدوا الله ربي وربُّكم وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم * فما توفَّيتني كنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم * وأنت على كلِّ شيءٍ شهيد } المائدة / 117
التفسير : قالت اليهود إنهم قتلوا المسيح نبي الله تعالى وصلبوه ، بالحقيقة إنهم لم يقتلوا ، ولم يصلبوه ، فهم لم يقتلوا المسيح متيقنين ، بل إن الله سبحانه نجّاه منهم وأكرمه بالرِفعة والمقام العظيم عنده ، وهو عزوجل العزيز الحكيم .
خاطب الله تعالى نبيه عيسى آبن مريم بأنه متوفِّيه ، وله عنده المكانة الكريمة ، وإنه مُطهِّره من الذين كفروا ، وهو سبحانه سيجعل الذين آتبعوه وآمنوا به عن صدق كعبد مخلوق ونبي مرسل كلمتهم فوق الذين كفروا الى يوم القيامة ، ثم الى الله جلَّ في عُلاهُ مآب الجميع ومرجعهم ، حيث هو سبحانه يقضي ويحكم بالحق فيما كانوا فيه يختلفون .
في الآية السابعة عشر من سورة المائدة التي هي تتمة الآية السادسة عشر قبلها ، يقول عيسى المسيح لله تعالى ربه بأنه لم يقل ، ولم يُبلِّغ قومه إلاّ ما أمره وما كلفه الله به ، وهو إخلاص العبادة والعبودية لله عزوجل الذي هو سبحانه ربه وربهم ، وبذلك كان شهيداً على قومه طيلة مقامه فيهم وحياته معهم ، ولما توفاه الله ومات أصبح هو سبحانه الرقيب عليهم والشاهد والحفيظ على أعمالهم وأفعالهم .
مما يبدو من المفسرين القدامى والمحدثين بمختلف مذاهبهم إن الآيات القرآنية التي تلوناها من سُوَرِ النساء وآل عمران والمائدة قد آستشكلت عليهم كثيراً فهمها وتفسيرها ومعانيها فيما يخص { بل رفعه الله اليه } و { إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا } ، فذهب غالبيتهم بأن التفسير والمعنى والمغزى منها ، هو إن الله تعالى قد رفع نبيه عيسى المسيح اليه بعدما نجّاه من القتل والصلب ، أي الى السماء روحاً وجسداً .
لذلك وبحسب تفسيرهم المذكور فإن المسيح هو حيٌّ الى اليوم ، وفي آخر الزمان سينزل الى الأرض . وفي ذلك آستندوا الى كمٍّ كثيرِ من المرويات الحديثية التي لا تتفق ، بل تتعارض مع القرآن ، حتى زعموا إن المسيح آبن مريم سوف ينزل بجابية الشام تحديداً ، ثم يكسر الصليب ويقتل الخنزير والدجال وينشر الإسلام في الأرض قاطبة ، وذلك بالتزامن ، وهنا المقوة المتنقضة والمفارقة الكبرى مع ظهور ( المهدي) الذي يقود نبي الله عيسى ويؤُمهُ في الصلاة ويصبح – أي المهدي – إماماً وأسوة له – أي لنبي الله المرسل عيسى آبن مريم . هذا يعني بوضوح العبارة إن الله تعالى نجّا نبيه المسيح عيسى بن مريم من القتل والصلب ورفعه إليه وأبقاه حيَّا لآلاف السنين كي يقوده ويؤمه شخص بآسم المهديِّ ! .
وقد ترسخت هذه الأفكار والآراء في مجموع المسلمين بغالبيتهم منذ قروت طويلة مضت ، والى آمتدادات أيامنا هذه . وبشأن المهدي وقيادته وإمامته لنبي الله المرسل عيسى فإن الإضطراب يلف الموضوع ويعمه من جميع جوانبه . ولندع حالياً موضوع إمامة المهدي لنبي الله تعالى المرسل عيسى المتصادم مع القرآن الكريم ، لأنه ليس موضوعنا الآن ، وربما نتطرق اليه في قادمات الأيام بإذن الله تعالى .
أما في العصر الحديث فقد نحا جمع من الأئمة والعلماء الكبار منحنىً آخر ، وإتجاهاً آخر في منتهى الدقة والعمق والفهم يختلف جذرياً مع آراء المفسرين
القدامى والمحدثين في موضوع { الصلب } ، { الشَبَه } ، وعبارة { وجاعل الذين آتبعوك …} ، و { التَوَفِّي } ، و { والرفع } ، و { التطهير } ، و { العودة للمسيح } ، حيث مدار الآيات القرآنية في سُوَرِ آل عمران والنساء والمائدة يدور حول تلكم المصطلحات والألفاظ الهامة والمفصلية بالنسبة لمصير نبي الله عيسى آبن مريم – عليه الصلاة والسلام – ، منهم : شهاب الدين محمود بن عبدالله الحسيني الألوسي [ 1802 – 1854 ] ، ومفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ محمد عبده [ 1849 – 1905 ] ، والسيد محمد رشيد رضا [ 1865 – 1935 ] ، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور [ 1879 – 1973 ] ، وإمام الأزهر الأسبق الشيخ مصطفى المراغي [ 1881 – 1945 ] ، وإمام الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت [ 1893 – 1963 ] ، والشيخ محمد أبو زهرة [ 1898 – 1974 ] ، والدكتور أحمد شلبي [ 1915 – 2000 ] ، والدكتور حسن الترابي [ 1932 – 2016 ] ، والمفكر الإسلامي المعروف الدكتور عدنان إبراهيم وغيرهم .
يبدو من خلال آراء غالبية المفسرين في الماضي والحاضر ، وبمختلف مذاهبهم بأنهم في تفسير الآيات الواردة في سُوَرِ آل عمران والنساء والمائدة حول قضية صلب عيسى المسيح وغيرها من المسائل المتعلقة بها ، والتي ذكرتها الآيات في السُوًر المذكورة قد تأثروا وآستعانوا بالمرويات الحديثية ، وهي بكثرة لا تخلو من الإسرائيليات والإختلاقات المنسوبة لرسول الله محمد – عليه الصلاة والسلام – ، وهذا ما عقد الموضوع وآستشكل عليهم فهمه وتفسيره تفسيراً يتفق مع صدقية القرآن الكريم ومصداقيته وعظمته وعبقريته . لذلك بقي الموضوع عند المسلمين محل خلاف وآختلاف وسجال من القرون الماضية ، وحتى عصرنا الحالي . تأسيساً على ما ورد من الواجب حسم هذه المسألة ، كما غيرها مثل مسألة المهدي بما يتفق مع مقاصد القرآن ، ومع الفهم السليم المؤدي الى إحداث وعيٍ صحيح بين المسلمين حول المسألة المذكورة وغيرها أيضاً . إن أحد أبرز مواطن الضعف والتقصير لتفسيرات المفسرين في معرفة فهم مسألة الصلب وغيرها يكمن في آعتمادهم البالغ على المرويات ومحاولتهم فهم الآيات القرآنية وتفسيرها على ضوئها وجعلها تتوافق معها ، مع إن القرآن هو الحجر الأساس لأيِّ كلام ومنهلٍ آخر ، فهو يقضي ولا يُقضى عليه . بالحقيقة إن العكس هو الصحيح بداهة ، إذ يجب أن تتوافق الأحاديث والمرويات مع كتاب الله تعالى ومقاصده ، ومع العقل والفهم السليم ، فما وافق قُبِلَ وآستقبل وما آختلف وآضطرب وتناقض لا ينبغي الإلتفات اليه ، بل طرحه جانباً ، لأنه يُشكِّلُ تشويهاً وآنحرافاً وتحريفاً للإسلام وكتابه وسنة رسوله ، بخاصة في هذا العصر المتحضر من ناحية ، والحساس والعصيب من ناحية ثانية بالنسبة للمسلمين وأوضاعهم المزرية . كخطوة في هذه الطريق ننشر في هذا البحث تفسير كبار الأئمة والعلماء والمفكرين في المسألة المذكورة ، ثم فهمي وتفسيري وتحليلي المتواضع عليها أيضاً ، ونبداُ بشيخ وإمام الأزهر الأسبق محمود شلتوت .
في الخامس من الشهر الحادي عشر من عام [ 1942 ] من القرن العشرين المنصرم وجَّه عبدالكريم خان من القيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط – يومها – سؤالاً لفضيلة الإمام محمود شلتوت حول حياة نبي الله عيسى ، أو موته ، ونص التساؤل بالصيغة التالية :
التاريخ / 11 / 5 / 1942
للأستاذ محمود شلتوت
ورد الى مشيخة الأزهر الجليلة من حضرة عبدالكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط سؤال جاء فيه : هل عيسى حَيٌّ أو مَيِّتٌ في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وما حكم المسلم الذي ينكر إنه حَيٌّ ، وما حكم من لا يومن به اذا فرض إنه عاد الى الدنيا مرة أخرى ..؟
وقد حُوِّلَ السؤال الى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء ، فكتب ما يلي : .. ] ينظر مجلة ( الرسالة ) ، العدد 462 ، لعام 1942 ، نقلاً من موقع / ar.wikisource.org
قبل نقل الجواب القيم والعميق في أبعاده ودلالاته لفضيلة الشيخ محمود شلتوت إمام الأزهر الأسبق ، أقول : إستناداً الى ما جاء في التساؤل أعلاه لعبدالكريم خان يبدو بوضوح فقد كان يومذاك أيضأً نقاشات وحوارات وتساؤلات وأخذ ورد حول موضوع حياة نبي الله عيسى المسيح ، وحول موته وصلبه بين المسلمين ، بخاصة بين العلماء والمثقفين والفقهاء وغيرهم بشكل عام ، ولأجل أهمية الموضوع أُحِيلَ التساؤل الى شخص إمام الأزهر الشريف وقتذاك الشيخ محمود شلتوت للإجابة عليه ، وفيما يلي نص الإجابة :
[ . . . أما بعد ؛ فان القرآن الكريم قد عرض لعيسى – عليه السلام – فيما يتصل بنهاية شأنه مع قومه في ثلاث سور:
1 – في سورة آل عمران قوله تعالى : { فلما أحس عيسى منهم الكفر قال : من أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله آمنَّا بالله ، واشهد بأنّا مسلمون : ربَّنا ، آمنَّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين . ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ؛ إذ قال الله: يا عيسى ، أنى متوفيك ورافعك إليَّ ومطهّرك من الذين كفروا ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، ثم إليَّ مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } ، 52 – 55
2 – وفي سورة النساء قوله تعالى : { وقولهم : إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن شبه لهم ، وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ، ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ، وما قتلوه يقيناً ، بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزاً حكيما } ، 157 – 158
3 – وفي سورة المائدة قوله تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ ، قال : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ، إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك ، انك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } 116 – 117
هذه هي الآيات التي عرض القرآن فيها لنهاية شأن عيسى مع قومه ، والآية الأخيرة ( آية المائدة ) تذكر لنا شأناً أخرويَّاً يتعلق بعبادة قومه له ولأمه في الدنيا وقد سأله الله عنها وهي تقرر على لسان عيسى عليه السلام أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به : { اعبدوا الله ربي وربكم } ؛ وإنه كان شهيداً عليهم مدة إقامته بينهم، وإنه لا يعلم ما حدث منهم بعد أن ( توفاه الله ) ، ! وكلمة ( تَوَفِّي ) قد وردت في القرآن كثيراً بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها ، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم . إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . ولو ترى إذ يُتوفى الذين كفروا الملائكة . توفته رسلنا . ومنكم من يتوفى . حتى يتوفاهن الموت . توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } .
ومن حق كلمة ( توفيتني ) في الآية أن تحمل على هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة العادية التي يعرفها الناس ويدركها من اللفظ ومن السياق الناطقون بالضاد . وإذن فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية عيسى مع قومه لما كان هناك مبرر للقول بان عيسى حي لم يمت.
ولا سبيل إلى القول بان الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء بناء على زعم من يرى انه حي في السماء ، وإنه سينزل منها آخر الزمان ، لان الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يكونون آخر الزمان وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى .
أما آية النساء فإنها تقول { بل رفعه الله إليه } وقد فسرها بعض المفسرين بل جمهورهم بالرفع إلى السماء ، ويقولون : إن الله ألقى على غيره شَبَهَهُ ، ورفعه بجسده إلى السماء ، فهو حي فيها وسينزل منها آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ، ويعتمدون في ذلك :
أولا : على روايات تفيد نزول عيسى بعد الدجال ، وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافاً لا مجال معه للجمع بينها ؛ وقد نص على ذلك علماء الحديث . وهي فوق ذلك من رواية وهي بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل .
وثانيا ً: على حديث مروي عن أبى هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى ؛ وإذا صح هذا الحديث فهو حديث آحاد . وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد في شأن المغيبات .
وثالثاً : على ما جاء في حديث المعراج من أن محمداً ﷺ حينما صعد إلى السماء وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة فتفتح له ويدخل ، رأى عيسى عليه السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرره كثير من شراح الحديث في شأن المعراج ، وفي شأن اجتماع محمد ﷺ بالأنبياء وأنه كان اجتماعاً روحياً لا جسمانياً ( انظر فتح وزاد المعاد وغيرها ) .
ومن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج بينما ترى فريقاً منهم يستدل على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعاً جسدياً بقوله تعالى : { بل رفعه الله إليه } . هكذا يتخذون الآية دليلاً على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث ، ويتخذون الحديث على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية ! .
ونحن إذا رجعنا إلى قوله تعالى : { إني متوفيك ورافعك إلي } في آيات آل عمران مع قوله : { بل رفعه الله إليه } في آيات النساء وجدنا الثانية إخباراً عن تحقيق الوعد الذي تضمنته الأولى ، وقد كان هذا الوعد بالتوفية والرفع والتطهير من الذين كفروا ، فإذا كانت الآية الثانية قد جاءت خالية من التوفية والتطهير، واقتصرت على ذكر الرفع إلى الله فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في الأولى جمعاً بين الآيتين .
والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهره من الذين كفروا . وقد فسر الآلوسي قوله تعالى : { إني متوفيك } بوجوه منها وهو أظهرها ( إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك ؛ وهو كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام ، لأنه يلزم من استيفاء الله أجله وموته حتف أنفه ذلك ) ، وظاهر أن الرفع الذي يكون بعد التوفية هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصاً وقد جاء بجانبه قوله : { ومطهرك من الذي كفروا } مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم . وقد جاء الرفع في القرآن كثيراً بهذا المعنى : { في بيوت أذن الله أن ترفع . نرفع درجات من نشاء . ورفعنا لك ذكرك . ورفعنا مكاناً علياً . يرفع الله الذين آمنوا } الخ . . . وإذن فالتعبير بقوله { ورافعك إلي } وقوله : { بل رفعه الله إليه } كالتعبير في قولهم : ( لحق فلان بالرفيق الأعلى ) وفي { إن الله معنا } ، وفي { عند مليك مقتدر } وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس . فمن أين تؤخذ كلمة السماء من كلمة { إليه} .. ؟ ، اللهم إن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح ، خضوعاً لقصص وروايات لم يقم على الظن بها فضلاً عن اليقين برهان ولا شبه برهان !
وبعد فما عيسى إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ناصبه قومه العداء ، وظهرت على وجوههم بوادر الشر بالنسبة إليه ، فالتجأ إلى الله شان الأنبياء والمرسلين فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيب مكر أعدائه . وهذا هو ما تضمنته الآيات { فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله } إلى آخرها ، بَّين الله فيها دقة مكره بالنسبة إلى مكرهم ، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع أمام مكر الله في حفظه وعصمته : { إذ قال الله يا عيسى أني متوفيك ورافعك ومطهرك من الذين كفروا } ، فهو يبشره بإنجائه من مكرهم ورد كيدهم في نحورهم ، وأنه سيستوفى أجله حتى يموت حتفه من غير قتل ولا صلب ، ثم يرفعه الله إليه . وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه متى وقف على سنة الله مع أنبيائه حين يتألب عليهم خصومهم ، ومتى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم بالقرآن ، ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم ورفعه بجسده إلى السماء مَكْرأً ..ً؟ ، وكيف يوصف بأنه خيرٌ من مكرهم ، مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه ، شيء ليس في قدرة البشر ! ، إلا أنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جارياً على أسلوبه غير خارج عن مقتضى العادة فيه . وقد جاء مثل هذا في شأن محمد ﷺ : { وأذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلونك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } .
والخلاصة من هذا المبحث:
1 – أنه ليس في القرآن الكريم ، ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حيٌّ إلى الآن فيها ، وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض .
2 – أن كل ما تفيد الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفيه أجله ورافعه إليه وعاصمة من الذين كفروا ، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ، ولم يصلبوه ، ولكن وفاه الله اجله ورفعه إليه .
3 – أن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وانه فيها حي إلى الآن وانه سينزل منها آخر الزمان فإنها لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بدليل قطعي فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه ، ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة ، بل هو مسلم مؤمن ، إذا مات فهو من المؤمنين يصلي عليه كما يصلى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ولا شِيَةَ في إيمانه عند الله والله بعباده خبير بصير .
أما السؤال الأخير في الاستفتاء وهو : ، فلا محل له بعد الذي قررناه ولا يتجه السؤال عنه والله أعلم .
محمود شلتوت . ] يُنظر المصدر السابق والعدد والموقع الإلكتروني المنقول منه ، علماً بأن إجابة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت موجودة في كتاب مجموع فتاواه المطبوع المنشور أيضاً .
يقول الشيخ شهاب الدين محمود بن عبدالله الحسيني الآلوسي في تفسيره المعروف ، في تفسير الآية : [ 55 ] من سورة آل عمران : { إذ قال الله : ياعيسى إني مُتوفِّيك ورافعك إليّ } ، ما يلي : [ المراد أني مُستوفي أجلك ومُميتك حتف أنفك لا أُسلِّطُ عليك من يقتلك . فالكلام كنايةٌ عن عصمته من الأعداء ، وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام ] . يُنظر تفسير ( روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ] لمؤلفه شهاب الدين محمود بن عبدالله الحسيني الآلوسي ، ج 3 ، سورة آل عمران ، الآية 55 ، الطبعة الإلكترونية .
أما علامة تونس الشهير الطاهر بن عاشور ، فيقول في تفسيره المعروف للأية عن الوفاة لنبي الله عيسى المسيح : [ وقوله : { إني متوفيك } ، ظاهر معناه ؛ أني مميتك ، هذا هومعنى هذا الفعل في مواقع آستعماله ، لأن أصل فعل ؛ أنه قبضه تاماً وآستوفاه .
فيقال : توفاه الله ، أي : قدر موته . ويقال : توفاه ملك الموت ، أي ؛ أنفذ إرادة الله بموته ، ويُطلق التوفي على النوم مجازاً بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } ، وقوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها * والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى الى أجلٍ مسمى } ، أي : وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتاً شبيهاً بالموت التام ، كقوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } ، ثم قال : { حتى اذا جاء أحدكُمُ الموتُ توفته رسلنا } ، فالكل إماتة في التحقيق ، وإنما فصل بينها العرف والإستعمال ، ولذلك فرع بالبيان بقوله : { فيمسك التي قضى عليها الموت ويُرْسِلَ الأخرى الى أجلٍ مسمى } ، فالكلام تنظيم غاية الإنتظام ، وقد آشتبه فهمه على بعض الأفهام ، وأصْرَح ُمن هذه الآية آية المائدة : { فلما توفيتني كنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم } ، لأنه دل على أنه قد تَوفى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء ، وبين علم ما يقع في الأرض . وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له ؛ لأنه اذا أراد رفعه لم يلزم أن ينام ، ولأن النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الإهتمام بذكره وترك ذِكْرِ المقصد . فالقول بأنها : بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجادُ معنىً جديدٍ للوفاة في اللغة بدون حجة ] يُنظر تفسير ( التحرير والتنوير ] لمؤلفه الطاهر بن عاشور ، سورة آل عمران ، الآية 55 ، الطبعة الإلكترونية .