هذه القصة الطريفة رواها الأستاذ خالد القشطيني في مقالته الرائعة (أيام فاتت)، تحكي قصة لطيفة ومعبرة عن بساطة العائلة المالكة التي كانت تحكم العراق قبل 14 تموز 1958،وتبرز روح السماح والطيبة التي تحكم تصرفات أفراد العائلة السامية حتى في أشد حالات الغضب والإنزعاج ….
إنها قصة حقيقية تستحق الوقوف عندها طويلاً لأنها تروي أصالة تربية الملوك وحسن إعدادهم، ولا أدري لو إن هذا الموقف قد حصل مع حكام آخرين… كيف كان سيكون تصرف المسؤول الأعلى وكيف سيتم الانتقام الفوري والقاسي من المتسبب في إحراج المسؤولين؟ بل كان يمكن أن يعتبر ذلك مؤامرة أو محاولة انقلابية لتشويه صورة الحكم الوطني؟ الى غير ذلك من الأوصاف…. أترككم مع المقالة والقصة المعبرة التي تضمنتها…ولا نستطيع القول بغير (رحم الله تلك الأيام وأهلها)!!!
احدى اجتماعات حلف بغداد في العاصمة العراقية
بلغت العاصمة العراقية بغداد أوجها من الاهمية في الخمسينات، عندما اصبحت مركزاً للحلف المُسمى باسمها «حلف بغداد»، حيث تحوَّلت الى ساحة للنشاطات الدولية،
وكان منها ان وَفِدَ اليها السيد جلال بايار، الرئيس التركي للتوقيع على وثيقة الحلف، بالطبع سارع البلاط لاعداد وليمة فاخرة تليق بالضيف، لا سيّما وأنَّ لاسم بغداد وقعه في نفوس الاتراك الذين حكموها لعدة قرون.
دُعِيَ للحفلة مئات الضيوف وصدرت التعليمات لاعداد افضل الاطعمة التي تضمنت خرفاناً محشية بالرز واللوز والزبيب والبهارات على طريقة الطبخ العربي.
وترأس فريق الطباخين طباخ كردي ماهر، ولكنه لسوء الحظ كان يتميز بمزاج عصبي حاد كمعظم أبناء قومه، وفيما كان مُنهمكا باعداد كل شيء في الوقت المحدد، قام بغزو المطبخ عدد من أفراد وجنود الحرس الملكي والانضباط العسكري وطالبوا بحصتهم من العشاء، حيث المعتاد ان يتناول الحرس والجنود طعامهم بعد ان ينتهي الضيوف من المأدبة فيأكلوا مما يتبقى على الموائد من طعام…
غير أنَّ استمرار الضيوف في هذه المناسبة بالحديث والشرب الى ساعة متأخرة ترك الجنود في حالة سيئة من الجوع، فهؤلاء الرؤساء والوزراء والسفراء يطوف بهم الملك فيصل والامير عبد الاله، لم يلاحظوا تقاليد الاكل عند اكثرية العراقيين وهي العشاء مبكراً ولا فكَّروا بجوع الحرس الملكي، فاستمروا في احاديثهم الشيقة وغير الشيقة مما أساء الى بطون هؤلاء الحرس.
فتدفقوا على الطباخ (كاكا حمه) وطالبوه بعشائهم، وقالوا له يستطيع الضيوف ان يأكلوا بعدنا، وعندك اكل كثير لهم.
بالطبع لم يستسغ كاكا حمه هذا الكلام وانذرهم بالخروج فامتنعوا وتعالى الصياح والهرج والمرج، ففقد الطباخ أعصابه وهجم على صواني الخرفان وقدور الرز والباميا والباذنجان، وأطاح بكل شيء على الارض، ثم القى الزبالة فوقه وراح يدوس بقندرته على كل شيء في حالة نادرة من الهستيريا، ثم ترك المطبخ وانصرف لبيته يولول:«خلي ملك مال انتو ياكل هوا!».
بعد دقائق قليلة حان موعد المأدبة الرسمية، ويا لهول الخبر!!!!
همسوا بأذن رئيس التشريفات الملكية بما حدث.
اسرع هذا يُخبر الامير عبد الاله بما جرى، وبعد قليل من التشاور السريع، لم يجد عبد الاله اي مخرج بغير الطلب من المرافقين بان يسرعوا الى المحلات الشعبية في باب المعظم وباب الشرقي والحيدرخانة ويأتوا بما توفر فيها من كباب وفشافيش وباجة وكبة فتاح…
مع ما تيسر من الطرشي والبصل والكرفس!!.
وجرت المأدبة الرسمية بهذا الشكل، وعندما انتهت لم يتمالك الضيف الكريم الرئيس جلال بايار غير ان يُعرب عن عميق اعجابه بما ذاق من فنون الطبخ العراقي!، الذي لم يسبق له ان ذاق مثله في اي مأدبة في العالم…
ومن ذاق فشافيش بغداد وكبابها وطرشيّها بعد منتصف الليل، وما سبقه من مشروبات، لا يستطيع غير ان يُثمّن ويُثني على ما قاله الرئيس التركي من صادق القول!!.
في اليوم التالي بعث ديوان التشريفات الملكية على (كاكا حمه) ليؤنبه على فعلته فأجابهم بما اشتهر به الاكراد من صراحة قائلا:
{بابا انتو لازم يعرف شالون يؤدب هازا العساكر مال انتو!!!}.
وكانت كلماته في رأيي خير ما قيل للحكومة العراقية من رأي، ولكنها مع الأسف لم تلتفت لها ولم تبادر الى تأديب عساكرها، فقاموا بعد اشهر قليلة بانقلاب 1958.……….وكانت أياما … وفاتت!!!