مير عقراوي / كاتب بالشؤون الإسلامية والكردستانية
بحسب متابعتي وآستقرائي لمختلف التفاسير القديمة والحديثة والمعاصرة حول الموضوع الإشكالي جداً لصلب نبي الله عيسى المسيح ورفعه إتضح لي إن الغالبية من المفسرين إعتمدوا بشكل كبير على تفسير الآيات القرآنية المتعلقة بعيسى بن مريم وصلبه ورفعه على الأحاديث والمرويات الحديثية . وفي حالة التأمل والتعمق في الآيات القرآنية ذات الصلة بموضوعنا يتضح التعارض والإضطراب ، بل التناقض بينهما كبيراً وكثيراً . وهذا لا يُعقل ، كما لا يصح ولا يجوز أن يتحدث القرآن الكريم عن موضوع محدد ومُعيَّن ، والروايات الحديثية تتحدث بتناقض وزيادات غريبة وعجيبة عن ذلكم الموضوع نفسه ، مع إنه ينبغي ومن المفترض أن يتطابق ويتوافق الحديث النبوي مع الآي القرآني تطابقاً وتوافقاً تاماً لا العكس بداهة ، لأن رسول الله محمد – عليه الصلاة والسلام – هو نبيه والمبلِّغ له وعنه وليس بوسعه ولا بإمكانه مطلقاً أن يقول شيئاً يتعارض معه وحاشاه من ذلك . لذلك قال السيد محمد رشيد رضا بعد تفسيره للآية الخامسة والخمسين من سورة آل عمران مُعلِّقاً على الذين فسروا الآيات القرآنية حول الآية المذكورة متأثرين بالروايات التي لا تصح ولا تتوافق مع الآي القرآني : [ هذا ما يفهمه القاريءُ الخالي الذهن من الروايات والأقوال ، لأنه هو المتبادر من العبارة ، وقد أيدناه بالشواهد من الآيات ] . يُنظر كتاب ( تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار ) بمؤلفه السيد محمد رشيد رضا ، ج 3 ، سورة آل عمران ، الآية 55 ، ص 261
ماورد هو أحد أبرز نقاط الضعف البارزة في تفسيرات الأقدمين والمحدثين بغالبية ، في تفسير الآيات القرآنية المتعلقة بمصير عيسى المسيح ، في أواخر أيامه التي عاشها في الدنيا . ما يُؤسفُ عليه إن تفسيراتهم تلك أضحت كمسلَّمات قطعية ويقينية لدى الغالبية الساحقة من المسلمين في العالم الإسلامي ، وذلك على رغم الأخطاء البارزة فيها . أما التفسيرات الحديثة وبمختلف المذاهب فإن غالبيتها أيضاً قد فسرت تلكم الآيات ذات الصلة بموضوعنا مثل المفسرين القدامى وعلى خُطاهم ونهجهم تقريباً ، وهذا بالحقيقة أمرٌ مؤسف كان المفترض عليهم أن يتجنبوها ، وأن لا يقعوا في نفس الأخطاء والتفسيرات والتأويلات التي تتناقض مباشرة مع القرآن في موضوع عيسى المسيح وآخر أيامه ، في إقامته مع قومه .
في الجزء الماضي قدمنا آراء وتفسيرات ثلاثة من كبار العلماء حول الموضوع ، وهم : إمام الأزهر الأسبق الشهير الشيخ محمود شلتوت ، وعلامة العراق شهاب الدين محمود الآلوسي وعلامة تونس الشيخ الطاهر بن عاشور . في هذا الجزء نقدم تفسير العلامة السيد محمد رشيد رضا . يقول السيد رشيد رضا في تفسيره المعروف ب( المنار ) ، في تفسيره لآيات سورة آل عمران المتعلقة بعيسى بن مريم حول موضوع هذا البحث :
[ { إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ ومُطهِّرُك من الذين كفروا } أي : مكر الله بهم ، إذ قال لنبيه إني متوفيك الخ ، فإن هذه بشارة بإنجاءه من مكرهم وجعل كيدهم في نحرهم قد تحققت ، ولم ينالوا منه ما كانوا يريدون بالمكر والحيلة . والتَوَفِّي في اللغة أخذ الشيء وافياً تاماً ، ومن ثم آستعمل بمعنى الإماتة ، قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } الزمر / 42 ، وقال : { قل : يتوفاكم مَلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بكم } السجدة / 11 . فالمتبادر في الآية ؛ إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيعٍ عندي ، كما قال في إدريس – عليه السلام – : { ورفعناه مكاناً عَلِيَّاً } مريم / 53 .
والله يضيف اليه ما يكون فيه الأبرار من عالم الغيب قبل البعث وبعده ، كما قال في الشهداء : { أحياءٌ عند ربهم } آل عمران / 169 ، وقال : { إن المتقين في جناتٍ ونَهَرٍ في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ } القمر / 54 . وأما تطهيره من الذيم كفروا ، فهو إنجاؤه مما كانوا يرمونه ، أو يرومونه منه ويريدون به من الشرٍّ . هذا ما يفهمه القاريءُ الخالي الذهن من الروايات والأقوال ، لأنه هو المتبادر من العبارة ، وقد أيدناه بالشواهد من الآيات ، ولكن المفسرين قد حوَّلوا الكلام عن ظاهره لينطبق على ما أعطتهم الروايات من كون عيسى رُفِعَ الى السماء بجسده . ] يُنظر المصدر المذكور والمؤلف والجزء والسورة ، الآية / 55 ، ص 260 – 261
حول مقطع الآية [ 55 ] من سورة آل عمران ذكر المفكر والعالم الإسلامي المعروف الدكتور عدنان إبراهيم تفسيراً قيِّماً ورائعاً لم أقرأه في تفسيرٍ سابقٍ ولاحقٍ ، وهذا ما يدل على سعة العلم والمعرفة والثقافة له وآطلاعه على سائر الأديان ودقته وعمقه في تناول الآيات القرآنية فَهْماً وتفسيراً وتوضيحاً مُيَسَّراً أيضاً ، فيقول : [ الذي أرتاح اليه جداً بفضل الله تبارك وتعالى أن المطهر هنا ، فيها إشارةٌ الى آعتقاد اليهود أن مَنْ يُوضَعُ ، مَنْ يُصلبُ على خشبة مُرتدٌّ ملعونٌ ، هذا نجسٌ وملعونٌ ، الله يقول : لا .. لن أسمحَ بأن يُوضَعَ يسوع عيسى على خشبة ، فقال : { وما قتلوه وما صلبوه } ] ! . يُنظر خطبة الدكتور عدنان إبراهيم بتاريخ 14 أبريل لعام 2012 حول موضوع الصلب والرفع لنبي الله عيسى المسيح – عليه الصلاة والسلام – ، في فيديو منشور .
بعدها ينقل الأستاذ الشيخ السيد محمد رشيد رضا رأي وتفسير أستاذه العلامة ومفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ محمد عبده ، فيقول : [ وهاك ما قاله الأستاذ الإمام في ذلك ؛ يقول بعض المفسرين { أني متوفيك } ، أي مُنَوِّمُكَ ، وبعضهم أني قابضك من الأرض بروحك وجسدك { ورافعك إليَّ } بيانٌ لهذا التَوَفِّي ، وبعضهم ؛ أني أنجيك من هؤلاء المعتدين فلا يتمكنون من قتلك ، وأُميتك حتف أنفك ، ثم أرفعك إليَّ ، نسب هذا القول الى الجمهور .
وقال : للعلماء ههنا طريقتان ؛ إحداهما وهي المشهورة ، أنه رُفِعَ حَيَّاً بجسمه وروحه ، وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ، ثم يتوفاه الله تعالى . ولهم في حياته الثانية على الأرض كلامٌ طويلٌ معروفٌ . وأجاب هؤلاء عما يُرَدُّ عليهم من مخالفة القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيباً ، أقول : وفاتَهم أن مخالفة الترتيب في الذِكْرِ للترتيب ، في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلاّ لنكتة ، ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع ، إذِ الرفعُ هو الأهمُّ لِمَا فيه من البشارة بالنجاة ورِفْعة المكانة . ] يُنظر كتاب ( تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار ] لمؤلفه السيد رشيد رضا ، ج 3 ، سورة آل عمران ، الآية 55 ، ص 261
بعدها يضيف الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا نقلاً عن أستاذه الإمام محمد عبده في تتمته للنقطة الثانية : [ قال ؛ والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها ، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر ، وهو الإماتةُ العاديةُ ، وإن الرفع يكون بعده ، وهو رفع الروح ولا بدع في إطلاق الخطاب على شخص وإرادة روحه ، فإن الروح هي حقيقة الإنسان والجسد كالثوب المستعار ، فإنه يزيد وينقص ويتغير . والإنسان إنسانٌ ، لأن روحه هِيَ هِيَ . قال ؛ ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول ، في آخر الزمان تخريجان ، أحدهما أنه حديث آحادٍ متعلِّقٍ بأمرٍ إعتقاديٍّ ، لأنه من أمور الغيب ، والأمور الإعتقادية لا يُؤخذ فيها إلاّ بالقطعيِّ ، لأن المطلوب فيها هو اليقين ، وليس في الباب حديثٌ متواترٌ . وثانيهما تأويل نزوله وحُكْمِهِ في الأرض بغلبة روحه وسِرِّ رسالته على الناس ، وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسِلْمِ والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها والتمسك بقشورها دون لُبابها . وهو حِكمتها وما شرعت لأجله ، فالمسيح – عليه السلام – لم يأت لليهود بشريعة جديدة ، ولكنه جاءهم بما يُزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى – عليه السلام – ، ويوقفهم على فقهها والمراد منها ، ويأمرهم بمراعاته . ] يُنظر المصدر المذكور والمؤلف والجزء والسورة والآية والصفحة .
تأسيساً على ما ذكره الأستاذ الإمام محمد عبده ، وكذلك غيره من العلماء لا يصح ، ولا يجوز الإعتماد على أحاديث الآحاد في قضايا الإيمان والإعتقاد ، لأنها أمور غيبية وهذه [ لا يُؤخذ إلاّ بالقطعيِّ ] ، والقطعيُّ المتيقِّن ليس إلاّ في كتاب الله تعالى ، وهو القرآن الكريم .
وحول الدجّال قال الأستاذ الإمام محمد عبد كما نقل عنه الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره : [ إن الدجال رمزٌ للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحِكَمها . وأن القرآن أعظم هادٍ الى هذه الحِكَمِ والأسرار وسنة رسول الله – عليه الصلاة والسلام – ] يُنظر المصدر المذكور والمؤلف والسورة والآية والصفحة .
إن الإعتماد على الأحاديث الضعيفة والمختلقة ، أو على الأحاديث الآحادية الجانب وصرف النظر عما آحتواه القرآن من تعاليم وقيم إجتماعية راقية وأحكام وحِكَمٍ ، وعدم إعمال الفكر والتفكير والعقل يكون عاملاً في تكريس الأمية الدينية والتعليمية والمعرفية والتخلف والإنحطاط الحضاري للمجتمعات ، وهذا ما نلمسه ونشاهده اليوم في مجتمعاتنا في العالم الإسلامي بكل وضوح . وهو كذلك عامل في تعزيز روح الإتكالية السلبية والتثبُّط والتكاسل بين الناس ، لأنهم بحسب ما تَلَقَّوْهُ ، وما لُقِّنوا به بآستمرار سوف ينزل ، أو سوف يخرج ويظهر في قادمات الأيام ، وإن طالت قروناً ، بل وإن طالت دهوراً الى آلاف السنين شخصٌ مُتمكِّنٌ يقوم بتعديل الأمور وردِّ المظالم كلها ، وسوف يقوم هذا الشخص الخارق للخوارق والزمان والمكان ، وصاحب القدرة الكليَّة المافوقية الكن – فيكونية بإحقاق الحق ، وإقامة العدل المطلق المفقود الذي حرم منه الناس في العالم بأجمعه طيلة حياتهم ، وطيلة الأجيال والحقب الغابرة والماضية . وهذا ما يتناقض مع القرآن الكريم والسنن الربانية في الكون ، حيث الكون كله ، وما فيه وما عليه يسير ويجري وفق معادلاتها وقواعدها ، مع تناقضه والعقل الإنساني .