من ذاكرة التاريخ
24/9/2018
في صباح يوم الخامس من نيسان 1939 فوجئ الشعب العراقي بصدور بيان رسمي صادر عن الحكومة نقلته إذاعة بغداد جاء فيه:
{ بمزيد من الحزن والألم ، ينعي مجلس الوزراء إلى الأمة العراقية، انتقال المغفور له سيد شباب البلاد جلالة الملك غازي الأول إلى جوار ربه، على اثر اصطدام السيارة التي كان يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع في منحدر قنطرة [نهر الخر]، بالقرب من [قصر الحارثية]، في الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة أمس، وفي الوقت الذي يقدم فيه التعازي الخالصة إلى العائلة المالكة على هذه الكارثة العظمى التي حلت بالبلاد، يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ للمملكة نجله الأوحد جلالة الملك فيصل الثاني، ويلهم الشعب العراقي الكريم الصبر الجميل وإننا إلى الله وإننا إليه راجعون }. (1)
بغداد في 4 نيسان 1939
لم يكد خبر مقتل الملك غازي يصل إلى أسماع الشعب حتى هبت الجماهير الغاضبة في مظاهرات صاخبة اتجهت نحو السفارة البريطانية، وهتافات التنديد بالإمبريالية البريطانية وعميلها نوري السعيد تشق عنان السماء، وامتدت المظاهرات الشعبية الهادرة إلى سائر المدن العراقية من أقصاه إلى أقصاه، وظهرت المنشورات التي وزعتها الجماهير، والتي تقول أن الملك لم يصطدم بالسيارة كما تدعي حكومة نوري السعيد، وإنما قتل بعملية اغتيال دبرتها الإمبريالية البريطانية وعملائها، وعلى رأسهم نوري السعيد بالذات، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري السعيد في تلك اللحظات لفتكت فيه ومزقته إرباً، ولذلك فقد هرب نوري السعيد بعد إتمام مراسيم دفن الملك غازي في المقبرة الملكية في الأعظمية، حيث استقل زورقاً بخارياً من المقبرة إلى داره في جانب الكرخ .
حاول الإنكليز إبعاد التهمة عنهم، وادعوا أن الدعاية الألمانية هي التي تروج مثل هذه الدعاية ضد بريطانيا، كما ادعوا أن موظفي السفارة الألمانية، والأساتذة الجامعيين هم الذين يحرضون جماهير الشعب ضد بريطانيا، وضد حكومة نوري السعيد .
كان رد فعل الجماهير الشعبية في الموصل شديداً جداً، حيث خرجت مظاهرة ضخمة وتوجهت نحو القنصلية البريطانية وهاجمتها، وقتلت القنصل البريطاني في الموصل المستر [ مونك ميسن ]، وكانت الجماهير تهتف بسقوط الاستعمار البريطاني، وحكومة نوري السعيد العميلة.
لكن ما يؤسف له هو مهاجمة الحي اليهودي في بغداد ووقوع عمليات النهب وحرق مساكن اليهود. وقد استغل نوري السعيد الأحكام العرفية التي كانت قد أعلنت في البلاد قبل شهر من مقتل الملك، وقام بنشر أعداد كثيفة من قوات الشرطة لقمع المظاهرات، وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين .
ولتغطية جريمة الاغتيال سارعت حكومة نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي يتضمن تقريراً طبياً صادرأً عن هيئة من الأطباء عن سبب وفاة الملك غازي، وجاء في البيان ما يلي :
{ ننعي بمزيد من الأسف وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول ، في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين من ليلة 3 / 4 نيسان 1939 ، متأثراً من كسر شديد للغاية في عظام الجمجمة، وتمزق واسع في المخ، وقد حصلت هذه الجروح نتيجة أصطدم سيارة صاحب الجلالة، عندما كان يسوقها بنفسه، بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور، في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، وفقد الملك شعوره مباشرة بعد الاصطدام، ولم يسترجع الملك وعيه حتى اللحظة الأخيرة}. (2)
3/4 نيسان 1939
د . جلال حمدي د . صبيح وهبي د . صائب شوكت د .إبراهام د .سندرسن
وعلى اثر إعلان وفاة الملك غازي، تولى مجلس الوزراء حقوق الملك الدستورية، وفقاً للمادة 22 من الدستور، وجرى الإعلان عن تولى الملك فيصل الثاني الملك، على أن يسمى وصياً عليه، نظراً لصغر سنه، بعد دعوة مجلس النواب الذي سبق أن صدرت الإرادة الملكية بحله، وقرر مجلس الوزراء تعين الأمير عبد الإله وصياً على العرش، وادعى نوري السعيد أن ذلك القرار كان بموجب وصية الملك غازي نفسه، غير أنه لم يثبت أن هناك أي وصية من هذا القبيل، وكان معروفاً آنذاك أن الملك غازي كان يكره عبد الإله كرهاً شديداً، ولذلك فلا يعقل أن يوصي بالوصاية لعبد الإله، ويأتمنه على طفله، كما أن الملك غازي كان حسبما ورد في التقرير الطبي قد فقد شعوره فوراً ولم يسترجعه حتى وفاته. والحقيقة أن وصاية عبد الإله قد رتبت من قبل السفارة البريطانية
وحكومة نوري السعيد .(3)
كما أن أحداً لم يقتنع بما أذاعته الحكومة عن اصطدام سيارة الملك ومقتله في الحادث، وهناك شواهد عديدة على أن الملك قد قتل نتيجة تدبير مؤامرة حبكتها السفارة البريطانية، وجرى تنفيذها من قبل نوري السعيد وعبد الإله، وأهم الشواهد على ذلك ما يلي:
1ـ قبل مقتل الملك بتسعة أشهر، وبالتحديد في 18 حزيران 1938، وُجد خادم الملك غازي الشخصي مقتولاً داخل القصر، وجاء تقرير خبير التحريات الجنائية البريطاني أن القتل كان نتيجة إطلاق النار بالصدفة من مسدس القتيل نفسه !!.
سبّب قتل الخادم رعباً في نفس الملك غازي لازمه لأيام، وبدأت الشكوك تنتابه حول مؤامرة لقتله فيما بعد، وكان شكّ الملك يحوم حول عبد الإله ونوري السعيد، وزوجته الملكة عالية ـ شقيقة عبد الإله ـ المنفصل عنها بصورة غير رسمية، وكانت تضمر له الكراهية والحقد.(4)
2 ـ إن أي حادث لسيارة يؤدي إلى الوفاة، لابد أن تكون إصابة السيارة شديدة وكبيرة، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد كانت الأضرار التي لحقت بالسيارة طفيفة جداً، وهذا ما أثار الشكوك حول حقيقة مقتل الملك.
3 ـ كان بمعية الملك في السيارة، كل من خادمه، شقيق الخادم السابق القتيل، وعامل اللاسلكي، جالسين في المقعد الخلفي بالسيارة، ولكنهما اختفيا في ظروف غامضة، ولم يعرف أحد عن مصيرهما نهائياً، وقد أثارت عملية اختفائهما شكوكاً كبيرة حول مقتل الملك، وحول صدقيه حادث الاصطدام، واستمرت تلك الشكوك تحوم حول عبد الإله ونوري السعيد والسفارة البريطانية.
يقول الفريق نور الدين محمود، الذي شغل منصب رئيس أركان الجيش، ثم رئيساً للوزراء عام 1952، حول حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
{أنه اصطدام غامض وعويص، لا يسع الإنسان مهما كان بسيطاً في ملاحظته إلا أن يكذّب زعم الحكومة وهو يقارنه بالأدلة التي يراها في مكان الحادث }. (5)
أما العقيد صلاح الدين الصباغ، أحد قادة الجيش، فيقول في مذكراته :
{ قضت المصالح البريطانية اغتيال الملك غازي، فتم في ليلة 3 / 4 نيسان 1939 وهو في السابعة والعشرين من عمره }. (6)
ويقول الأستاذ [ جان ولف ] في كتابه [ يقظة العالم العربي ] :
{ مات الملك غازي على أثر حادث غريب، فقد اصطدمت سيارته دون ما سبب وجيه، بينما كان يقودها بسرعة معقولة، فتعالى الهمس في بغداد متهماً بعض الجهات بتدبير الحادث }. (7)
وقال الأستاذ [كارتاكوز ] في كتابه [ ثورة العراق ] ما يلي :
{ لعل مأثرة الملك غازي الرئيسية انه قد لاقى حتفه بشكل عنيف، في حادث سيارة يعتقد أن البريطانيين وأعوانهم من العراقيين هم الذين فعلوه } .(8)
وجاء الدليل القاطع بعد سنوات طويلة، عندما التقى الأستاذ عبد الرزاق الحسني مؤلف تاريخ الوزارات العراقية، في 8 نيسان ، 1975 بالدكتور [صائب شوكت] طبيب الملك غازي الخاص، وأول من قام بفحصه قبل وفاته، وسأله عن حقيقة مقتله فأجابه بما يلي:
{ كنت أول من فحص الملك غازي بناء على طلب السيدين [ نوري السعيد ] و [رستم حيدر] لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري أن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء، وأنا أعتقد أنه قد قتل نتيجة ضربة على أم رأسه بقضيب حديدي بشدة وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر، والذي كان معه في السيارة لتنفيذ عملية الاغتيال، فقد جيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصاباً بخلع في ذراعه، وقمت بإعادة الذراع إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفي الخادم ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك اليوم وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى يومنا هذا . (9)
كما التقى السيد عبد الرزاق الحسني بالسيد [ ناجي شوكت ] الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك وسأله عن حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
{ لقد احتفظت بسر دفين لسنين طويلة، وها قد جاء الآن الوقت لإفشائه، كانت آثار البشر والمسرة طافحة على وجوه نوري السعيد، ورستم حيدر، ورشيد عالي الكيلاني، وطه الهاشمي، بعد أن تأكدوا من وفاة الملك، وكان هؤلاء الأربعة قد تضرروا من انقلاب بكر صدقي، واتهموا الملك غازي بأنه كان على علم بالانقلاب، وأنا أعتقد أن لعبد الإله ونوري السعيد مساهمة فعلية في فاجعة الملك غازي }. (10)
وهكذا أسدل الستار على مقتل الملك غازي، وتم نقل جثمانه إلى المقبرة الملكية في الاعظمية، في الساعة الثامنة من صباح يوم الخامس من نيسان على عربة مدفع، وسط موجة من الهياج اجتاحت جماهير بغداد الغاضبة، والمنددة بالاستعمار البريطاني وأعوانه القتلة. وانهمك المتآمرون بعد دفنه بترتيب الأمور لتنصيب عبد الإله وصياً على العرش .
كان مقتل الملك غازي هو الجانب الأول من مؤامرة نوري السعيد وأسياده الإنكليز، وكان الجانب الثاني يتمثل بتنصيب عبد الإله وصياً على العرش، وولياً للعهد . ومنذ الساعات الأولى لمقتل الملك غازي عمل نوري السعيد جاهداً ليقنع مجلسا النواب والأعيان والشعب العراق بما ادعاه بوصية مزعومة للملك غازي بتكليف عبد الإله بالوصاية على العرش فيما إذا حصل له أي مكروه له.
إلا أن[ طه الهاشمي] قال في مذكراته: {أن الوصية التي عزاها نوري السعيد إلى الملك غازي كانت مزيفة دون شك } . (11)
أما وزير الدولة السيد [ علي الشرقي ] فيقول في كتابه [ الأحلام ] ما يلي :
{ أوعز نوري السعيد إلى الملكة عالية أن ترفع كتاباً إلى مجلس الوزراء المنعقد للنظر في إقامة وصي على العرش تشهد فيه أن الملك غازي قد أوصاها أن يكون عبد الإله وصياً على العرش إذا ما حدث له أي مكره }. (12)
وقال السفير البريطاني [ سندرسن ] في كتابه [Both Side of Curtain]:
{ كان معروفاً أيضاً أن الإنكليز كانوا يميلون إلى عبد الإله ، أكثر من ميلهم إلى الملك غازي }.(13)
ويقول الدكتور [ صائب شوكت ] طبيب الملك غازي الخاص ما يلي :.
إنه عندما تأكد من وفاة الملك غازي كان عبد الإله وتحسين قدري بالقرب مني حيث دنا تحسين قدري مني، وهمس في آذني أن الأمير عبد الإله يرجوك بأن تقول بأن الملك أوصاك قبل وفاته بأن يكون عبد الإله وصياً على ولده الصغير فيصل، ولكني رفضت ذلك رفضاً قاطعاً، وقائلاً له : إن الملك غازي كان قد فقد وعيه فور وقوع الحادث وحتى وفاته }.(14)
ويقول طبيب الملك البريطاني [ سندرسن ] في كتابه [Thousand and One Night] حول مقتل الملك: { في خلال 20 دقيقة من وفاة الملك غازي، طلب إليّ رستم حيدر أن أعلن أن الملك غازي، وقبل أن يموت قد عّبر عن رغبته بأن يتولى عبد الإله السلطة كوصي على العرش، غير أني رفضت أن أفعل ذلك، لأن الملك لم يستعيد وعيه لحظة واحدة، وحتى لو ارتكبت جريمة مثل هذا الإدعاء الكاذب، فلابد أن يكون هناك الكثير من المستعدين لتكذيبه}. (15)
ورغم كل ذلك فقد اجتمع مجلس الوزراء، واتخذ قراره بتولي عبد الإله الوصاية على العرش، وولاية العهد، ودعا نوري السعيد مجلسا النواب[المنحل] ومجلس الأعيان إلى عقد جلسة مشتركة في يوم الخميس المصادف 6 نيسان 1939 وكان عدد الحاضرين 122 عضواً فقط من مجموع المجلسين، وكلهم من مؤيدي نوري السعيد، حيث قاطع الجلسة عدد كبير من النواب والأعيان، لكي لا يكونوا شاهدي زور على جريمة الاغتيال، وقد عرض عليهم نوري السعيد قرار مجلس الوزراء، وتمت الموافقة عليه بإجماع الحاضرين، وبذلك تم تنصيب عبد الإله وصياً على العرش.
المراجع :
(1) تاريخ الوزارات العراقية – الجزء الخامس – عبد الرزاق الحسني ـ ص 77
(2) المصدر السابق ـ ج5 ـ ص 78
(3) المصدر السابق ـ ج5 ـ ص 76 .
(4) نفس المصدر ـ ص 79 .
(5) نفس المصدر ـ ص 87 .
(6) فرسان العروبة ـ صلاح الدين الصباغ ـ ص 87 .
(7) يقظة العالم العربي ـ جان وولف ـ ص 120 .
(8) ثورة العراق ـ كارتاكوز ـ ص 32 .
(9) حديث الدكتور صائب شوكت مع الحسني في 8 نيسان 1975
(10) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ ج5 ـ ص81
(11) مذكرات طه الهاشمي ـ ص 241 .
(12) علي الشرقي ـ كتاب الأحلام ـ ص 170
(13) تاريخ الوزارات العراقية ـ عبد الرزاق الحسني الحسني ـ ج 5 ـ 79
(13) نفس المصدر السابق .
(14) نفس المصدر السابق ـ ص 90 .
(15) نفس المصدر السابق .