لم يترك الرومان مدينة إلا وبنوا فيها شوامخ تدل على حضارتهم ومدنيتهم، عندما كانت “كلّ الطرق تؤدي إلى روما”. وفي (شنكال) لا يزال هناك السور الروماني الواقع في الجهة الغربية منها، عاليا يتحدى نوائب الزمن. وكان عادتنا ونحن صغار أن نلعب حواليه لعبتنا المفضلة (عسكر وحرامية)، الأكبر والأقوى والأشرس بيننا يكون آمر العسكر وقائدهم وهو يختار الحرامية، والغريب في نهاية اللعبة عندما كان يلقى القبض على الحرامية وينالون جزاءهم من تعنيف في الكلام والسخرية والركلات على مؤخراتهم، بعد كل ذاك الهرج والمرج كنا جميعا نتفق على اللعب مجددا يوم غد.
عادة نربط اللعب بالأطفال، ونلعب نحن الكبار.
منذ قرون نلعب معا، نلعب لعبتهم المفضلة (عسكر وحرامية)، ودائما كانوا همّ العسكر ونحن الحرامية. ودائما كانوا يطاردوننا، فهم العسكر. يقتلوننا؛ لأنهم العسكر. يأسروننا، فما نحن إلا حرامية. يغتصبوننا؛ لأننا وافقنا أن نقوم بدور الحرامية.
وإن كان أن نحدد تاريخا لذلك، فسنقول: منذ الفرمان الأول وهمّ يلعبون دور العسكر ولم يمّلوا من دورهم، ولم نتعب نحن من دور الحرامية.
قبل أكثر من خمسين عام قيل مرّة للعمّ (داود الداود) سنبني لك (ديوانا) هنا، فأستفسر منهم متسائلا:
“وما هو هذا الديوان”؟ فقالوا له:
“رَبعة تجلس في صدرها، ونجتمع حولك”. فرّد عليهم:
“هذا العمل بعيد عن الأيمان؛ لأننا سنتمسك بالبيوت ونطمع فيما نملكه من أملاك وما تقدمه لنا من مأوى ودفء وطمأنينة بدلا عن خيمنا وكهوفنا وبقائنا في العراء، وشيئا فشيئا ستقل رغبتنا في القتال والدفاع عمّا نؤمن به. ولكنكم ستفعلون ما في بالكم على أيّة حال، ستبنون الديوان وبعد ذلك ستبنون بيوتا لكم حواليها أيضا”. وفعلا هذا الذي حصل فبعد أن كنا (بطرك) السيف والخنجر أو البندقية لمن كان يملك واحدة حتى لو كانت (ششخانة)، ونفترش العشب ليلا ونلتحف السماء جوابا على سؤال فيروز الصباحي في أغنيتها المشهورة، أصبحت لدينا بيوتا وأملاكا، وبتنا نخاف على نهبها وهدمها أو حرقها. وقد يكون هذا رأيا صادما لبعضكم ولكن تحققت نبوءة العمّ الحكيم (داود الداود) بطريقة ما ساعة مجزرة (كوجو) في الخامس عشر من آب 2014، رغم عدم أنكارنا وحشية الفعل.
اللعبة الحقيقية بدأت في عام 1920 عندما ولدت المملكة العراقية، فقد أعطوا لعبة للبعض الذي يجيد اللعب بطريقتهم، وكانت عبارة عن أراضي زراعية، فعرفنا كما غيرنا الإقطاعيين لأول مرة وتعرفنا عليهم فكانوا من أبناء عمومتنا بالأمس ونتقاسم اللقمة واليوم باتوا يمنعون عنا الخبز، فكرهنا بعضنا واستمرت لعبة البغض.
واللعبة الثانية كانت السماح ببناء البيوت للبعض الذي يجيد السكوت.
وزراعة التين والتتن في أعالي الجبل للبعض الذي يجيد الهروب.
وأصفر رنان للمخاتير.
وبدأنا نلعب مع بعضنا، ولم نفهم قواعد اللعبة الجديدة. ولم نفهم تلك الألعاب المثيرة التي تسيل لها اللعاب، فلعبنا مع بعضنا وأحيانا لأشواط إضافية عديدة حتى تعبنا، والخاسر دائما كنا نحن.
ولعبة القط والفأر الحديثة بيننا وبين الحكومة بدأت في عام 1975 بترحيلنا الإجباري. تركنا القرى والماء الجاري والبساتين والهواء العليل وانحدرنا نحو أطراف صحراء الجزيرة، وربمّا لذلك سمّي مجمّعنا بمجمّع (الجزيرة) فهو آخر معقل غربا للأيزيديين الشنكاليين.
وكان يُلعب بنا بعد أن تعبنا من اللعب مع بعضنا، وإلى أن انتهت اللعبة، The Game is over قالها سفير العراق في الأمم المتحدة في 2003.
ولكن اللعب لا ينتهي أبدا. ففي آخر جزء من سلسلة أفلام الرعب تشاكي Chucky حيث كانت تعرض هذه السلسلة في سينما غرناطة في شارع الدواسة بالموصل عندما كانت المتعة الحقيقية هي تناول الباسطرمة الموصلية بالبيض أو الطماطة ثم الدخول لمشاهدة الفلم وعندما ماتت اللعبتان قتلا ـ البطل والبطلة ـ أنجبت البطلة في آخر اللحظات لعبة صغيرة جديدة وملأت الشاشة نظرات رعب قبل أن تنزل عبارة النهاية!
وكنا راضين باللعب وبالضحك على ذقوننا لأننا كنا على ثقة بأننا في الوقت الذي نرغب فيه نقدر على تجاوز اللعب وقلبه لصالحنا لذلك عندما قيل للحكيم القيراني العمّ (ميشو) في بداية السبعينات بأن مدارسنا ستكون باللغة الكردية وحكومة (شنكال) ستكون كردية قال: “ذلك ما نرغب فيه فلساننا كردي) وبعد أن خسرت الحركة الكردية المعركة وتراجع المدّ الكردي من (شنكال) وجاءت العروبة قيل للعمّ (ميشو) من الآن فصاعدا كلّ شيء سيكون عربيا، فقال: ” وما الضير في ذلك فحكومتنا المركزية في بغداد هي عربية”. وكان يكرر قوله بما معناه: (كل شيء سيكون على ما يرام مادامت الفرمانات بعيدة عنّا).
وذهب الحكيم (ميشو) وجاء الحاكم بريمر وجاءت معه الفرمانات فقد أدخلوها كلعبة جديدة ـ قديمة في حواسيبهم ويكون التحكم بها من بعيد في واشنطن فيبدو اليوم إن جميع الطرق تبدأ منها، ومن ضمن قواعد اللعبة الجديدة الضحك على ذقوننا بترشيحنا لنيل جوائز عالمية لا نعرف نشكر مَن عند الفوز بها.
*******