العديد منا كان ولا يزال فقيرا. معدماً، وقد ابتلى إضافة لفقره أمراضا لا يجد في دنياه علاجا لها، وإذا تعاظم الداء، وأيقن الأقارب والأصدقاء وربمّا بعض الجيران أيضا بانك ميت لا محالة، عندها سيجمعون لك بعض الدراهم لتعالج أوجاعك في دهوك أو أربيل، وإن كنت محظوظا وعزيز عشيرتك سيرسلونك إلى إيران أو تركيا ـ ولا أدري متى كان أطباء إيران أو تركيا أفضل من الأطباء العراقيين وربع أطباء لندن هم عراقيين ـ وبهذه المناسبة الأليمة أحيلكم إلى الأغنية الهندية الكلاسيكية (يي زمانا خرابهى) بالتأكيد علاج أطباء شنكال وعياداتهم لم تعد تنفعك، ولكيلا تصبح عائلتك علكا في فم الناس سيرسلونك إلى مدينة ما. ستذهب ربمّا لليلة واحدة، وإذا توفاك الله، وتوكلت عليه سيستغرب الجميع! وسيقولون وهم يضربون كفا بكف: كيف مات وقد عولج عند أشهَر أطباء تلك المدينة. وطبعا الكلمة الأخيرة بحقك ستكون (حسنا فعل ـ يمعوّد خطيّة ـ لقد أراح واستراح).
وأيضا قد ينال الفقير حظّه من الجنون؛ لكثرة مشاكله الاجتماعية المتوارثة والمكتسبة والتي لا يجد لها حلا أو مخرجا الا الجنون. وقد يكون مؤقتا أو دائميا فهي عبارة عن خطوة واحدة يخطوها المرء وبعدها يشعر بانه قد تخلص من جميع مشاكله دفعة واحدة، فإذا كان عاقرا أخبرك بأن زوجته تلد كلّ شهر توأما وإذا كان فقيرا عدّ لك مصانعه وعقاراته في الداخل والخارج وان الدعاء المستجاب هو: يا رب ارزقني وارزق مني. وإن طلبت منه مليون دينار سيعطيك المبلغ برحابة صدر، ولكن فقط ريثما يعود إلى مكتبه، أو سيقول لك إن سكرتيرته المهملة نسيت المفاتيح معها كالعادة. ومهما كانت أسباب آلامه وتعاسته تراه سعيدا بل أكثر سعادة من سلطان بروناي ويحسده الناس على النعمة التي فيها، وربما حتى طبيبه الاختصاصي الذي يعالجه إن كان يراجع طبيبا أصلا.
وهناك نوع آخر من الفقراء المساكين، يضطر للجوء إلى الأحلام والتخيّل ليحلّ مشاكله ويتغلب على أعدائه، وينال ما يتمناه من جاه ومال ويتزوج من يحبها حتى لو كانت جميلة بوليوود والعالم إيشواريا راي، فلا شيء يقف بينه وبين تحقيق رغباته وقد أبدع الكاتب المصري وحيد حامد في تناول هذا الجانب النفسي المهم في فلم (المنسي) من بطولة النجم عادل أمام الذي يؤدي دوره ببراعة.
وليلة بعد ليلة والحال على ما هو عليه ويتعوّد المكرود على الأحلام فلا يرى فرقا واضحا بين ما يراه في المنام، وما يعيشه في الواقع فيختلط عنده كلّ شيء، وقد ترى البعض لا يصبر قدوم الليل فيحلم نهارا؛ ليشبع رغباته المتنامية يوما بعد آخر فعندما تراه جالسا لوحده. منطويا على نفسه فاعلم انه يتخيل ما في داخله من رغبات مكتومة وربما تطور الأمر وتكلم بصوت عالي أو حرك يديه في الهواء وقد يهدّد ويعرّبد، فلا تخف إنما المسكين مندمج مع المشهد ليس إلا.
ولا شك إن البعض منا يلجأ إلى المشعوذين والدجالين والفوّالين ـ بالفاء ـ وطبعا جميعهم محتالون والغريب قد ينفعهم الإيحاء نفسيا بأنهم أصبحوا أفضل حالا فينال المشعوذ شهرة لا على البال ولا على الخاطر. ونسمع بين فترة وأخرى عن ورود اسم ما على ألسنة الناس وقد أصبح (كوجكا) تزوره الناس أفواجا من كل قرى شنكال، كما حصل مع أحدهم في (سيباى) فكان يزعم بأنه يعالج كافة أمراض القلب والشرايين وينصح مراجعيه بالكفّ عن تناول الأدوية والرجوع إلى ضرب التشريب واللحم الأحمر إلى أن مات عدد من المرضى نتيجة نصائحه أولا وافتقارهم للثقافة الصحية ثانيا. وقد يذهب البعض لزيارة الملالي والسادة، وأغلب الظن لو فتحت الحجاب المعمول لأحدهم عند (سيّد) ما سوف تقرأ عبارة: “أكل العدس في الشتاء طيب”. وبالتأكيد يؤدي ذلك إلى اتخاذ عقائد تخدر عقولنا ويدفع ثمنه الجيل الجديد أيضا بل يكون الضرر عليه أكبر عندما يترعرع في جو مليء بالعقائد التافهة والسخيفة وبرأي يجب أن تدرس هذه الظواهر السلبية في مجتمعنا ولا بأس إن تم البدء بها من لالش المزار بمشاركة ومباركة رجال الدين لتكون حملة اجتماعية هدفها رفع شأن هذا المجتمع الراقي أكثر وعدم الانجرار خلف الثقافة الاجتماعية للجيران.
والطامة الكبرى والعقدة التي لا حلّ لها عند بعض المساكين من فقراء شنكال هو المتعفف المتكبر، ففي عزّ الشتاء تراه لابسا (تي شيرت) وأن سألته عن سرّه هفهف بيده وقال لك: “الجو حار”، أو قد يكون منتعلا (طراكا) أو شحاطة في موسم الأمطار وان تعجبت منه قال: “إنما السبب حساسيته من الأحذية” يستنكف ويخجل من قوله لا أملك ثمن الملابس أو الأحذية فيقوم بمناورة خاسرة يكسب مع الزمن عادات سلبية تتغلل في النفس ولا يمكن التخلص منها مستقبلا.
وقد تلتقي بصنف آخر من المحتاجين وهو يطرق بابك يستجدي ما خفّ حمله وغلا ثمنه وتراه مستأنسا غير مبال ألا بالشوارع والقرى والمخيمات التي يجوبها. ضيف على كلّ وليمة ويدعو نفسه بنفسه إلى الأعراس والمناسبات، ومعزّي في كلّ عزاء، وطبعا معه كلّ الحق فحياة التسكع والصعلكة والكدية ممتعة للذي يمتهنها، وكم ضحكنا وبادرنا إلى سؤال المتسوّل إن كان بحاجة إلى شريك في مهنته او رفيق يشاركه متعته، فينظر إلينا شرزا ثم يطلق ساقيه للريح خوفا على الدنانير في جيبه.
أما النوع العقلاني أو الواقعي البسيط وهو الأغلب عادة ويقرّ بحاجته للآخرين على أساس أن الأحجار تسند بعضها البعض صغيرها وكبيرها ويدعم كلامه وحكايته ومسألة فقره بأمثال وأقوال يستحوذ على انتباهنا سواء تلقى مساعدة أم لا لأنه لا يخجل من بيان حقيقته لذا تراه معلقا آماله بأمل تغيير حظه يوما ما فهو راضي وقانع وصبور ومكافح؛ لأنه يفعل ما عليه أن يفعله ويؤدي واجباته الاجتماعية والدينية على أكمل وجه. والبقية على الله حسب قناعته التي لا يتنازل عنها مهما حدث، فهو من مناصري المثل السائر: “قم، وسأكون معك”.
*******