أن مفهوم الأزمة من المفاهيم الواسعة الانتشار في مجتمعاتنا المعاصرة، ويمس كل جوانب الحياة بدءاً من الأزمات الفردية، وانتهاء بالأزمات الدولية، كما أن عالم الأزمات عالم حي ومتفاعل له خصائصه و أسبابه ومكوناته. كما يعد مفهوم الأزمة واحدا من المفاهيم التي يصعب تحديدها لشموليته واتساع نطاق استعماله، ليشمل مختلف صور العلاقات الإنسانية السلبية في كافة مجالات التعامل، وعلى قدر مستوياته، وعادة ما ترتبط الأزمة بالإحساس بالخطر والتوتر وأهمية عنصر الوقت اللازم لاتخاذ قرارات وإجراءات المواجهة. نشأ مفهوم الأزمة في نطاق العلوم الطبية، ثم انتقل بعد ذلك بمعان مختلفة إلى العلوم الإنسانية، وخاصة علم السياسة، والإدارة، وعلم النفس…الخ.
ومفهوم الأزمة في العلوم النفسية عبارة عن ضغوط نفسية داخلية أو تغير الحالة النفسية للفرد، وبالتالي تمثل مشكلة أو صعوبات تحد من أساليبه وقدراته التقليدية للتعامل مع الوضع الجديد وتعيقه من أنجاز أهدافه وتحدث خللا في التوازن النفسي والاجتماعي للفرد، كما تعد موقف أو حادثة غير مرغوبة تؤدي إلى تعطيل الفرد أو الجماعة عن القيام بدورهم بصورة طبيعية. وقد حرص علم النفس على دراسة الآثار النفسية للازمة، والتي قد تتخذ أشكالا متنوعة(كالارتباك، والصدمة، والقلق، والتوتر، وعدم التوازن) وغالبا ما تسبب ارتباكا كبيرا للناس في حياتهم وأساليب تكيفهم مع الضغوط، وعادة ما تثير مشاعر الخوف وتوتر العلاقات المستقرة. أما الأزمة من الناحية الاجتماعية عبارة عن توقف الأحداث المنظمة والمتوقعة واضطراب العادات مما يستلزم التغير السريع لإعادة التوازن وتكوين عادات جديدة أكثر ملائمة.
أزمة كورونا في السياق هي ازمة مركبة ومعقدة وذات ابعاد نفسية واجتماعية واقتصادية خطيرة ضربت المجتمع العالمي دون استثناء, وبعد ان تجاوزت الأصابات بكورونا الثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف حول العالم وتقترب الوفيات من 235 ألف, فأن الشهور القادمة لا تبدو مشرقة للعالم، وستكون هناك تداعيات سياسية واجتماعية أكثر خطورة من التداعيات الصحية والاقتصادية, وخاصة في ظل القصور العلمي الحالي في المعرفة الدقيقة للفيروس وميكانزم عمله وطريقة انتشاره ومن هم المستهدفين بهذا الفيروس, وماهي ظروف وملابسات فاشية هذا الفيروس. ولكن هذا ليست مدعاة لليأس والحزن, فالتراكم المعرفي في العلوم الطبية أمر لايستهان به ولا هو مزحة عابرة والبشرية سبق لها وأن مرت بجائحات عدة كانت نهايتها العثور على لقاح مناسب يعيد انطلاق المجتمعات الأنسانية من جديد في خضم صراعها من اجل البقاء.
انطلاقا من آثار الجائحة كورونا (كوفيد 19) فأنها زلزال مدمرا ضرب العالم اجمع وأودع الملايين في المنازل وقد اغلقت المدارس والجامعات وتقيدت الحريات التقليدية المعتادة وعم الاحساس بالضياع والوحدة والقلق، ولم يفرق بين أسود وأبيض وأحمر، وبين مسلم ومسيحي وهندوسي وملحد، وبين قوي وضعيف، او ثري وفقير, فقد توزعت اضراره على البشر أجمعين بعدالة السماء أو عقاب الطبيعة. وخطر هذه الجائحة لا يتوقف عند أضرارها الصحية، بل أن خطرها الحقيقي هو التسونامي الكبير المرافق لها: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا والذي يبدو ان ملامحه النهائية غير واضحة في الوقت الحاضر؛ لأنها تتوقف في محصلتها النهائية على مدة استمرار الجائحة، وعدد المصابين والهالكين بسببها، فكما تذكر معظم التقارير الصحية الواردة من منظمة الصحة العالمية والمؤسسات ذات العلاقة ان العالم لازال بعيدا عن إيجاد لقاح نهائي للفايروس، ولا زال الكثير من البشر في انتظار الإصابة به.
ولكي نضع الوباء كورونا( كوفيد ـ 19) في خلفية المقارنة بما حصل من وباءات وامراض مزمنة قد يضعنا في صورة من الهدوء النفسي المؤقت وخلق قناعة نفسية عقلية مستمدة من مما سبق للبشرية من اوجاع وآلام وضحايا قد تضع كورنا وحجم المعانات منها في اطارها المعقول والسليم بعيدا عن الأستخفاف بحجم الضحايا, ولكن ذلك سيضعنا في اطار القبول التاريخي للفجائع المختلفة في اطار التفاؤل المقبول للصراعات الطبيعية التلقائية الى جانب العبث في الطبيعة وسوء استخدامها من قبل المجتمعات العالمية. وهنا سنشير ” كما ترده الأدبيات العالمية والعربية” الى حجم الأنتشار والوفيات في مختلف الاوبئة للقرن الحالي والماضي:
الجدري 1901: أدى وباء الجدري في بوسطن إلى إصابة 1500 شخص، ووقعت 270 حالة وفاة.
الطاعون 1910: حدثت أكبر حالات تفشي الطاعون في القرن العشرين في منشوريا بين عامي 1910 و1911، ومات حوالي 60.000 شخص.
وباء الإنفلونزا الكبير 1918: تشير التقديرات إلى أن وباء الإنفلونزا الكبير، الذي حدث في عامي 1918 و1919، قد تسبب في وفاة ما بين 50إلى 100 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، من بينهم 675،000 أمريكي.
شلل الأطفال 1952: بلغ شلل الأطفال ذروته في الولايات المتحدة؛ حيث أصيب ما يقرب من 60.000 طفل وتوفي أكثر من .3000
فيروس نقص المناعة البشري 1984: في هذا العام حدد العلماء أن فيروس نقص المناعة البشرية هو سبب الإيدز، وفي نفس العام قتل هذا المرض الفتاك أكثر من 5500 شخص في الولايات المتحدة، واليوم أكثر من 35 مليون شخص حول العالم يعيشون مع عدوى الفيروس، وتوفي أكثر من 25 مليون شخص بسببه منذ الإبلاغ عن الحالات الأولى.
مرض الالتهاب الرئوي الحاد الوخيم (سارس) 2003: ظهر سارس عام 2003 لأول مرة في الصين أيضاً، رغم أنه يعتقد أن أول حالة حدثت في نوفمبر 2002، وبحلول يوليو تم الإبلاغ عن أكثر من 8000 حالة و774 حالة وفاة، واقترب معدل الوفيات لحوالي 10٪ من المرضى الذين يعانون من العدوى المؤكدة، وكان معدل الوفيات أعلى بكثير لأولئك الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا، حيث اقترب من 50٪ لهذه المجموعة الفرعية من المرضى.
إنفلونزا الخنازير 2009: هذا الوباء اعتبرته منظمة الصحة العالمية جائحة عالمية، وكانت الوفيات المؤكدة بسبب المرض 18500 حالة وفاة فقط.
الكوليرا 2010: تسبب وباء الكوليرا في مقتل ما لا يقل عن 10000 شخص في هايتي في عام 2010، بعد الزلزال المميت الذي أصاب البلاد بالشلل، مما أعاق الجهود لإعادة البناء.
الحصبة وأوبئة أخرى 2012: في عام 2012، توفي حوالي 122000 شخص في جميع أنحاء العالم بسبب الحصبة، وهو مرض شديد العدوى يسببه فيروس، وفي نفس العام قتلت حمى التيفود حوالي 216000 شخص، وقتل مرض السل ما يقدر بنحو 1.3 مليون شخص في عام 2012.
الإيبولا 2014: كان وباء حمى الإيبولا النزفية لعام 2014 في غرب أفريقيا أكبر تفشي للإيبولا على الإطلاق. قتل الفيروس أكثر من 11300 شخص قبل الإعلان عنه في عام 2016.
زيكا 2016: في هذا العام أعلنت منظمة الصحة العالمية عن حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا دوليًا بشأن فيروس زيكا، حيث توقعت إصابة 3 إلى 4 ملايين شخص بالعدوى خلال العام، ويسبب المرض عيبًا خلقيًا في الأجنة، ويرتبط أيضًا بالإجهاض والإملاص والعجز العصبي.
الوفيات بسبب الإنفلونزا الموسمية: حسب إحصائيات الولايات المتحدة فإنه يموت ما بين 20 ألفا إلى 37 ألف حالة كل عام بسبب الإنفلونزا الموسمية.
حجم الوفيات بسبب أمراض أخرى: حسب الإحصائيات العالمية فإن أكثر من نصف الوفيات العالمية السنوية تحدث بسبب الأسباب العشرة الأولى للوفيات، وهي أمراض القلب الإقفارية والسكتة الدماغية، والتي تتسبب في أكثر من 15 مليون وفاة سنوياً، ثم مرض الانسداد الرئوي المزمن الذي يسبب وفاة عدة ملايين سنوياً، ويتسبب سرطان الرئة في وفاة حوالي مليوني شخص، ومرض السكري يتسبب في وفاة حوالي 1.6 مليون شخص في العام، وتضاعفت الوفيات بسبب الخرف.
والتهابات الجهاز التنفسي السفلي هي أكثر الأمراض المعدية فتكًا، حيث تسببت في وفاة عدة ملايين شخص في جميع أنحاء العالم، كما تسبب إصابات الطرق ما يزيد عن 1.5 مليون شخص في العام، حوالي ثلاثة أرباعهم من الرجال والفتيان. وبالطبع فهذه الإحصائيات تقريبية، ولكنها بمعظمها في إزدياد مطرد. (هذه الإحصائيات من عام 2016).
الوفيات بسبب وباء تدخين التبغ: تشير التقارير الصحية العالمية إلى أن الوفيات التي تحدث نتيجة الإصابة بأمراض مرتبطة بالتدخين تصل إلى 12% من إجمالي الوفيات العالمية، ما يعني أن عدة ملايين يموتون سنويا بسبب عادة ضارة، ويمكن، إذا امتلك الإنسان إرادته أن يتخلص منها.
تلك خارطة الوباءات في التاريخ القريب وهي تضعنا امام حجم الضحايا في اطار المقارنة مع (كوفيد ـ 19) قد تبدو في الأخير اقل من منظور الأعداد المطلقة كثيرا وقياسا بأعداد سكان الأرض أنذاك, ولكنها تشكل فزعا من منظور التقدم العلمي والمعرفي وتسارع الزمن من اجل العثور على علاج او لقاح يحد من الانتشار والفتك, والفزع يأتي ان البشرية في ألفيتها الثالثة وتراكمها العلمي والمعرفي لم تعثر الى حد اللحظة على ما يقف هذه الجائحة عند حدها.
لا شك في أن جائحة كوڤيد-19 وما يرتبط بها من إكراهات اجتماعية واقتصادية (الحجر، فقدان الشغل، شلل الحياة العامة…) تمثل وضعية تنجلي فيها مختلف المحددات التي ترتبط بوضعيات التوتر التي تستدعي لدى الأفراد استجابات سلوكية وذهنية معينة لمواجهتها. فمن وجهة نظر سيكولوجية، في الوضعيات التي تتسم بوجود شروط بيئية (المحيط) تُدرَكُ من طرف الفرد كإكراهات تتطلب موارد نفسية واجتماعية استثنائية لمواجهتها، فإنها تقيم وتحدد عموماً من طرف الفرد كوضعيات توتر تستدعي تفعيل استراتيجيات نفسية-معرفية للتعاطي معها.
يتم التمييز، على وجه العموم، في الاستراتيجيات النفسية-المعرفية والسلوكية لمواجهة وضعيات التوتر بين استراتيجية مركزة على الانفعال وأخرى مركزة على المشكل. فإذا كان الفرد في الفئة الأولى يوجِّه نشاطه الذهني وسلوكه لتدبير الانفعالات المرتبطة بالوضعية، ويتم تصريف ذلك من خلال التعبير المفرط عن هذه الانفعالات (الغضب، القلق…) أو اللوم (لوم الذات ولوم الآخرين) أو التقليل من خطورة الوضعية أو التفكير فيها بكيفية عجائبية؛ فإنه في الفئة الثانية يُوجِّه هذا النشاط للحدِّ من متطلبات هذه الوضعية والرفع من موارده لمواجهتها، ويتضح ذلك من خلال استجابات من قبيل التحليل الموضوعي للوضعية والبحث عن تنمية المعارف في الميادين المرتبة بها أو البحث عن المعلومات ووضع الخطط المناسبة وكذا القيام بالاستشارات الناجعة.
وعلى مستوى التفكير بالمشكل وتجاوز حدود تأثيره والابتعاد عن التركيز حول الانفعالات والتي تسبب مزيدا من الاضطرابات النفسية واستنزاف الطاقة الفردية بل وحتى ألحاق الأذى بالطاقة النفسية للمحيطين بك فهناك بعض من التقنيات والممارسات الصحية التي تضعك في مواجهة ايجابية ومنها: الحفاظ على الصحة البدنية من خلال خذ كفايتك من النوم, والحفاظ على الحركة بشكل يومي, والمحافظة على غذاء صحي متوازن, والتعامل مع المشاعر بطرق صحية, وعدم الاسراف في متابعة الأخبار والتأكد من مصادرها, المحاولة في احتواء افراد الأسرة, والتفكير سوية كفريق, وضع نظام محدد لتنطيم الوقت, والتقليل من المصروفات اليومية, لا ترهق نفسك وتبالغ في توقعاتك, ومحاولات خلق فرص عمل بديلة للحد من الضغوطات الاقتصادية, ضرورة البقاء في تواصل مع الطبيعة للحفاظ على الصحة النفسية والبدنية, ممارسة الهويات والبقاء على صلة مع الأهل والاقارب والاصدقاء.
كورونا ( كوفيد ـ 19 ) في المنظور القريب سيخلف ضحايا في كل بقاع الارض دون استثناء وسينشر الحزن لفقدان الاحبة والاقارب والاهل والاصدقاء والمعارف وغير المعارف عن بعد, وليست من السهل علينا تقبل الموت لسبب من كورونا لقساوته المجحفة “حيث يقطع الانفاس ويهشم الجسد في غفلة“, رغم ان الموت قدر يحل بالعضوية الحية حال استنفاد ضرورة بقائها, وحيث تتعدد الاسباب والموت واحد, والمخيف في الامر عندما تستسلم الوحدة العضوية الانسانية الى المخاوف رغم بعض من مشروعيتها, ولكن ما يؤلم هو الخوف الهستيري المفرط والذي يضعك في دائرة التفكير الضيق بالموت فقط دون التفكير في ممارسات ايجابية تقيك شر كورونا وتفتح امامنا بصيص الامل للخلاص منه كما حصل للأوبئة السابقة.
وبعيدا عن صراعات القطبية الأمريكية ـ الصينية أو الأوربية ـ الأمريكية فأنها المرة الأولى في التاريخ، يركز فيها علماء العالم على موضوع واحد” هو كورونا “، وقد وضعت أهم دول العالم مثل أميركا والصين ودول أوروبا مكافحة الفيروس أولوية وضرورة وطنية، مما حول الجدل العالمي من عدم جدوى سباق التسلح العسكري ” على الأقل الآن “ إلى حديث عن سباق تسلح في مجال التكنولوجيا الحيوية.
وفي الوقت الذي أغلقت فيه دول العالم حدودها لمكافحة تفشي الوباء، كان العلماء يحطمون هذه الحدود، ويحققون تعاونا عالميا لا مثيل له في التاريخ من أجل التوصل إلى علاج لهذا الفيروس في أسرع وقت، وهو ما تحقق بإجراء أكثر من 200 تجربة سريرية حتى بداية أبريل الماضي, جمعت بين عديد من المستشفيات والمختبرات من مختلف أنحاء العالم. وبالتالي فأن حدود المعرفة العلمية والعقل الانساني لا سقف لهما في التصدي لأكثر الازمات والكوارث التي مرت وتمر بها البشرية وأن لناظره قريب.