النافذة الأولى: التلطي خلف كورونا
■ القول بأن حكومة نتنياهو، بالتوافق مع «أزرق – أبيض»، استغلت جائحة كورونا لتنظيم الاتفاق الثنائي من أجل الضم، فيه قدر كبير من محاولة السلطة الفلسطينية والنخب السياسية في الضفة، لتبرئة الذات، وتعزية الذات، وتبرير، في الوقت نفسه، غياب أية رد فعل على الاتفاق، سوى بعض البيانات الخالية من أية خطوة عملية، بما في ذلك التهديدات المكررة والممجوجة والمستهلكة بقرب الوصول إلى نقطة الحسم من أجل إلغاء العمل بالاتفاقات المعقودة مع الجانب الإسرائيلي.
• فجائحة كورونا لم تعطل الحياة السياسية في الجانب الإسرائيلي رغم وصول أرقام المصابين إلى أكثر من 15 ألف مصاب في عموم إسرائيل، وتجاوز عدد الوفيات 200 وفاة، والحبل على الجرار.
• والفريق الثنائي لرسم حدود الضم وخطوطه، في الضفة والمستوطنات، والمشكل من الجانبين الأميركي والإسرائيلي، لم تعطل أعماله الجائحة، ولم يغلق الطريق أمامه وباء كورونا، بل استمر العمل وكأن لا كورونا ولا جائحة.
• والمفاوضات الثنائية بين غانتس ونتنياهو، للوصول إلى الاتفاق على شكل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، تواصلت بالطرق المختلفة بما في ذلك اللقاءات الثنائية في منزل نتنياهو. ويبدو أن الطرفين كانا أحرص على «مصالح» إسرائيل، و«مصالح» حزبيهما، ومصالح كل منهما، في موقعه القيادي في الخارطة الحزبية الإسرائيلية، فقبلا أن يعرضا أنفسهما لكورونا، من أجل إنجاز خطوة، لا خلاف حول خطورتها على المصالح الوطنية الفلسطينية.
• في الوقت نفسه، تواصلت أعمال اللجان المشتركة بين الليكود وأزرق أبيض، لوضع تفاصيل الاتفاق الذي توصل له رئيسا الحزبين، علماً أن في إسرائيل إجراءات «حجر منزلي»، كما هو الحال في باقي دول المنطقة. لكن هذا «الحجر» لم يعطل اللجان المختصة، للوصول إلى اتفاقات حول توزيع الوزارات، ونواب الوزراء، والمدراء العامين، والسفراء في الخارج، وآليات اختيار قضاة المحكمة العليا، وآليات التناوب في رئاسة الحكومة، أو التناوب في تداول الوزارات، أو تجنب أية خطة قد تقود إلى تقصير عمر الحكومة، المقدر بثلاث سنوات، مناصفة بين الطرفين.
• كذلك لم يعطل كورونا أعمال المحكمة الإسرائيلية العليا التي اتخذت سلسلة قرارات خطيرة، من بينها إباحة مصادرة أراضي الحرم الإبراهيمي. وقد مر القرار دون ضجة، ودون أي رد فعل، من قبل من بيده زمام القرار، من بينها أيضاً مصادرة 450 مليون شيكل [حوالي 140 مليون دولار] من أموال المقاصة بدعوى تعويض عوائل القتلى الإسرائيليين في العمليات العسكرية الفلسطينية. ومنها كذلك التعميم على المصارف الفلسطينية بعدم اعتماد حسابات ذات صلة بعائلات الأسرى والشهداء، أو ما يشبه ذلك، تحت طائلة المصادرة.
• في السياق نفسه تواصلت غارات جيش الاحتلال على المدن والبلدات والقرى في الضفة الفلسطينية، وتنظيم حملات الاعتقال الجماعي. وعمليات إعدام الفلسطينيين، في زنازين المعتقل عبر الإهمال الطبي، وفي الميدان بالرصاص الحي، بذريعة الدفاع عن الذات ضد ما بات يسمى «الإرهاب» الفلسطيني.
• إلى جانب هذا كله لم تتوقف آلة البث والدعاية الأميركية عن الإعلان عن دعم إسرائيل وخططها للضم، إن على لسان وزير الخارجية بومبيو، أو نائبة مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ما شجع المندوب الإسرائيلي على توجيه التهديد الفج والوقح إلى الفلسطينيين بحرمانهم من حقهم في استيراد المواد اللازمة لمكافحة كورونا، إن هم استمروا في «التحريض» ضد إسرائيل وضد الاتفاق الثنائي، اليميني، لضم الضفة الفلسطينية.
هذا كله تم في ظل جائحة كورونا، بينما السلطة الفلسطينية ومن بيدهم زمام الأمر، ومجموع النخب السياسية، حولت «الحجر المنزلي» إلى «حجر سياسي». فتعطلت الحياة السياسية في كل جوانبها، وشلت الحركة الجماهيرية بكل مظاهرها، ما أدى إلى أن يخيم على الوضع جو من الكآبة السياسية، التي لن تنزاح لصالح جو من التفاؤل، إلا بعودة الحياة السياسية إلى ما كانت عليه، حتى في ظل كورونا، خاصة وأن هناك أساليب شتى لمكافحة كورونا، وتفاديه، دون اللجوء إلى الجمود التام والكامل■
النافذة الثانية: القضاء سلاح في المعركة
■ من الأدوات الناشطة بيد الاحتلال الإسرائيلي، «لتشريع» إجراءاته الاحتلالية في الضفة والقطاع، والعنصرية في الـ 48، القضاء الإسرائيلي بتراكيبه المختلفة.
ولسنا بحاجة إلى أن نقدم عرضاً تفصيلياً ، يسرد الدور القذر الذي لعبه القضاء الإسرائيلي في تبرير أعمال الاحتلال وتشريعها، ومنحها الصفة القانونية (بمنطق سلطة الاحتلال ومعاييرها). لكن يمكن الوقوف أمام آخر قرارين اتخذهما.
• الأول، السماح بمصادرة أراضي الحرم الإبراهيمي، لصالح المشاريع الاستيطانية، على طريق الانفراد بالحرم بعد أن جرى تقاسمه عنوة وتحويل القسم الأكبر منه إلى كنيس يهودي، وإخضاع القسم الآخر، المسجد، لإشراف جيش الاحتلال، الذي لا تكف عناصره يومياً، إما عن اقتحامه، دون مراعاة لمشاعر المصلين، أو إغلاقه بذريعة أمن المصلين في القسم اليهودي. ولا ننسى في هذا المجال مجزرة الحرم التي ارتكبها المجرم غولدشتاين بتواطؤ من قوات الاحتلال.
• الثاني، القرار الأخير بمصادرة (السطو على) 140 مليون دولار (450 مليون شيكل) من أموال المقاصة الفلسطينية بذريعة أنها تعويضات لعائلات القتلى والمتضررين من أعمال المقاومة الفلسطينية في الـ 48.
بالمقابل ماذا تشاهد على الجانب الفلسطيني؟
القضاء الفلسطيني تحول إلى جزء من المنظومة السياسية، القائمة على التفرد والاستفراد وسياسات تصفية الحسابات، والسياسات الكيدية، بل وتحول إلى أداة من أدوات القمع البوليسي كما يتبعه الأمن الفلسطيني، الذي أقحم نفسه في القضايا السياسية.
بوجب قرار من القضاء الفلسطيني، وخلافاً لإرادة أغلبية الفلسطينيين جرى حل المجلس التشريعي، آخر المؤسسات الفلسطينية المنتخبة بواسطة صندوق الاقتراع، ما جعل السلطة، بحكومتها ورئاستها ومؤسساتها الأخرى، عارية قانونياً.
وبموجب قرارات قضائية يتم احتجاز جوازات سفر موظفين سابقين، جريمتهم أنهم وجهوا انتقادات لمؤسسات السلطة الإعلامية أو غيرها.
بالمقابل يغيب القضاء عن أداء دوره السياسي في معركة الاستقلال.
إذ بإمكانه أن يلعب دوراً وأن يقوم بمهام جداً مهمة لصالح القضية الوطنية وتساهم في عزل دولة الاحتلال.
من هذه المهام على سبيل المثال:
• لماذا لا يمد الولاية القانونية للقضاء الفلسطيني على كامل أراضي الدولة الفلسطينية بحدود 4 حزيران 67، وعاصمتها القدس وعلى هذا الأساس محاكمة المستوطنين (غيابياً لعدم إمكانية اعتقالهم في الوقت الراهن) وضباط الجيش الإسرائيلي وعناصره بالجرائم التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني وفي خرق السيادة الوطنية الفلسطينية؟
• لماذا لا يصدر القضاء قرارات تحرم تداول المنتج الإسرائيلي أياً كان نوعه، في سياق مقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي؟
• لماذا لا يصدر قرارات قضائية تمنع التخلي عن أي شبر من الأرض الفلسطينية المحتلة في 5 حزيران 67. واعتبار ذلك خيانة وطنية وتجاوزاً للدستور؟
• لماذا لا يكلف الأمن الفلسطيني برفع دعاوي ضد «المطلوبين»، في الحكومة الإسرائيلية من سياسيين وعسكريين، ورفع مذكرات بشأنهم إلى الانتربول لمطارتهم واعتقالهم؟
واضح لنا هذا كله لا يمكن أن يتحقق إلا إذا صدر قرار سياسي من أعلى سلطة، يستند إلى استراتيجية المجابهة ووقف الرهان على استئناف المفاوضات.
وواضح لنا أن القضاء، كما قلنا، ما هو إلا جزء من المنظومة السياسية والأمنية للسلطة الفلسطينية.
وما دام المستوى السياسي يراهن على استئناف المفاوضات، وما دام الجهاز مقيداً بآليات التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، فإن القضاء الفلسطيني سوف يبقى خارج المعركة ضد الاحتلال، ومجرد أداة كيدية، وتصفية حسابات سياسية مع معارضي السلطة، أو من يجرؤ على انتقادها في مواقع «تؤلمها».■
النافذة الثالثة: البحث عن «البرنامج الموحد»
■ لا شك في أن الدعوات إلى التوافق الوطني في الحالة الفلسطينية على «برنامج موحد» لمجابهة الاحتلال، وإلى جانبه كورونا، إنما تصدر عن حسن نوايا من قبل أصحابها، وحرصاً على إنهاء الانقسام، وإعادة بناء الحالة الوطنية وتسليحها بعناصر القوة المتوفرة بين أيدي الشعب الفلسطيني، وحركته الوطنية، وهي كثيرة.
ونعتقد أن العائق الأبرز أمام الوصول إلى هذا البرنامج، هو الانقسام بين حركتي فتح وحماس، بتداعياته السلبية على عموم الحالة الفلسطينية. وهو انقسام وضعنا أمام «سلطتين». سلطة في رام الله هي موضع اعتراف رسمي عربياً ودولياً، وسلطة للأمر الواقع في قطاع غزة، يتم التعامل معها كضرورة لا يمكن تجاوزها، ما دامت هي التي تملك زمام القرار في القطاع.
وبالتالي لا بد من إزالة الانقسام. وهو أمر يدعو له الجميع دون استثناء، بمن فيهم أطراف الانقسام أنفسهم، ما أفقد المواطن الفلسطيني الثقة في نوايا الطرفين، واستعدادهما للخطوة التاريخية المطلوبة، التي تعيد بناء الحالة الوطنية، وتخرج الوضع الفلسطيني من عنق الزجاجة الذي مازال يعيق عليه حركته المطلوبة.
ولا نعتقد أن ما قدمه العقل السياسي الفلسطيني من إبداعات، لحل قضايا الانقسام كانت قاصرة. بل هي أبدعت في كل الاتجاهات، وجاءت في سياق نقاشات هادئة وموضوعية، إنما تبقى المسؤولية عن التنفيذ، وهو ما يعيد الكرة إلى ملعب الطرفين معاً، فتح وحماس.
في السياق نفسه يدرك الطرفان أن انقسامهما وفر (للأسف) لدولة الاحتلال. الفرص الكثيرة للنيل من قدرة الشعب الفلسطيني على إدارة شؤونه بنفسه. ولعل هذا ما أفسح المجال لنتنياهو، وبعده لترامب، وربما لغانتس لاحقاً، أن يقترحوا إبقاء الحالة الفلسطينية في «غرفة العناية المركزة»، تحت الرقابة الأمنية والتبعية الاقتصادية لدولة الاحتلال، حتى إشعار آخر. والإشعار الآخر تمتلكه سلطات الاحتلال، فهي وحدها، بموجب معاييرها، يحق لها أن تقرر متى سيبلغ العقل السياسي الفلسطيني سن الرشد فتمنحه بعضاً من «حريته» وتخفف عنه بعضاً من قيودها.
كما يدرك الطرفان أن الانقسام تحول، بيد دولة الاحتلال، إلى مادة للفتنة السياسية، وإن في سياق المباحثات خلف الأبواب، وعبر الوسطاء، مع حماس، بعناوين «التهدئة»، و«التسهيلات»، وتبادل الأسرى. أو في سياق الغمز من «شرعية» الرئيس عباس، ودعوته لتأكيد هذه “الشرعية” من خلال تجريد حماس من سلاحها (ومعها باقي فصائل المقاومة). في الوقت الذي تدرك فيه تل أبيب أن اتفاقيات إنهاء الانقسام (وآخرها في 17/11/2017) فصلت بين سلاح الأمن الداخلي، وسلاح المقاومة، وأقرت شرعية المقاومة، كما في الوقت نفسه الذي تدرك فيه دولة الاحتلال أن الحديث عن نزع سلاح المقاومة هو في الحقيقة دعوة إلى حرب أهلية فلسطينية طاحنة، لن يكون فيها متفرجاً سوى الجانب الإسرائيلي، ولن يكون فيها رابحاً، سوى الإسرائيلي نفسه.
وبالتالي، وكخلاصة لما سبق، نرى ضرورة تجاوز جائحة كورونا، والتي هي ليست أكثر خطورة من جائحة الاحتلال نفسه، لإعادة تحريك المياه الراكدة في بركة الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية.
ونعتقد أن توافق الجانبين غانتس ونتنياهو، للوصول إلى «حكومة طوارئ» ضد الفلسطينيين، وإن مباركة بومبيو، وزير خارجية ترامب مشاريع الضم الإسرائيلي، وأن توضيحات الخارجية الأميركية حول ضرورة إخضاع الفلسطينيين، عبر جرهم صاغرين إلى طاولة المفاوضات.. نعتقد أن هذا كله يشكل سبباً كافياً، إلى جانب أسباب أخرى، لتحريك المياه الراكدة، ونفض الغبار عن الاتفاقات الموقعة، والخروج من غرفة «الحجر السياسي» وإطلاق القاطرة الفلسطينية مرة أخرى.■
صحفي فلسطيني من أسرة «الحرية»