بيننا وبين الحضارة وهاد، ومراحل زمنية شاسعة، فنحن لا نزال على حافة، التمدن؛ وبدايات الوعي وإدراك ما يجري حولنا من المؤامرات والألاعيب السياسية، ولكن تجاوز الخلافات الداخلية واختيارنا الصحيح لإدارة مناطقنا؛ ومن ثم تطوير أساليب التعامل الدبلوماسي والسياسي مع القوى الخارجية، ستوصلنا إلى بدايات ترسيخ البنية الحضارية لشعبنا.
فهل حقا استيقظت الحركة السياسية الكردية من سباتها الطويل؟ وهل توسعت مداركها، وأدركت أخطاءها؟ وأن كانت، فهل هي على مستوى انتقاء الدروب الصحيحة؟ وهل المبادرات الأخيرة، التي جاءت على خلفية الإملاءات الخارجية، وبعد الانتقادات وتوجيهات الشريحة الواعية من الحراك الثقافي، كافية لإنقاذ ذاتها؛ وقيادة المجتمع لبلوغ الهدف؟ أم أن ما يجري تحركات مرحلية، وستعود لتسلك دروب التيه إلى حيث مستنقع الخلافات، في حال هدأت الأسباب؟ أم أنها بلغت مرحلة الوعي وبدأت تدرك مجريات الأحداث المحاطة بأمتنا؟ وأصبحت تتقبل المفاهيم الحضارية وتستوعب الواقع؟
أم أن ما يجري هي إملاءات خارجية على أحزابنا التي لا حول ولا قوة لها، تنفذ ما تفرض عليها؟ وأنها غير مقتنعة بما تنفذه، رغم أبعادها الإيجابية؟ وهي دون مستوى المسؤولية لقيادة الأمة، تتحكم بمصيرها شريحة ساذجة، تقف في طريق النخبة الواعية وتمنعها من قيادة الحركة، مستندة على أشباه المثقفين السياسيين الذين لا يميزون بين جدلية المثقف والسياسي المتثقف، المتخبطون بين مفاهيم القراءة دون الاستيعاب والإدراك، الغارقون في ضحالتهم المعرفية، الشريحة التي لا تعرف ولا تعرف أنها لا تعرف، ولذلك لا تدرك كيف ومتى وعلى من تطلق الأحكام؟ فهل علينا أن نستمر في العمل على جدلية إعادة الإنتاج لأحزابنا المتحكمة، لإنجاح ما يجري وما يملى علينا، أم علينا دعم الحاضر وإسنادهم على أمل أن تكون النقلة النوعية؟
ما عرضناه، جاءت على خلفية النشاطات والبيانات والتصريحات المتواضعة الصادرة من بعض أطراف الحركة السياسية وإدارات المناطق ضمن الجزئين الجنوبي والغربي من كردستان، والتي فيما إذا طبقت بمنهجية صادقة ونجحت، كما يظن حتى الآن، ستنقل كردستان بإقليميها إلى أبعاد ديمقراطية حضارية لا مثيل لهما في شرقنا، وعلى الأغلب ستعرض النظم السياسية والإدارية في الدول المحتلة لكردستان داخلياً وخارجياً إلى انتقادات حادة واسعة، ولربما إلى احتماليات الانهيار الداخلي، ولهذا فمن المتوقع؛ ولاجتناب المعضلة ستتحرك السلطات المتأثرة في اتجاهين، داخليا ستحاول ترسيخ الشمولية الدكتاتورية، وتوسيع المواجهة العدائية ضد أقاليم كردستان، وخارجيا ستستمر في تشويه سمعة الحركة الكردستانية.
فالشارع الكردستاني يرى حتى الآن، أن نشاطات الجزء الغربي، وحيث التقارب بين بعض الكتل السياسية الرئيسة، خطوات مصيرية إيجابية وأن الاتفاقيات المبدئية الجارية تعكس أحلام الشعب الكردي، رغم الاختلافات الماضية، والتضارب في المفاهيم الإيديولوجية، وغياب الثقة بينهم، ونقض الاتفاقيات في السابق بمبررات واهية، والتي جلها كانت من تف دم في غرب كردستان.
وفي الإقليم الفيدرالي الكردستاني، تم تقديم مطالب للسلطة الفيدرالية لتطبيق نظام الإدارة الذاتية للمدن أو المحافظات ضمن الإقليم، تتبين من الوهلة الأولى أن مطالبهم تتعارض مع أمال الأمة الكردية، وتعكس التباعد بين المناطق أو تتجه نحو شبه تقسيم لجغرافيتها وديمغرافيتها الواحدة، لكن عند التمعن فيها ودراستها بعمق تظهر خلفيتها الديمقراطية المتطورة.
فالنشاطين إن كانت بدوافع ذاتية أو تحت تأثيرات خارجية، يتأرجحان ما بين تقزيم قضيتنا القومية في حال فشلهما أو تسخيرهما لأجندات حزبية أو إقليمية، وبين رفع شأن الأمة داخليا وخارجيا، وبإنجاح قضيتنا والبدء بمسيرة البناء الواعي لكردستان. والحالتين تدفع بنا لإلقاء الضوء عليهما، وعرض مقارنة؛ واستخلاص نتيجة.
1- ساحة جنوب غرب كردستان:
تظهر احتمالية توسيع إدارة المنطقة، وبوادر تطبيق نظام ديمقراطي في غربي كردستان، بعد مسيرة سنوات عدة من التحكم الفردي بإدارتها السياسية والعسكرية، إلى جانب الحضور الدائم لسلطة بشار الأسد. فرغم ظروف الحرب وضغوطات القوى المتربصة بالكرد، تتجه التوقعات على الخروج من معضلة الخلافات؛ باتفاقيات، من بينها إشراك القوى الكردية الأخرى في بعض المجالات.
فالاجتماعات التي جرت بين قيادات الأنكسي والـ تف دم في غرب كردستان، مع التحفظ على بعض النقاط، وبعد الخلافات الحادة على مدى السنوات الثمانية الماضية، خلقت نوعا من التفاؤل بين المجتمع الكردي، والأغلبية بدأت تدعمها، رغم الشكوك العديدة حول نجاحها، فليس سهلا تغيير الصور النمطية السلبية التي رسختها هذين الطرفين من حراكنا السياسي في ذهنية مجتمعنا، علما أن عراب التقارب الجاري حاليا؛ هي القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما كانت عراب جنوب كردستان في بدايات القرن الحالي، يوم فرضت عليهم تجاوز خلافاتهم، وأجبروا بالتوقيع على بعض نقاط التقاطع بين السليمانية وهولير.
ولا شك الرضوخ أو تقبل إملاءات الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا، ليست ناقصة، بل تعكس بوادر نمو الوعي السياسي، وبدايات إدراك ما يجري على الساحات الدولية، ولربما معرفة الاستفادة من تقاطع مصالح الدول الكبرى مع مصالح الشعب الكردي في المنطقة، كما وتعكس عن إدراكها لخلفيات التحركات الدبلوماسية للقوى الإقليمية وخاصة المحتلة لكردستان؛ المحتكرة للعلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع تلك الدول، والمتراجعة هيمنتها قليلا مقابل صعود الثقل الكردي السياسي والاقتصادي، وبالتالي لا بد من تقوية الذات بتنمية الوعي الجمعي، وتجميع قدرات شعبنا قدر الإمكان وبحنكة سياسية.
علينا أن ندرك أن المصالح هي التي تتحكم بالعلاقات الدولية، وبالتالي يتطلب منا تقبل المفروض، ولنكن واقعيين فجميع القوى المتواجدة في سوريا تتهافت للحصول على الإملاءات الخارجية التي ترافقها الدعم، وتجربة المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري مع تركيا واضحة للجميع، ومثلها تقبل سلطة بشار الأسد لإملاءات حكومة إيران، بل وحتى القوى الإقليمية تسخر كل دبلوماسيتها لدمج مصالحها مع مصالح أمريكا وروسيا، وجميعها تدرج ضمن خباثة العلاقات السياسية، مع عدمية القيم.
فبوادر تجاوز الخلافات في غرب كردستان، والتي تتعلق كثيرا بمدى تنازل الـ ب ي د والإدارة الذاتية والجناح العسكري لها أي قوات سوريا الديمقراطية عن مواقفها المتشددة من الحركة الكردية المعارضة، وتقبلها التعامل مع الأطراف الأخرى، والاتفاق على بعض نقاط التقاطع، في البعدين القومي والوطني، تعكس خطوة نحو الوعي الحضاري في حل الخلافات بين الأطراف الكردية، وكما نعلم، جرت المحادثات ضمن معسكر للقوات الأمريكية، ولهذه دلالات إيجابية عدة، ولا يهم إن كانت البنود قد فرضت بإملاءات أو بقبولها عن قناعة، بل المهم هنا هو التوافق على بعضها.
يسعدنا التصريحات الإيجابية الصادرة عنها حتى الآن، فهي تعكس التفاؤل بالمستقبل الكردي في جنوب غرب كردستان، بل ولكل سوريا، رغم أن المعلن عنه حتى الآن جلها عامة، ولا تتعرض إلى إشكاليات الصراع والخلافات الإدارية والعسكرية، ونحن هنا لا يهمنا الاختلافات الإيديولوجية والسياسية حاليا، لأن الاجتماعات بحد ذاتها خطوة إيجابية، وكثيرا ما طالبنا بها حتى ولو لم نتفق، خاصة وأنهما ومعهما كلية الحراك الكردي يحاولون إيجاد حل لكلية سوريا القادمة، وعلى أسسها يجب أن يتم التوافق على اللا مركزية في السلطة والنظام الفيدرالي؛ كبعد حضاري ليس فقط للواقع الكردي بل لجميع شعوب سوريا وطوائفها.
ومن جهة أخرى فاجتماع (الأنكسي والـ ب ي د) من بين أطراف الحراك السياسي، مع التغييب لجهات كان لا بد من حضورها https://www.rudaw.net/kurmanci/kurdistan/0205202012 تعكس ناقصة، لا بد من تجاوزها مستقبلا، فالاجتماعات واحتمالية الوصول إلى نتائج إيجابية، بدون أغلبية الأطراف الأخرى، وحصرها ضمن الجهتين، ستقلل من احتماليات نجاحها، وقد تؤثر على بناء إدارة كردستانية ديمقراطية، وإهمالهم قد تؤدي إلى ديمومة إشكالية الأنا وإلغاء الأخر، وهي من المعضلات التي لا بد من معالجتها، وتجاوزها، من خلال رفع مستوى الوعي القومي.
لا يستبعد أن اجتماع اللجنتين الأمريكية والفرنسية مع أكثر من ثلاثين شخصية يمثلون منظمات أو أحزاب، والاستماع إلى أراءهم، محاولة لقطع الطريق على هذه الإشكالية وإحساس الطرفين المتحاورين على أنه عليهم توسيع الأطراف المشاركة بشخصيات أو لجان متنوعة، ومن جهة أخرى إزالة المنهجية المستقاة من الأنظمة المحتلة، والثقافة المترسخة فينا وعلى مدى عقود بل وقرون طويلة، لذلك نأمل أن يتم تقزيم منطق الأنا في الاجتماعات القادمة، لتكون محل ترحيب أوسع ودعم من كلية الشارع الكردي؛ لأنها تتعلق بمصير الأمة، والتوجه نحو تطبيق نظام ديمقراطي قد يكون مثالا لأنظمة الشعوب المجاورة…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
3/5/2020م
بشديد الأسف , لا أستطيع أن أقول نعم , ولا أُريد أن أقول : لا , وللأسف ليس هناك نائم