يشتكي كثيرون، وأنا منهم من أن وسائل الإعلام لا تركز سوى على الجانب المأوساوي والمشاكل في العالم، وتنسى ما عدا ذلك. لكن هذه هي طبيعة الإعلام وعلينا أن نتقبلها. فالأحداث السعيدة أو المفرحة، لا تصنع تغطيات إخبارية، وهي لا تجلب إعلانات ولا ترضي الممولين، إضافة إلى أنها لا تشبع فضول الطبيعة البشرية أو تشفي غليل “الأنا” لدى الإنسان.
كونية حقوق الإنسان
في الأسبوع الماضي، كان أحد هذه الأخبار المهمة والتي لم تحظ بالتغطية التي تستحقها. أعني خبر إلغاء السعودية لعقوبة الجلد وكذلك إعدام القاصرين. فلسنوات طويلة طالبت المنظمات المعنية بحقوق الإنسان وكذلك العديد من الدول بإلغاء هذه العقوبة. بل شهدت أروقة الأمم المتحدة نفسها على مدى سنوات سجالات محتدمة بين أولئك الذين يريدون أن تطبق العهود والمواثيق الدولية فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمرأة والطفل في كل مكان في العالم، وبين أولئك الذين يرفضون ذلك، متذرعين بالحفاظ على خصوصية دينية أو ثقافية أو اجتماعية.
الأثر الآخر لهذه الإصلاحات فهو أنها نزعت في الواقع ورقة مهمة من أيدي جماعات الإسلام السياسي
كان هذا السجال ينطلق من مفهومين. الأول يرى أن حقوق الإنسان لها معنى كوني وملزم، وهي لا تتجزأ، وعلى الجميع أن يلتزم بها، بينما المفهوم الآخر، ينطلق من أن الدول كيانات ذات سيادة، وهي التي تحدد نوعية القوانين والأحكام التي تطبق على أراضيها. ومن الواضح أن المفهوم الأول قد انتصر، ببساطة لأن العنصر البشري واحد وأن الحقوق الأصيلة للبشر سابقة على الدول وعلى السيادة أيضا.
عقوبة الجلد
يمكن القول بأن عقوبة الجلد هي آخر ما تبقى من منظومة العقوبات القديمة القاسية، والتي لم يكن الهدف منها في الواقع هو تحقيق العدالة أو ردع المجرمين، بقدر ما كانت تهدف في الأساس إلى إذلال الجاني والتنكيل به. إنها عقوبة انتقامية، وحاطة بالكرامة، وغير متناسبة أيضا، لما تتركه من أثر مادي ونفسي دائم على الإنسان، شأنها في ذلك شأن قطع الأيدي والأرجل والرجم والصلب وغيرها.
في الزمن القديم ربما كانت هذه العقوبات وغيرها من الممارسات مألوفة ومقبولة، لأن الوعي البشري وقتها كان يقوم على معايير مختلفة، وكانت قيمة الحياة البشرية نفسها متفاوتة تبعا للدين والطائفة والعرق والجنس وما شابه. وبطبيعة الحال لم يكن جهاز الدولة نفسه قد تبلور على نحو يعكس الشراكة بين الناس وحكامهم. كما لم تعرف المجتمعات القديمة مفهوم الفصل بين السلطات. فالحاكم أو جهازه هو الذي يحدد الإطار العام للأحكام والعقوبات ونوعيتها وكيفية تطبيقها.
مع دخول المجتمعات للعصر الحديث، لم يعد ذلك كله مقبولا. وتم التخلي طوعا أو كرها عن منظومة العقوبات القديمة واحدة بعد أخرى.
تسييس القرار
الأمر اللافت فيما خص قرار السعودية إلغاء عقوبة الجلد، والذي تأخر كثيرا بالطبع، كانت ردود الفعل عليه. فإلى جانب الترحيب الباهت، كان هناك اتجاه عام لتسييس الموضوع، حيث طغت على أغلب التعليقات والتحليلات فكرة أن القرار يهدف إلى تلميع صورة السعودية في الغرب أو ما شابه. وحتى بافتراض أن ذلك صحيحا، فهو لا يغير من حقيقة أهمية القرار، وكونه حدثا كبيرا بمقاييس السياق العام للمملكة والمنطقة.
المجتمع السعودي، وخلال أربع سنوات فقط، تمكن من إسدال الستار على ميراث امتد لأكثر من مئة عام
فحتى عام 2016 كان من الصعب تخيل إمكانية اختفاء أفراد الشرطة الدينية من الشوارع والأماكن العامة وتحجيم هذه المؤسسة بالكامل، أو فتح دور السينما أو السماح للمرأة بقيادة السيارة أو السماح للنساء بالسفر دون موافقة ولي الأمر أو دخول ملاعب كرة القدم أو السماح بالاختلاط بين الجنسين أو السماح بتشغيل الموسيقى في المطاعم… إلخ.
طبعا هذه الإجراءات كلها أمور طبيعية واعتيادية في معظم دول العالم، لكن بالنسبة للسعوديين والسعوديات، استغرق الأمر منهم سنوات طويلة وتضحيات كبيرة للحصول عليها. وحين توضع في سياقها، فهي تؤشر إلى أن المجتمع السعودي، وخلال أربع سنوات فقط، تمكن من إسدال الستار على ميراث امتد لأكثر من مئة عام.
نزع الغطاء الديني
أما الأثر الآخر لهذه الإصلاحات فهو أنها نزعت في الواقع ورقة مهمة من أيدي جماعات الإسلام السياسي وباعدت بينها وبين مطالبها بفرض ما تعتبره “أحكاما شرعية” في المجتمعات المنكوبة التي شاء حظها العاثر أن تكون تحت رحمة هذه الجماعات.
فبعد قرار السعودية بإلغاء عقوبة الجلد مثلا، سيكون من الصعب تطبيق هذه العقوبة أو المناداة بتطبيقها في أية دولة إسلامية أخرى. ومن المؤكد أن جماعات “القاعدة” أو “داعش” أو “طالبان”، سواء في سوريا أو أفغانستان أو أية منطقة أخرى، ستحتاج إلى جهود كبيرة لتبرير تمسكها بهذه الممارسات في الوقت الذي تم التخلي عنها من قبل جميع الدول الإسلامية بما في ذلك السعودية.
يمكن القول إن ذلك يشبه نزع الغطاء الديني عن تلك العقوبات، وهو الأمر الذي يستحق الإشادة من الجميع، وخاصة أولئك الذين بذلوا الكثير من الوقت والجهد لإثبات أن هذه العقوبات شأنها شأن أي ممارسات مرتبطة بالبشر، لها عمر زمني وتاريخ انتهاء.