الإثنين, نوفمبر 25, 2024
Homeمقالاتحامد الحمداني : من ذاكرة التاريخ أسرار انقلاب بكر صدقي

حامد الحمداني : من ذاكرة التاريخ أسرار انقلاب بكر صدقي

عام 1936

 

نبذة عن حياة بكر صدقي :

ولد بكر صدقي عام 1866 من أبوين كرديين، في قرية [ عسكر ] قرب كركوك، درس في الأستانة، حيث دخل المدرسة الحربية، وتخرج منها ضابطا في الجيش العثماني، وشارك في الحرب العالمية الأولى في آخر سنيها، وبعد نهاية الحرب واندحار الإمبراطورية العثمانية انضم إلى الجيش العراقي الذي أسسه البريطانيون المحتلون في 6 كانون الثاني 1921 برتبة ملازم أول.

 

رغم كون بكر صدقي من أبوين كرديين، فقد كانت له ميول قومية عربية، ولذلك فقد تلقفه أنصار القومية العربية من طبقة الحكام العراقيين، وتدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن، في عهد الملك غازي، واشتهر بالقسوة والعنف عندما قاد الجيش العراقي ضد ثورة الآشوريين عام 1933، على عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني، ثم ضد الحركة البارزانية، وضد ثورة العشائر في منطقة الفرات الأوسط عام 1935، وتوطدت العلاقة بينه وبين وزير الداخلية آنذاك السيد [ حكمت سليمان ] الذي أحبه كثيراً.

 

 الأعداد للانقلاب:

في أواخر عهد وزارة ياسين الهاشمي الثانية، اشتد الصراع بين الوزارة والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط الوزارة التي سعت للتمسك بالحكم بكل الوسائل والسبل، وفي تلك الأيام كان بكر صدقي الذي شغل منصب قائد الفرقة العسكرية الثانية يتردد باستمرار على دار قطب المعارضة المعروف [حكمت سليمان]، وكان الحديث يدور حول استئثار وزارة الهاشمي بالحكم رغم افتقادها للتأييد الشعبي، وحين ذلك الحين اختمرت في فكر بكر صدقي فكرة إسقاط وزارة الهاشمي بالقوة عن طريق القيام بانقلاب عسكري. (1)

 

كان بكر صدقي على علاقة وثيقة بالفريق [عبد اللطيف نوري] قائد الفرقة العسكرية الأولى، وقد عرض عليه بكر صدقي فكرة الانقلاب العسكري لإسقاط وزارة الهاشمي، وقد حبذ  الفكرة وتعهد على العمل معه جنباً إلى جنب، وبدأ الاثنان يهيأن لحركتهم، واستطاعوا أن يضموا إلى صفوفهم قائد القوة الجوية

 العقيد [محمد على جواد] .

سارت الأمور بتكتم شديد، مما تعذر على الاستخبارات العسكرية كشف الحركة قبل وقوعها، وجاء موعد مناورات الخريف للجيش عام 1936، ووجد بكر صدقي ضالته المنشودة بهذه الفرصة، فقد كانت خطة المناورات تقتضي  إجراءها فوق [جبال حمرين]، بين خانقين وبغداد، وكان المفروض أن تكون الفرقة الأولى بقيادة الفريق عبد اللطيف نوري في موضع الدفاع عن بغداد.

 

 وفي 29 تموز 1936 سافر رئيس أركان الجيش الفريق [ ياسين الهاشمي ] شقيق رئيس الوزراء في مهمة إلى خارج العراق، وأناب عنه الفريق [عبد اللطيف نوري]، مما سهل على الانقلابيين الأمور كثيراً.

 

كان موعد المناورات قد حُدد يوم 3 تشرين الثاني 1936 ولغاية 10 منه، ولذلك فقد قرر بكر صدقي تنفيذ الانقلاب خلال هذه المناورات، وجرى الاتفاق على نقل الفرقة الثانية من [قرة تبة] إلى[ قرغان ] ليلة الثلاثاء 26/ 27 تشرين الأول على أن يجري تسلل وحدات الفرقة ليلة الخميس 28 / 29 منه إلى [ بعقوبة ] التي تبعد حوالي 60 كم عن بغداد .

كما جرى الاتفاق على نقل الفرقة الأولى من [ بلدروز ] في لواء ديإلى فجر يوم  الخميس 29 منه ، لتلتحق بالفرقة الأولى في بعقوبة، وجرى نقل العتاد للمدفعية من قبل بعض الضباط المؤتمنين في السليمانية، وقد جرى كل ذلك بتكتم شديد بحيث لم تستطع الاستخبارات العسكرية اكتشاف التحرك.

 

وفي يوم الثلاثاء المصادف 27 تشرين الأول، جرى لقاء قبل تحرك القوات الانقلابية بين بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، واتفقا على موعد تنفيذ الانقلاب وتفاصيل الخطة، وجرى الاتفاق على تسمية حركتهم [القوة الوطنية الإصلاحية] وطلبا من السيد [ كامل الجادرجي ] إعداد مذكرة إلى الملك غازي يطلبان فيها إقالة حكومة ياسين الهاشمي، وتكليف السيد [حكمت سليمان ] بتأليف الوزارة. كما تم إعداد بيان الانقلاب، وجرى إعداد عدد من الطائرات بقيادة قائد القوة الجوية العقيد[ محمد علي جواد]، وبذلك أصبح كل شيء جاهز للانقلاب. (2)

تنفيذ الانقلاب:

في ليلة الخميس المصادف 27 تشرين الأول 1936، زحفت قوات الجيش من قرغان وبلدروز إلى بعقوبة ووصلتها صباح اليوم التالي، حيث قامت بقطع خطوط الاتصال ببغداد، واستولت على دوائر البريد والتلفون، وعدد من المواقع الاستراتيجية في المدينة، ثم واصلت القوات زحفها نحو بغداد في تمام الساعة

السابعة والنصف صباحاً، بقيادة بكر صدقي .

وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، ظهرت في سماء بغداد 3 طائرات حربية يقودها العقيد محمد علي جواد، وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب وجاء فيه:

{ أيها الشعب العراقي الكريم:

لقد نفذ صبر الجيش المؤلف من أبنائكم، من الحالة التي تعانونها من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة بمصالحها وغاياتها الشخصية، دون أن تكترث لمصالحكم ورفاهكم، فطلبنا إلى صاحب الجلالة الملك غازي المعظم إقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين، برئاسة السيد[حكمت سليمان] الذي طالما لهجت البلاد بذكره الحسن، ومواقفه المشرفة، وبما أنه ليس لنا قصد في هذا الطلب إلا تحقيق رفاهكم، وتعزيز كيان بلادكم، فلا شك في أنكم تعاضدون إخوانكم أفراد الجيش ورؤسائه في ذلك، وتؤيدونه بكل ما أوتيتم من قوة، وقوة الشعب هي القوة المعول عليها في الملمات.

وأنتم أيها الموظفون لسنا إلا إخوان وزملاء لكم في خدمة الدولة التي نصبوا كلنا إلى جعلها دولة ساهرة على مصلحة البلاد وأهلها، عاملة على خدمة شعبكم قبل كل شيء، فلابد وأنكم ستقومون بما يفرضه عليكم الواجب الذي من أجله لجأنا إلى تقديم طلبنا إلى جلالة ملكنا المفدى لإنقاذ البلاد مما هو فيه، فتقاطعون الحكومة الجائرة وتتركون دواوينها، ريثما تؤلف الحكومة التي ستفخرون بخدمتها، إذ ربما يضطر الجيش، بكل أسف، لاتخاذ تدابير فعالة لا يمكن خلالها اجتناب الأضرار بمن لا يلبي هذه الدعوة المخلصة مادياً وأدبياً.(3)

 

                                                       قائد القوة الوطنية الإصلاحية

الفريق بكر صدقي

 

وفي الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الانقلاب، استقل السيد حكمت سليمان سيارته وتوجه إلى قصر الزهور حاملاً إلى الملك المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، والتي حددا فيها مهلة أمدها 3 ساعات للملك، لإقالة وزارةالسيد ياسين الهاشمي حيث سلمها إلى رئيس الديوان الملكي [رستم حيدر] .(4)

وما أن بلغ نبأ الانقلاب ياسين الهاشمي حتى بادر إلى الاتصال ببكر صدقي الذي أبلغه خلال محادثته بالتلفون أن الملك غازي على علم بالانقلاب، ولم يكد ياسين الهاشمي ينهي المكالمة التلفونية مع بكر صدقي حتى سارع إلى التوجه إلى قصر الزهور لمقابلة الملك وتدارس الأمر معه.

سلم رستم حيدر المذكرة إلى الملك غازي، وكان يبدو على وجهه الذهول والاضطراب، وعلى الفور طلب الملك استدعاء كل من ياسين الهاشمي، وجعفر العسكري، وزير الدفاع، ونوري السعيد، وزير الخارجية، والسفير البريطاني، لتدارس الوضع.

 

وتحدث السفير البريطاني مخاطباً الملك غازي وسأله إن كان على علم مسبق بالانقلاب فنفى الملك ذلك. وتحدث ياسين الهاشمي موجهاً سؤاله للملك فيما إذا كان لا يزال يثق بالوزارة فأن الوزارة مستعدة لمجابهة الانقلابيين وإلا فأنه سيقدم استقالة حكومته. (5)

 

أما نوري السعيد فقد دعا السفير البريطاني إلى التدخل العاجل لقمع الانقلاب، لكن السفير البريطاني أبلغه أن بريطانيا لا تود التدخل في الأمور الداخلية، وفي حقيقة الأمر أن بريطانيا كانت تريد التخلص من وزارة الهاشمي من جهة، وخوفها من حدوث مالا يحمد عقباه إذا ما حدث التدخل وفشل في قمع الانقلاب.

 

مضت الساعات الثلاث التي حددها الانقلابيون مهلة لاستقالة الوزارة، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، ولما لم يتم ذلك بادرت الطائرات في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح ذلك اليوم بإلقاء القنابل على مقر مجلس الوزراء، ووزارة الداخلية، ودائرة البريد القريبة من مسكن ياسين الهاشمي ودار البرلمان، حيث قتل جراء القصف 7 أشخاص، وأصابت العديد  بجروح، واضطرت الحكومة إلى تقديم استقالتها إلى الملك في 29 تشرين الأول 1936 وتم قبول الاستقالة، وسارع الملك غازي إلى الطلب من  السيد حكمت سليمان  بتأليف الوزارة الجديدة، بناء على طلب الانقلابيين لكن حكمت سليمان طلب من الملك أن يوجه له تكليفاً خطياً لكي يشكل الوزارة. (6)

 

وفي الوقت الذي قدمت الحكومة استقالتها إلى الملك، فأنها عملت على إفشال الانقلاب. فقد بعث جعفر العسكري إلى عدد من قواد الجيش داعياً إياهم للتحرك لحماية بغداد إلا أن تلك الرسائل لم تستطيع أن تفعل شيئا.

وحاول جعفر العسكري وقف زحف قوات الانقلابيين نحو بغداد فاتصل ببكر صدقي وأبلغه أنه آتٍ لمقابلته، وأنه يحمل رسالة من الملك.

كانت فرصة بكر صدقي قد حلت للتخلص من جعفر العسكري ـ صهر نوري السعيد ـ والرجل القوي في الوزارة، فرتب الأمر مع عدد من ضباطه لقتله. وعندما توجه جعفر العسكري لمقابلة بكر صدقي وجد في استقباله النقيب إسماعيل عباوي مع عدد من الأفراد، وقام عباوي على الفور بتجريد جعفر العسكري من سلاحه وأجبره على ركوب السيارة منفرداً دون حمايته، ورافقه كل من النقيب [شاكر القره غلي] والرائد [ طاهر محمد ] مرافق الملك.

وعندما وصلت السيارة التي تقلهم إلى نهر الوزيرية توقفت السيارة، ونزل منها الجميع وأرسل عباوي سائقه العريف [إبراهيم خليل] ليخبر بكر صدقي بمقدم العسكري، ولم تمضِ سوى دقائق حتى وصل الضباط [جمال جميل] و[ جمال فتاح] و[محمد جواد أمين] و[ لازار برودس] حيث شهروا مسدساتهم على جعفر العسكري وأطلقوا عليه الرصاص فقتل في الحال، ولما وصل خبر مقتله إلى نوري السعيد  سارع إلى اللجوء للسفارة البريطانية التي استطاعت تهريبه إلى خارج العراق. (7)

استمرت قوات الانقلابيين بالزحف نحو بغداد  حيث وصلت أبوابها في الساعة الرابعة بعد الظهر، واحتلت سدة [ ناظم باشا] المحيطة بالعاصمة، فلم يجد الملك بُداً من توجيه خطاب التكليف إلى السيد حكمت سليمان، في 29 تشرين الأول وعند الساعة الخامسة والنصف كانت القوات قد دخلت شوارع بغداد دون أن تلقى أي مقاومة.

كان [حكمت سليمان] قد عقد قبل يومين اجتماعا في دار[السيد كامل الجادرجي ] وضم السادة [جعفر ابو التمن] و[ محمد حديد ]، لوضع قائمة بأسماء أعضاء الوزارة في حالة نجاح الانقلاب، وقد طرح في الاجتماع اقتراح حول اختيار [نوري السعيد]في منصب وزاري لتطمين الإنكليز، لكن الاقتراح لم يلقَ القبول فقد عارضه السيدان جعفر ابو التمن، وكامل الجادرجي، واقترح بدلا منه السيد [صالح جبر]، القريب من الإنكليز أيضاً. (8)

 

تشكيل حكومة الانقلابيين بأغلبية من الإصلاحيين:

أتم الانقلابيون تشكيل وزارتهم، وصدرت الإرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءاً وجاءت على الوجه التالي:

1 ـ حكمت سليمان ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للداخلية.

2 ـ جعفر ابو التمن ـ وزيراً للمالية.

3 ـ صالح جبر ـ وزيراً للعدلية.

4 ـ ناجي الأصيل ـ وزيراً للخارجية.

5 ـ كامل الجادرجي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات.

7 ـ يوسف إبراهيم ـ وزيراً للمعارف.

7 ـ أما بكر صدقي فقد تولى منصب رئيس أركان الجيش، بدلاً من طه الهاشمي، الذي أحيل على التقاعد.

أما ياسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد فقد غادروا العراق على الفور بمساعدة السفارة البريطانية، خوفاً من بطش بكر صدقي.

 

أسرع السفير البريطاني إلى لقاء الملك غازي، ورئيس الوزراء السيد حكمت سليمان ليقف على ما تنوي الوزارة عمله، وقد طمأنه حكمت سليمان بأن الوزارة تحترم تعهدات العراق، وتسعى للنهوض بالبلاد في كافة المجالات، كما لقي السفير من الملك كل ما يطمئن الحكومة البريطانية.

 

أراد بكر صدقي أن يرسل من يقوم بتصفية ياسين الهاشمي، ونوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني، إلا أن حكمت سليمان رفض الفكرة، فقد كان من أولى المهام بالنسبة للوزارة الجديدة تثبيت أقدامها وسلطتها، حيث لجأت إلى إجراء تغيرات واسعة في أجهزة السلطة الإدارية، والدبلوماسية، وإبعاد كافة العناصر المؤيدة للوزارة السابقة.

وفي الوقت نفسه نظمت العناصر الوطنية المظاهرات المؤيدة للحكومة، وكان على رأس تلك المظاهرات السادة [محمد صالح القزاز] وهو من الشيوعيين المعروفين، وشاعر العرب الكبير [محمد مهدي الجواهري ]، وغيرهم من الوطنيين، وتقدمت المظاهرات بمطالب للحكومة تدعو فيها إلى إصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين، وإطلاق حرية الصحافة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي، والعمل على رفع  مستوى معيشة الشعب وضمان حقوقه وحرياته، وتقوية الجيش، ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد، ولم تقتصر المظاهرات على بغداد فقط بل امتدت إلى سائر المدن العراقية.

 

حكومة الانقلابيين تحل المجلس النيابي:

بعد أن ثبتت الحكومة أقدامها، وبسطت سلطتها على كافة أنحاء البلاد، كانت أمامها الخطوة الثانية المتمثلة بحل المجلس النيابي الذي جرى انتخابه على عهد الحكومة السابقة، وهكذا استصدرت الإرادة الملكية بحل المجلس في 31 تشرين الأول 1936، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.

وفي الوقت نفسه تقدمت الحكومة بمنهاجها الوزاري الذي أكد على تعزيز العلاقات بين العراق وجيرانه ومع بريطانيا لما فيه مصلحة الأطراف جميعا،ً وتطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والمرتشية، وتحسين أدائه، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب، وتحسين أحواله الصحية والثقافية، وتوسيع الخدمات العامة، وتنظيم السجون، وجعلها أداة إصلاح للمسجونين، والعمل على تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية، وملافات العجز في الميزانية، وتطوير الزراعة والصناعة في البلاد، وإصلاح الجهاز القضائي، وإعادة النظر في القوانين والمراسيم التي أصدرتها الوزارات السابقة.

كما أكد المنهاج على تقوية الجيش، وتدريبه وتسليحه، ليكون سياجاً حقيقياً للوطن، وإصلاح جهاز التعليم، وتوسيع معاهد المعلمين، وفتح المزيد من المدارس وإلغاء أجور الدراسة المتوسطة والثانوية وجعلها مجانية، وبناء المزيد من المدارس.

وفي واقع الأمر كان لدى الوزارة الجديدة خططاً طموحة لتغير وجه العراق، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل، ومع ذلك فقد استطاعت الحكومة القيام بالعديد من الإجراءات لتحسين الأوضاع فأطلقت سراح المسجونين الذين أدانتهم المجالس العرفية، وأعادت كافة الأموال المصادرة منهم، كما أعادت كافة الصحف التي أغلقتها الوزارات السابقة، وسمحت بدخول الكثير من الكتب التقدمية التي كانت ممنوعة في العهود السابقة، وإعادة الموظفين المفصولين لأسباب سياسية إلى وظائفهم، وأصدرت الحكومة قانون العفو العام.

بكر صدقي يتجاوز الحكومة،ويحكم من وراء الستار:

ما أن احكم بكر صدقي سيطرته على مقدرات البلاد حتى استهوته شهوة الحكم، أراد أن يحكم من وراء الستار، متجاوزاً حلفائه الإصلاحيين [حزب الإصلاح الشعبي] الذين يمثلون الأغلبية في الوزارة، وكان باكورة خطواته الطريقة التي جرى فيها انتخاب مجلس النواب.

فقد عقد بكر صدقي مع فريقاً من ضباطه وعدد من القوميين اجتماعاً في داره لوضع الترتيبات للانتخابات، وإعداد قوائم المرشحين، مستبعداً رفاقه الإصلاحيين، وقد جاءت قوائم المرشحين في معظمها من المؤيدين لبكر صدقي شخصياً، فيما كانت حصة الإصلاحيين أقل بكثير، وقد جرت الانتخابات في 20 شباط 1937، وجاءت النتيجة كما خطط لها بكر صدقي سلفاً.(9)

 

كان منهاج حزب الإصلاح الشعبي يرمي إلى إجراء تغيرات شاملة في حياة الشعب العراقي حيث دعا منهاجه إلى تحقيق ما يلي:

1 ـ إجراء إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي شامل في البلاد.

2 ـ إعادة توزيع الثروة بصورة عادلة.

3ـ  وتفتيت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتوزيع الأراضي على الفلاحين.

4 ـ  التقليل من الفروق الطبقية بين أبناء الشعب.

5ـ  إطلاق كافة الحريات الديمقراطية كحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة، وضمان حقوق الشعب، وحرياته العامة. وقد لقي منهاج الحزب هذا دعما كبيراً من الحزب الشيوعي، ومن عدد كبير من صغار الضباط، ولعب الحزب الشيوعي دوراً بارزاً في تحريك الجماهير للمطالبة بحقوقهم وحرياتهم العامة.

أما بكر صدقي فقد أراد أن يجعل من نفسه[ أتاتورك العراق]، ويحكم البلاد على هواه، وقد ظهر فيما بعد أن تقرب بكر صدقي من الإصلاحيين وضمهم إلى الوزارة كان يهدف من ورائه استخدامهم وسيلة للوثوب إلى السلطة المطلقة، فلما أدرك الاصلاحيون أن الحكومة لا تحكم، وأن الحاكم الحقيقي هو بكر صدقي  لم يكن أمامهم سوى تقديم استقالتهم من الوزارة، وخصوصاً بعد أن أقدم بكر صدقي على استخدام القوة العسكرية ضد انتفاضة العشائر في السماوة في 13 حزيران 1937، ووقوع عدد كبير من القتلى والجرحى، حيث قضت تلك الأحداث على آخر أمل للإصلاحيين من البقاء في الحكم فأقدم السادة جعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، ويوسف عز الدين على الاستقالة من الحكومة، وقد تضامن معهم صالح جبر وقدم استقالته من الحكومة أيضاً، فلم يبقَ في الوزارة سوى وزيرين فقط، هما نوري عبد اللطيف، وناجي الأصيل.

 

وفي الوقت الذي استقال الاصلاحيون من الوزارة، أخذ الاستقلاليون [القوميون] يتصلون ببكر صدقي ويحرضونه على العناصر الماركسية واليسارية التي أخذت شوكتها تشتد، أعربوا له عن استعدادهم الكامل لدعمه إذا ما وقف ضد هذا التيار الجديد،والعمل على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وإبعاد تلك العناصر من البرلمان الجديد، وقد وعدهم بكر صدقي بتحقيق ذلك، وتم ترقيع الوزارة بتاريخ 24 حزيران 1937، حيث دخل الوزارة كل من:

1 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للمالية.

2 ـ عباس مهدي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات.

3 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للعدلية.

4 ـ جعفر  حمندي ـ وزيراً للمعارف.

5 ـ مصطفى العمري ـ وزيراً للداخلية.

مقتل بكر صدقي:

لقي الانقلاب الذي قاده بكر صدقي في 29 تشرين الأول 1936 ترحيباً حاراً، وتأييداً واسعاً من جماهير الشعب العراقي التواقة إلى إجراء إصلاحات حقيقية في البلاد تضمن الحقوق والحريات العامة للشعب، وتصون استقلال البلاد، وتعمل على حل مشاكل البلاد الاقتصادية، والتخفيف من معانات الشعب.

لكن الشعب العراقي أصيب بخيبة أمل كبيرة، بعد أن تبين له أن كل ما يهم بكر صدقي هو السلطة متناسياً ما وعد به الشعب.

وجاءت استقالة الوزراء الإصلاحيين من الوزارة لتزيد من انعزال حكومة بكر صدقي عن الشعب، وسحب الثقة بها، وبذلك فقد بكر صدقي وحكومته أهم عامل دعم وإسناد وهو الشعب.

كان الإنكليز ورجالاتهم من الساسة العراقيين يراقبون الأمور عن كثب، ويتحينون الفرصة للانقضاض على الانقلابيين، فقد كان قلق الإنكليز يزداد يوماً بعد يوم من توجهات بكر صدقي، وجاء زواج بكر صدقي من إحدى الغانيات الألمانيات ليزيد من قلق الإنكليز خوفاً من تقربه من ألمانيا، وأخيراً أخذت الأخبار تتوارد إلى السفارة البريطانية عن عزم بكر صدقي احتلال الكويت مما زاد في قلق الحكومة البريطانية، ودفعها إلى التعجيل في تحركها للخلاص منه بأسرع وقت ممكن.

وجاءت الفرصة المناسبة عند ما قرر بكر صدقي السفر إلى تركيا لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937، واتخذ الإنكليز قرارهم بتصفيته وهو في طريقه إلى تركيا .

غادر بكر صدقي بغداد  في 9 آب بالطائرة إلى الموصل، وكان برفقته العقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية، وكان من المقرر أن يغادر بالقطار ، لكنه أحس بوجود مؤامرة ضده وقرر السفر بالطائرة.

وصل بكر صدقي إلى الموصل، ونزل في دار الضيافة وبصحبته محمد علي جواد، وقد وجد المتآمرون فرصتهم في الإجهاز عليه في الموصل حينما انتقل بكر صدقي إلى حديقة مطعم المطار البعيد والمنعزل، وبينما كان بكر صدقي جالساً في الحديقة مع قائد القوة الجوية محمد علي جواد، والمقدم الطيار[ موسى علي ] يتجاذبان أطراف الحديث، تقدم نائب العريف [عبد الله التلعفري] نحوهم  ليقدم لهم المرطبات، وكان يخبئ مسدساً تحت ملابسه، ولما وصل قرب بكر صدقي، اخرج مسدسه وصوبه نحو جمجمته ، وأطلق النار عليه فقتل في الحال ، ثم أقدم العريف على إطلاق النار على العقيد محمد علي جواد وقتله أيضاً.

 

وتم إلقاء القبض على القاتل، وأوسع ضرباً، وقد أعترف بأن الذي جاء به لينفذ الجريمة هو الضابط [محمود هندي] الذي اختفى بعد مقتل بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد، وتبين فيما بعد أن المتآمرين قد هيئوا عدة مجموعات لقتل بكر صدقيووزعوها على [كركوك] و[التون كوبري ] و [أربيل ] و [الموصل ] على احتمال أن بكر صدقي سوف يمر من إحدى هذه الطرق في طريقه إلى تركيا  وقيل أن العقيد [ فهمي سعيد ] كان لولب الحركة، وأن الضابط [محمود خورشيد] هو الدماغ المفكر لعملية تنفيذ الاغتيال، وسرت شائعة تقول أن ضابط الاستخبارات البريطاني في الموصل هو الذي دبر عملية الاغتيال.

وفي صباح يوم الخميس 12 آب تم نقل جثمان بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد إلى بغداد، حيث شيعا إلى مثواهما الأخير تشييعاً رسمياً سار في مقدمته الوزراء  وكبار الضباط والأعيان والنواب والسفراء.

حاولت الحكومة إجراء تحقيق واسع لمعرفة الذين كانوا وراء عملية الاغتيال، وقد أرسلت لجنة تحقيقية إلى الموصل برئاسة نائب المدعي العام [انطوان لوقا] حيث باشر في إجراء التحقيقات أخذت تلك التحقيقات تتوسع شيئاً فشيئاً مما أثار خوف وقلق الضباط المشاركين في المؤامرة من أن تصل التحقيقات إليهم، فأعلن أمر حامية الموصل [ أمين العمري ] العصيان على بغداد واعتقال النائب العام، وجرى تمزيق أوراق التحقيق.

كما جرى تسريح كافة الضباط الموالين لبكر صدقي وللحكومة في بغداد، وأصدر بياناً يعلن فيه انفصاله عن حكومة بغداد .

ورغم اتصال الملك غازي بأمين العمري، ودعوته له لإطاعة أوامر القيادة العسكرية، إلا أن الانقلابيين أصروا على موقفهم، وطالبوا الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة[ جميل المدفعي ] كما رفضوا تسليم الضباط المتهمين بمؤامرة اغتيال بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد.

 

حاولت الحكومة بدفع من الضباط الموالين لبكر صدقي الزحف بالفرقة الثانية في كركوك إلى الموصل لإخضاع المتمردين على الحكومة. وفي المقابل حاول اللواء أمين العمري استمالة عدد من الوحدات العسكرية الأخرى إلى جانبه، واستطاع الحصول على دعم آمر معسكر الوشاش في بغداد [سعيد التكريتي] وساعده الأيمن المقدم [ صلاح الدين الصباغ ]، كما انضم إليهم آمر حامية الديوانية.

 

وهكذا بدا أن الجيش قد أنقسم على نفسه، وأن الأمور قد باتت خطيرة جداً، وتنذر بوقوع حرب أهلية يكون عمادها الجيش، ولذلك اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها إلى الملك غازي في 17 آب 1937، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم.

إجبار حكومة حكمت سليمان على الاستقالة، وتكليف المدفعي:

سارع الملك غازي بعد استقالة حكومة حكمت سليمان إلى تكليف جميل المدفعي بتأليف الوزارة الجديدة، وكان واضحا أن التكليف جرى بضغط من السفارة البريطانية، وزمرة أمين العمري التي دبرت مؤامرة اغتيال بكر صدقي، حيث طالب أمين العمري الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتكليف المدفعي بتأليف وزارة جديدة، وقد صدرت الإرادة الملكية بتكليف المدفعي في 19 آب 1937، وجاءت على النحو التالي :

1 ـ جميل المدفعي ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للدفاع.

2 ـ مصطفى العمري ـ وزيراً للداخلية.

3 ـ عباس مهدي ـ وزيراً للعدلية، ووزيراً للخارجية وكالةً.

4 ـ جلال بابان ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات والمالية وكالةً.

5 ـ محمد رضا الشبيبي ـ وزيراً للمعارف.

وقد تم إضافة وزيرين جديدين للوزارة هما توفيق السويدي للخارجية، وإبراهيم كمال للمالية، وذلك في 19 آب من العام نفسه.

وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أعلن المتمردون في الموصل إنهاء تمردهم، وعادت الأمور إلى مجراها بعد أن تم التخلص من بكر صدقي وحكومته.

 

وهكذا تبين أن مقتل بكر صدقي لم يكن مجرد حادث فردي، وإنما هو انقلاب عسكري جرى تدبيره بتخطيط من الإمبرياليين البريطانيين،  وأزلامهم العسكريين والسياسيين، وكانت تلوح رائحة الانتقام من كل العناصر التي ساهمت وساندت وأيدت انقلاب بكر صدقي، وكان على رأس أولئك المتعطشين للانتقام نوري السعيد الذي وصل به الأمر إلى اتهام الملك غازي بالتواطؤ مع بكر صدقي .

لقد حاول نوري السعيد الذي عاد إلى بغداد بعد مقتل بكر صدقي، واستقالة حكومة حكمت سليمان، وتأليف الوزارة المدفعية، الضغط على جميل المدفعي، مستعيناً بثلاثة من كبار الضباط هم العقيد صلاح الدين الصباغ، والعقيد فهمي سعيد، والفريق طه الهاشمي، فما كان من المدفعي إلا أن توجه إلى السفير البريطاني يشكوه من تصرفات نوري السعيد، وطلب منه أبعاده إلى خارج العراق في الوقت الحاضر على الأقل، أو القبول بمنصب وزير العراق المفوض في لندن وبالفعل أوعز السفير البريطاني للسعيد بمغادرة البلاد، حيث بقي بعيداً عن العراق حتى تشرين الأول 1938.

كان باكورة أعمال وزارة المدفعي حل المجلس النيابي في 16 آب 1937، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة. كما قامت الوزارة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش المحسوبين على بكر صدقي على التقاعد، وعينت آخرين بدلاً منهم. كما شنت الحكومة في 18 تشرين الثاني حملة شعواء ضد المشتبه بقيامهم بنشاط شيوعي وإحالتهم إلى المحاكم، التي أصدرت أحكاما بالسجن ضد معظمهم .

وفي 18 كانون الأول باشرت الحكومة بإجراء الانتخابات بنفس الأسلوب الذي درجت عليه الوزارات السابقة، حيث تقوم الحكومة بترشيح العناصر المؤيدة لها وتفرضهم على المنتخبين الثانويين فرضاً، وبذلك استطاعت الحكومة إبعاد كل العناصر اليسارية عن المجلس الجديد كما جرى أبعاد جميع العناصرالعسكرية.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular