ضعف الوعي المعرفي، وضيق مجالات الإدراك الجمعي القومي والوطني، السائدة حتى الآن بين أطراف الحراك الكردستاني، السياسي تحديدا، في الجزأين، أدت إلى ديمومة التشتت في جغرافية مجتمعنا، وبالتالي تناثرت إمكانيات أمتنا، كما وعدم تمكن حركتنا الثقافية وعلى مدى العقود الماضية، رغم الجهود المبذولة، من تصحيح مسارات الأحزاب الكردستانية، أو تنوير قياداتهم أو مناصريهم، أو إعادة إنتاجها، جعلتها متهمة أيضا بشكل أو أخر، كأحد المشاركين في كثرة الأحزاب، وبالتالي في تجميد قدرات شعبنا كامنة بدون تفعيل، وعلى أثرهما تخلفنا سياسيا وإداريا وتنظيميا عن القوى الإقليمية المحتلة لكردستان.
وانطلاقا من هذا الواقع الكارثي، والممتد على مدى قرن تقريبا، يتفاءل اليوم الشارع الكردي في جنوب غرب كردستان، مثلما تنفس في جنوبه قبل عقدين من الزمن، على خلفية الأخبار الصادرة من لجان التفاوض، رغم ضبابية مجريات الاجتماعات، والتي تعتبر خطوة نوعية لمستقبل المنطقة، وسيزداد ثقة المجتمع بنجاحها، فيما إذا تصاعدت الضغوطات الخارجية على الطرفين (تف دم والأنكسي) وتم إرضاخهم أو إقناعهم دبلوماسيا للاتفاق على بعض النقاط المتقاطعة مع مصالحهم، خاصة فيما إذا تم توسيع ساحة المشاركة بين الأطراف السياسية.
وعلى الأرجح نحن أمام عملية استباقية لحوارات سياسية ستتم، أو أنها بدأت، ما بين روسيا وأمريكا على سوريا المستقبل، وقد تم التصريح عنها بشكل غير مباشر، من قبل الممثل الأمريكي لسوريا جيمس جيفري، والتي عكست ليس فقط وجهة النظر الأمريكية بل والروسية أيضا، فحتى لو كان ما نذكره هنا تدرج ضمن خانة الاحتمالات والتوقعات؛ لعدم وجود أية بيانات رسمية باستثناء ما ذكرناه، إلى جانب ما تعكسه الإعلام الروسي حول مصير السلطة السورية، ستظل هذه المرحلة، وما يجري حاليا، مصيرية للمنطقة الكردستانية وللحراك الكردي، لخلق نوع من الإدارة السياسية والعسكرية، تعكس إرادة الشعب؛ وليست الأحزاب.
المؤشرات على مجريات الأحداث على الساحة السورية، وتحركات القوى الإقليمية، والتصريحات الصادرة من البيت الأبيض، ومن الإعلام الروسي غير الرسمي (في الواقع معظم الإعلامي الروسي ممنهج) توضح أن قادم المنطقة الكردية لن يحل بدون اتفاقيات على معظم المستويات السياسية والإدارية والعسكرية بين معظم أطراف الحراك السياسي الكردستاني.
فعدم اعتراض (جيمس جيفري) على بقاء روسيا في سوريا مع الطلب من كل القوى الأخرى إخلاء جغرافية سوريا، إلى جانب موافقته وتبريره للبقاء الروسي؛ وقانونية وجودها والتفرد بمسيرة إعادة بناء سوريا القادمة، تحت خيمة تبريرات تاريخية؛ النابعة من العلاقة الروسية السورية القديمة، تبين أن الأمريكيين على قناعة أن روسيا هي الوحيدة القادرة على تنفيذ ما طالب به جيمس جيفري، بدءً من إخراج القوات الإيرانية والتركية، وتوابعهما، إلى تغيير النظام في سوريان وإيجاد حل للمعارضة التكفيرية الإسلامية، لذلك يحلل التصريح على أنه خدعة دبلوماسية أمريكية على روسيا قبل أن تكون تهديدا للدول المعنية، ولا شك روسيا مطلعة على ما تم، وعلاقاتها مع كل من تركيا من جهة ومحاربة القوات الداعمة بيد الميلشيات الإيرانية من جهة أخرى، وخلق التوازن بين أدوات الطرفين ضمن سوريا رسالة مماثلة لأمريكا، كمحاولة لإضعاف دورها في حال بدأت الحوارات السياسية بينهما، وعلى خلفية هذه الجدلية ركزت أمريكا على توحيد الصف الكردي كقوة مساندة لوجودها مقابل الوجود الروسي.
وعلى خلفية الرسائل الإعلامية المتبادلة، أوجد جيمس جيفري وبخدعة دبلوماسية شرعية قانونية لبقاء القوات الأمريكية في شرق الفرات، أي عمليا في سوريا، إلى مدة غير محددة، بعدما ربطها بعدة أسباب لن تزول ربما لعقد قادم، وهذه تبين أن أمريكا لا رغبة لها بالخروج من سوريا، رغم التصريحات المتضاربة بين البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية، حول إشكالية النفط، ومصيرها، وعلاقتها بقوات(حسد) وبناء على هذه المعطيات، فإنها القوات الأمريكية ستظل، وستعمل كل ما بوسعها لترسيخ أداتها الوحيدة، أو الأكثر مصداقية، وإقامة إدارة سياسية فيدرالية معترفة بها دوليا، أو مشابهة لما تم في جنوب كردستان.
ونحن هنا نتكلم عن جغرافية كردستانية، والتي على أثرها تم الاتفاق بين الطرفين الكرديين على نقطتين؛ سوريا الإتحادية، والبند المتعلق بجغرافية الديمغرافية الكردية، والتأكيد على أن المنطقة الكردية وحدة جغرافية متماسكة، وتعني الممتدة من عفرين إلى ديركا حمكو، النقطة التي حاورنا عليها، وكتبنا فيها مرارا، وعلى مدى أكثر من عقد، نقدنا فيها مفاهيم وكتابات العديد من قيادات الأحزاب الكردية، الذين بلغ بهم حد نشر مقالات ساذجة ومطعونة فيها، بلغ ببعضهم القول أن المنطقة الكردية منقسمة إلى ثلاثة أجزاء، وعلى أن هناك انفصال ديمغرافي، الإشكالية التي أستند عليها الأعداء للطعن في ديمغرافيتنا ومن ثم في البعد التاريخي لجغرافية جنوب غرب كردستان. وفي حال تم إقامة التكوين الجغرافي الموحد المذكور، تكون الولايات المتحدة قد أعطت مبررا قانونيا دوليا لبقائها إلى الفترة المرغوبة.
في الواقع السياسي مثل هذه العلاقات الكردستانية الداخلية، تظل مركز شك، ولا ثقة بديمومتها، فيما لو لم تتم اتفاقيات بين الدولتين الكبريين، ولم تستمر الضغوطات الخارجية، أو يتم تثبيت الوجود الأمريكي في شرق الفرات، وبالتالي يتم العمل على تكوين حراك يمثل الشعب الكردي، عن طريق توسيع الحوارات الكردية القادمة، والتي سيكون لها ثقلها على مستقبل سوريا السياسي والإداري.
فمثلما لا تهدأ السلطة الإيرانية بالتدخل في مجريات الأحداث السياسية والإدارية في جنوب كردستان، وعن طريق إدارة السليمانية، والتركية على الطرف الأخر، فإنهما ومعهما سلطة بشار الأسد لن يقفوا مكتوفي الإيادي أمام ما يتم من التقارب بين الأطراف الكردية في جنوب غرب كردستان. لكن ولكونها تتم بموافقة روسية غير مباشرة؛ فلن تكون لسلطة الأسد أهمية تذكر، ولكن بالمقابل سيظل الخطر الإيراني قائما، ما دامت تتواجد في المنطقة، ومثلها الدور التركي الأخطر، والمتوافق من جهة مع الإيراني والمتعارض معها من جهة أخرى.
ومن جهة أخرى فصمت حكومة أردوغان حيال مجريات الأحداث والحوارات وهي لا تزال في بداياتها، تخلق شكوك، منها، إما أنها مطلعة على ما يجري من خلال الممثل الأمريكي، أو من جهات قريبة، أو أنها على اتفاق مع الدولتين الكبريين على ما يتم، وبالتالي المخطط الجاري في شرق الفرات، تتجاوز إمكانيات التآمر مع إيران لعرقلة مسيرة التوافق، أو الضغط على الدولتين بتقديم تنازلات لهما، وضرب مصالحهما في المنطقة.
فالمنطقتين الكردستانيتين، يواجهان مرحلة مصيرية، وحساسة، ومعظم الظروف مناسبة، لخلق إدارة ديمقراطية متطورة، يكونا مثالا للأنظمة الإقليمية المجاورة، وجلها تعتمد على مدى وعيهم وإدراكهم لمجريات الأحداث في المنطقة، وفي الواقع بإمكاننا كحراك كردستاني خلق نظام إداري؛ يكون المثال لأنظمة الشعوب المجاورة، وقدوة يهتدى، أو أن تهدم ذاتها وتؤخر مستقبل الأمة إلى عقود قادمة، وبالتالي تستمر المنطقة على صراعها التاريخي السابق، وبين الحالتين خطوة، والأحزاب الكردستانية في الطرفين مسؤولة عن هذه الخطوة؛ أمام الشعب والتاريخ في حال الفشل أو النجاح.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
3/5/2020م