قبل خمس وسبعون سنة من الآن حدث في قرية (السكينية العليا) أن تأهب الأب ليرافق القافلة الذاهبة إلى بلدة (شنكال) لجلب بعض المواد الغذائية البسيطة لعائلته، فبعد أيام سيبدأ موسم الصيام الشتوي وكما جرت العادة وإلى يوم الناس هذا تستقبل (أيزيدخان) بقلوب فرحة ومطمئنة أيام صومها وتتسوق اللحوم والفواكه والحلويات بما تسمح بها ميزانية العائلة. سأل الطفل والده:
“ماذا ستجلب لنا من “شنكال يا أبتي”؟ فقال الأب لطفله:
“تمرا يا ولدي، وهو ألذ من الحلاوة”. فرد الطفل ببراءة:
“إذن سأنتظرك حتى تأتي بالتمر، وسآكله كله “. وتأخرت القافلة عن موعد رجوعها، وتأخر الأب، وجنّ الليل، وتعب الطفل من الانتظار فنام جائعا كمعظم لياليه، وفجأة دخل ربّ البيت كشبح فالت من مقبرة بعيدة وألقى بحمله من التمر، ثم أنهض فلذة كبده؛ ليأكل، فلم يطاوعه قلبه أن يبقى جائعا حتى لو كان نائما، ويوجد في البيت طعام.
أكل الصغير حتى شبع وآلمه بطنه، ثم أخذ يبكي، فسأله أبوه:
” لماذا تبكي يا صغيري”؟ فردّ قائلا وهو يشير إلى التمر:
” لو لم أنم لأكلت التمر كله “. وذهبت هذه الحادثة الطريفة بين الأب وابنه مثلا تتداوله الناس إلى الآن، وفيه مدلولا نفسيا كبيرا، وحكمة لا تخفى.
سابقا كانت للأيام طعم مختلف، فكيف إن قبل وقت الصيام، كنا مرتاحي البال ولم نعرف من البصرة أنها الأولى عالميا في انتاج التمر وتمرها هو الأطيب منذ أن باركها أوتنابشتم بعد الطوفان الكبير، ولم يكن يهمنا كورنيشها وشارع العشار وأشعار السيّاب وآهاته بعيدا عنها في مستشفيات المدن الغريبة، كل ما يهمنا كانت التمور التي ترسلها بأقفاص جميلة صنعت بأنامل سومرية من سعف وجريد وزنابيل يسيل على حوافها الدبس؛ ليكون سيد الطعام على موائدنا طوال الشتاء، وكان أصحاب (الحلال) في قريتنا يشترون أكياس التمر المخصصة للعلف الحيواني بالجملة من (هادي الرومي) عندما يلف بها القرى باللوري، وقبل أن يعطوها لأغنامهم يلتقطون منها تلك التي تصلح للأكل فهم أولا ثم تأتي الحيوانات، أما نحن الأطفال فكانت عيوننا تتسمر على حمرة التفاح اللبناني وكلّ تفاحة تشبه خدّ فتاة شنكالية عاشقة، كانت كلّ تفاحة ملفوفة بورق أرجواني في صناديق من خشب تفوح منها رائحة يمكن للمرء أن يتناول خبزه الشعير عليها مع طاسة من ماء السكينية.
في أيام السكينية العجاف لم نتعرف على معظم أنواع التمور فكانت أرخصها هي التي تهمنا، ولاحقا في أيام الحرب مع إيران كان يجلب لنا شقيقي (أبو سمير) أنواع جديدة وغريبة بل كانت مكبوسة بالسمسم، ونفس تلك الحرب جعلت من البصرة أن تكون في ذيل قائمة منتجي التمور فقد استشهدت النخيل مع الجنود بنيران الطرفين المتحاربين.
تغريدي هذا تضامنا مع البصرة وأهلها وتمرها ونخيلها وبلابلها عندما تنقر التمور فجرا وتضع فيها الماء ثم تأتي مساء لتشرب منها وقد تحول إلى عصير متخمر فتغرد نشوى، هل رأيتم أجمل من هذا الفعل، يحدث هذا في غابات نخيل البصرة دون مدن العالم، البصرة وحدها تغني مع بلابلها والناس يسكرون بتمورها.
أما التفاح فيوجد منه في العالم حوالي 7500 نوع والفرد يحتاج 20 سنة لكي يتذوق كلّ يوم نوع واحد منها.
في ألمانيا التفاح في كلّ مكان وتتفوق على غيرها من البلدان في الترويج لفوائد التفاح كغذاء يومي للفرد؛ لذا كل أسبوع نجلب تفاحا مختلفا من السوبر ماركت ولكن للآن لم اصادف ذلك الطعم وتلك الرائحة القادمة من جبال لبنان إلى جبل شنكال أيام الصوم.
ماذا لو قلت لكم في النهاية لو لم ننم عند وصول “التمر والتفاح” عام 2003 مع الدبابات الأمريكية لأكلنا منه نحن الأيزيدية أيضا ـ وإن كان هذا لغزا، فالألغاز عادة تحّل بعد مضي قرن عليها!
*******
رائع وشيء من الحياه كلنا قد اخذنا حصتنا منها ولبحزاني نت الموفقيه
ولك الشكر على الأهتمام أخي الكريم (خدر) وتأييدك مقالتي وإلى حكاية قادمة.