من المستغرب أن تتجاهل وسائل الإعلام المحلية في العراق فكرة التقصي عن الحياة الشخصية لرئيس الحكومة السابع بعد عام 2003 مصطفى الكاظمي، لا الحياة المهنية، كون الأخيرة باتت معروفة، فهو ليس أكثر من صحافي مغمور ثم باحث إلى جهاز المخابرات بغموضٍ كثير إلى رئاسة حكومة البلاد العجيبة بمشاكلها وأزماتها اللا نهائية.
نجد في الإعلام الغربي بعض الصحافيين لا يركزون كثيراً على كتابة تقارير ترتبط بالمنهاج الحكومي مثلاً للرئيس الجديد، أو أهدافه التي سيسعى لتحقيقها، أو تاريخه الحزبي، إنما تنشغل بالتعرض لتفاصيل أكثر جاذبية مثل هواياته، إن كان عصبي المزاج أم هادئ، يحب عروض السيرك، يمارس الرياضة الصباحية أم لا، وماذا يقرأ وغير ذلك، مثل هذه المواد الصحافية تساعد الناس على فهم شخصية الحاكم الجديد.
في العراق، لا تعمل الصحافة بهذا الجانب، ليس لأنها أقل من انجاز هذه الملفات، بل لأن غالبية المؤسسات الإعلامية لا تفكر بتثقيف الناس بمعلومات شخصية واستقصائية، لكنها تلتزم بالتثقيف السياسي للنظام الحاكم، طالما أنها جزء منه.
واقعياً، ومن خلال التجارب السياسية التي توالت على العراق عقب الإطاحة بنظام صدام حسين، فالرئيس لا يحكم وفقاً لمسيرته المهنية، بل بأصوله الفكرية والعقائدية، والحال ينطبق ـ وهذا مثال ـ على نوري المالكي، صاحب التجربة الطويلة في المعارضة السياسية والعسكرية ضد حزب البعث، لكنه لجدارة في حكومتيه، والسبب أصوله الفكرية والعقائدية الطائفية.
نفس الأمر ينطبق على حيدر العبادي الوديع ابن الكرادة والمعارض لصدام، وبالرغم من تاريخه المناوئ للبعث، إلا أنه فشل في احتواء تفاصيل قد تكون من أبسط المشاكل التي تواجه الحكومات، مثل التظاهرات السلمية، وقد تحوّلت احتجاجات مئات المواطنين في البصرة عام 2018 إلى مجزرة، ليس لأن العبادي فاقد الأهلية والحكمة، بل لأن أصوله إقصائية ولا تقبل بالآخرين، فكيف إذا كانوا الآخرين يهددون سلطته؟
ويمكن أخذ عادل عبدالمهدي مثالاً على أن الأصول هي الحاكمة وليست الدساتير والقوانين، فمن بعثي إلى شيوعي أممي إلى إسلامي، ومع هذه التقلبات الفكرية والمعرفية التي رافقت تحولاته، لم تصنع حاكماً حكيماً، بل تورط أكبر سياسي في البلاد عمراً وأكثرهم توغلاً بالعمل السياسي بصناعة أقسى حقبة دموية في تاريخ العراق الحديث بعد احتلال تنظيم “داعش” لمدن شمال وغرب البلاد، جرّاء فشله باحتواء تظاهرات أكتوبر.
الأصول الفكرية تُخلق من القراءات، والعقائد كذلك، حتى وإن كانت الأخيرة تسندها الوراثة غالباً، إلا أن القراءات هي ما تؤثر فيها تجذيراً أو خلخلة، والقراءات هي أصل الإنسان، بل ونوعه أيضاً. فمثلاً، لم يكن من الصعب معرفة الأسباب التي دعت عبدالمهدي إلى توريط القوات العراقية بالاصطدام مع المتظاهرين، لأن عبدالمهدي “البعثي ـ الشيوعي ـ الإسلامي” قادر على اتخاذ قرار أخطر من ذلك، كأن يكون “إبادة” لمجتمعٍ كامل، وليس المقصود عبدالمهدي الرجل، بل بما يحمل هذا الرجل من أفكار تقودهُ ولا يقودها.
أما الكاظمي، فلا نعرف حتى الآن أي شيء عن فكره، وماذا كان يقرأ أو ماذا يقرأ الآن، لا نعرف عنه غير أنه الصحافي الذي صار رئيساً، كيف ولماذا، لا نعرف أيضاً، ولكن ما يهم حقاً: هل سيورّط العراق بمتاهات وخسارات ولعنات كما الذين سبقوه؟.
لعل أبرز ما لم تأخذ به وسائل الإعلام في العراق، خلال الأيام الماضية، هو أول تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” عقب منح الثقة في البرلمان لحكومة مصطفى الكاظمي، قالت فيه إنه الحل للوضع الراهن، وأن الكاظمي لديه علاقات واسعة في الأوساط العربية والغربية، وأهم ما ورد في التقرير، أنها نقلت عن زميل سابق له بالعمل والدراسة، قوله إن الكاظمي “علماني ليبرالي”.
كتب محمود درويش في “أثر الفراشة”: ليس السؤال متى، بل: لماذا وكيف؟. بمعنى لا يهمنا حالياً متى صار علمانياً ليبرالياً، بل المهم لماذا وكيف، وهل لا يزال؟.
يُعرف عن الكاظمي صداقته بالشاعر مظفر النواب، والأخير معروف بأنه يساري شرس، بل من أشد المعادين للأحزاب الدينية، ويُعرف أيضاً عن الكاظمي قربه من الوسط الثقافي والحركات التنويرية وكونه باحثاً بالتراث العراقي، ويعرف عنه صحافياً.
قطعاً، لا يمكن اعتبار هذه السيرة الفكرية الضئيلة كافية لتقييمه والتبنؤ بسلوكه المستقبلي في التعامل مع الأزمات العراقية، ولكن هذا القليل الذي نعرفه يكفي للتأكد من أنه ليس إسلامياً، وطالما أنه ليس كذلك، فهو غير إقصائي بالضرورة.
لا يريد العراقيون في الفترة الحالية العمل بالقول “تكلم حتى أراك” المنسوبة لسقراط، وتحديداً مع الكاظمي، لأن زمن الخطابات الرنانة انتهى مع ابراهيم الجعفري، ولأن الكاظمي يعاني أصلاً من عسر في الكلام وخلل مزمن في نطقه، لذلك فعلى العلماني الليبرالي، صديق الشعراء والمثقفين التوجه نحو الميدان، “افعل حتى أراك”.